قطعت الجزائر أشواطا كبيرة في مجال تطوير قطاع العدالة بصفة عامة، والقضاء بصفة خاصة، وتتطلع إلى تحقيق المزيد من المكاسب في هذا المجال، خاصة ما تعلق بإصلاح العدالة والتنظيم القضائي وتعزيز استقلالية القضاء، بما يتماشى وتطبيق القانون وضمان حقوق الجزائريين وحرياتهم.
وجاء هذا تماشيا مع الأحكام الدستورية، التي تضمن حماية الحريات الفردية والجماعية في إطار احترام حقوق الإنسان، وفقا للمعايير الدولية، وهو ما يتجسّد اليوم على أرض الواقع، من خلال القوانين التي تُصدر وتُعدل بقبة البرلمان بغرفتيه والتي حملت إصلاحات عميقة تتماشى والمرحلة الجديدة وتواكب المتغيرات الدولية المتسارعة.
إصلاح العدالة جاء بتشخيص دقيق للوضعية واقتراح تدابير وأعمال مناسبة لإرساء قواعد نظام قضائي صلب وفعال، قادر على الاستجابة لتطلعات المواطن وعلى المساهمة في بناء دولة القانون، والهدف من وراء ذلك تصالح المواطن مع مؤسسات بلاده وخاصة استرجاع ثقته في العدالة، وعليه فإنّه، مباشرة بعد تقديم نتائج وتوصيات اللجنة الوطنية لإصلاح العدالة، أيّ بعد سبعة أشهر من تنصيبها، أعدت وأدرجت مشروع طموح لإصلاح العدالة.
عرفت العدالة بصفة عامة خلال فترة استقلال الجزائر محاور عديدة أهمها مراجعة المنظومة التشريعية، تنمية الموارد البشرية، عصرنة العدالة، إصلاح السجون، إصلاح العدالة ومواكبة الإصلاحات الاقتصادية، الإجراءات العملية للتنظيم الداخلي للعمل القضائي، العلاقات مع المنظمات الدولية المختصة بحقوق الإنسان.
وتمت مراجعة المنظومة القانونية المتعلقة بتأطير الحريات والحقوق الأساسيـة واستقلاليــة القضاء وتحسين أداء الجهاز القضائي، بما يسمح تقريب العدالة من المواطن وجعلها
أكثر نجاعة وسرعة، وكان لإصلاح العدالة الدور الأهم في مواكبة الإصلاحات الاقتصادية، وتم، في هذا الإطار، تعديل قوانين عديدة تتماشى والراهن، على غرار القانون المتضمن قانون الإجراءات الجزائية، وهذا مواصلةً للجهود التي تبذلها الدولة لحماية المال العام..
عدل قانون العقوبات، جاء لدعم الترسانة القانونية، وأصدرت العديد من النصوص التشريعية على غرار القانون المتعلق بالمساعدة القضائية، حيث تمثل الهدف من التعديل في تسهيل اللجوء إلى العدالة للمعوزين وتكفل الدولة بدفع أتعاب المحامي الذي يعين في هذا الإطار.
وقد تعزّز الإطار التشريعي المتعلق بالحقوق والحريات، حيث حظيت مسألة تعزيز الحقوق والحريات بمكانة خاصة في برنامج إصلاح العدالة، تجسّدت في تعديل الإطار التشريعي لممارسة هذه الحقوق.
وأصدرت أيضا قوانين تقرب العدالة من المواطن، وأعيد النظر في التنظيم القضائي، حيث كرس مبدأ ازدواجية القضاء المنصوص عليه دستوريا وحدد كيفيات تنظيم وسير الجهات القضائية واحتفظ بمبدأ التقاضي على درجتين ومبدأ الفصل بقاضي فرد على مستوى الدرجة الأولى والفصل بتشكيلة جماعية على مستوى الجهات القضائية الأخرى وحدّدت تشكيلة كلّ جهة قضائية وكيفيات عملها.
وأعيد النظر كلية في شكل ومضمون قانون الإجراءات المدنية، وذلك من خلال تتبع مسار الدعوى المدنية ابتداء من رفعها ثم سيرها ومتابعتها أمام الجهات القضائية إلى غاية صدور الحكم الفاصل في النزاع وتنفيذه، وتبسيط إجراءات التقاضي بجعلها أكثر مرونة ووضوحا، وأقل تكاليف وذات مصداقية لإرساء عدالة فعالة تضمن الفصل في النزاعات في آجال معقولة في ظلّ احترام حقوق الدفاع، والوجاهية في التقاضي.
ولحدّ الساعة، لا يزال البرلمان بغرفتيه يشرع في القوانين المتعلقة بالعدالة، وكان وزير العدل حافظ الأختام عبد الرشيد طبي، قد تحدث عن إحداث ثورة في الإصلاحات، من خلال جملة من النصوص للتشريعية المحالة على غرفتي البرلمان، خلال العهدة التشريعية التاسعة له، تناغما وأحكام دستور 2020.
القضاء على تركة الاستعمار
بيــان نـوفمبر .. مرجعيـة القضـاء الجزائـري خلال الثورة
يؤكد الدكتور محمد غربي، أستاذ مشارك بقسم التاريخ بجامعة الجيلالي ليابس بسيدي بلعباس، في مقال بعنوان “القضاء أثناء الثورة”، نشر بالمجلة المغاربية للدراسات التاريخية والإجتماعية عام 2009، أنّه قبل فترة الاستقلال عرفت الجزائر تطورا لافتا للقضاء في تاريخها النضالي ضدّ الاستعمار الفرنسي، فبتاريخ 5 جويلية 1830، وعقب الغزو مباشرة، وقعت فرنسا اتفاقية تعهدت بموجبها باحترام تقاليد وعادات وشريعة الجزائريين وأموالهم، وأبقت على بعض الوظائف، التي كان يمارسها الجزائريون مع تعديل وتقليص مهامهم، سواء في المجال الإداري (الشيخ، الآغا، القايد) أو في المجال القضائي (القاضي الشرعي، الباش عدل، العدل والوكيل).
ويوضح الدكتور غربي، أنّه بموجب أمر 1841، أدّى تطبيق قوانين الأمن في الجزائر إلى الفصل بين القضاء المدني والقضاء الجزائي، حيث أصبح القضاء المدني من اختصاص الجهات القضائية الإسلامية التي تطبق الشريعة الإسلامية والأعراف المحلية. بينما خول القضاء الجزائي للمحاكم الفرنسية والموظفين المدنيين والعسكريين الذين يطبقون القوانين الفرنسية.
ومن أجل الحكم في المسائل المتعلقة بتفسير القرآن، أنشأت فرنسا الإستعمارية مجلسا أعلى للقانون الإسلامي يتكون من خمسة علماء، يستشيره قضاة الاستئناف ويعتمدون كلّ ما يقرره.
وكان القاضي الشرعي يعقد جلساته في المحاكم، التي كان اختصاصها يختلف من منطقة إلى أخرى. فإذا كانت محاكم جنوب البلاد تختص في المنازعات التي تقوم بين الجزائريين، فقد اقتصر نظر المحاكم الواقعة في الشمال الجزائري الأحوال الشخصية والمواريث والمنازعات المنقولة ذات القيمة البسيطة. إضافة إلى ذلك، كانت هناك محاكم تطبق المذهب المالكي، وأربعة محاكم إباضية، في كلّ من غرداية والجزائر ومعسكر قسنطينة. بينما فرضت على سكان بلاد القبائل المقاضاة أمام المحاكم الفرنسية حتى في الأحوال الشخصية بدعوى احترام أعراف القبائل.
ودعا مسؤولون فرنسيون خلال تلك الحقبة إلى وضع تشريع مناسب، ليكون القانون في خدمة الاستيطان، ولتمكين المستوطنين من تحقيق مآربهم الاستعمارية من خلال التشريعات المتمثلة في فرض غرامات مالية على الجزائريين بهدف التخلي عن أراضيهم الغابية، لحرمان الفلاح الجزائري من أرضه المورد الأساسي لرزقه. ومنع غنمه من الرعي، وقد أرهق الجزائريون بمختلف أنواع الضرائب منها: الضرائب العربية: ضريبة الزكاة على الماشية والعشور على المحاصيل الزراعية، إلى جانب الضرائب الفرنسية: المباشرة وغير المباشرة.
وقد انعكست هذه التشريعات الفرنسية -يقول أستاذ التاريخ- سلبا على المجتمع الجزائري، فتفككت بنيته الاجتماعية والثقافية، وتحطمت قياداته وعائلاته الكبرى. وتكونت طبقة فقيرة كادحة، تحولت إلى خماسين ومساكين. ونزحت نحو المدن وعانت من ظروف اجتماعية وثقافية قاسية”.
وانقسمت مبادئ التشريع الفرنسي الاستعماري إلى نمطين، أولا تشريعات فرنسية عادية خاضعة لمبادئ القانون الفرنسي، تطبق على أوربيي الجزائر فقط. ثانيا تشريعات فرنسية استثنائية تعد بالآلاف، تطبق على السكان الجزائريين الذين أطلق عليهم اسم “الأهالي”. وقد ظهر ذلك جليا عند قيام ثورة الفاتح نوفمبر 1954، حيث حرم المجاهدون من الاستفادة من الضمانات الواردة في اتفاقية جنيف، وضمانات القانون العام.
القضاء أثناء الثورة …. القطيعة مع الممارسات الفرنسية السابقة
ما إن اندلعت ثورة الفاتح نوفمبر 1954، حتى ألزمت جبهة التحرير الوطني كلّ من تقلّد وظائف حكومية فرنسية بما فيها المناجم والمزارع الفرنسية، والمناصب السياسية مثل القايد والباشاغا، بتقديم استقالاتهم، وأصدرت أمرا إلى الجماهير بالتخلي عن البدع مثل زيارة الزوايا والمشايخ والمشعوذين، وكلّ ما يتنافى ومبادئ الإسلام الحنيف، وإلا طبقت عليهم عقوبات صارمة، كما سارعت إلى قطع كلّ علاقة كانت تربط الجزائريين بالمحاكم الفرنسية.
فقامت بمنع الجزائريين منعا باتا من دفع الضرائب إلى الخزينة الفرنسية، واللجوء إلى المحاكم الفرنسية في أيّ نزاع يقع بينهم. وصدر قرار من جيش التحرير الوطني، بإيقاف كلّ المنازعات السابقة التي كانت معروضة أمام هذه المحاكم، ما يدل على تمسك جبهة التحرير الوطني بالسيادة الوطنية، وإحداث قطيعة كلية مع الممارسة الفرنسية المتسمة بالازدواجية، التي عمل الاستعمار ومنظريه على تكريسها.
مرجعية القضاء خلال الثورة
استمد القضاء الجزائري خلال الثورة التحريرية الكبرى مرجعيته من مبادئ لم يحد عنها، أولها الشريعة الإسلامية، والتي شكلت المصدر الأساسي لقانون الثورة لكونها كانت منطلق سلوكات الجزائريين الدينية والدنيوية. وركيزة لدفع الجماهير إلى الوحدة والالتفاف حول الثورة ومؤازرتها، لذلك انطلقت العقوبات من مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية منها القتل المتعمد والكذب وشهادة الزور والنميمة وتناول الخمر وجريمة الزنا، والسرقة ولعب القمار والاغتصاب والشذوذ الجنسي…
كان بيان الفاتح نوفمبر أهم مرجعية للقضاء الجزائري خلال الثورة التحريرية المباركة، حيث حدد مبدأ قانونيا هاما وهو العدالة والمساواة دون تفرقة، على أساس عرقي، أوديني، أو لغوي ولم يكتف بهذا وإنّما قرر إحداث قطيعة نهائية مع الممارسة الاستعمارية لأنّ إحداث القطيعة مع الأنظمة المنبوذة قاسم مشترك بين الثورات الإنسانية الكبرى في العصر الحديث.
كما كان مؤتمر الصومام : الذي أكد أنّه: “ ليس من حق أيّ ضابط مهما كانت رتبته العسكرية أن يحكم بالإعدام على شخص، إذن يجب تشكيل محاكم… “، ويضيف بأنّ: “ الذبح ممنوع منعا باتا .. وللمتهم الحق في أن يختار من يدافع عليه”، وثيقة الصومام من أهم مراجع القضاء خلال الثورة التحريرية.
هكذا كان تنظيم القضاء خلال الثورة التحريرية
لكي تستمر الثورة في أداء العمل القضائي، ولتفرض الانضباط الثوري خاصة وأنّ أيّ تلاعب أو إخلال بالواجب يفقدها مصداقيتها، أنشأت الثورة اللجان القضائية، التي تتكون من لجان خماسية، ينتخب أعضاؤها من أفراد الشعب الذين تتوفر فيهم الكفاءة والاستعداد القضائي. وكانت موزعة على الأقسام، وكلّ قسم يشمل قرية أو اثنين، ودواوير يتراوح عددها بين الستة والعشرة. وغالبا ما كان مكوث هذه اللجان يدوم حسب المشاكل المطروحة عليه.
وشكلت الشريعة الإسلامية الرصيد المرجعي لهذه اللجان الشرعية من أجل تنظيم الجزائريين وتوحيدهم نحو الهدف المنشود، وهو استعادة السيادة الوطنية المغتصبة، ضمان العدالة الشعبية، والتكوين النفسي للمجاهدين، الذين كانوا ملزمين بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، لتعلقهم بها إلى جانب تعبئة الجماهير حول جبهة التحرير الوطني، وتشجيعهم في القرى والأرياف للالتحاق بالثورة.
أنشأت المحاكم المدنية، حيث شملت اختصاصاتها القضايا المدنية وبعض القضايا الجزائية مثل الامتناع عن دفع الاشتراكات وعدم الاستجابة للاستدعاء الموجه من جبهة أو جيش التحرير الوطني دون عذر جدي.
وقد أنشئت المحاكم الثورية، إذا كانت جبهة التحرير الوطني قد خولت النظر في الجرائم البسيطة للجان القضاء والمحافظ السياسي، وأوكلت النظر في الجرائم الأخرى للمحاكم الثورية، التي تختلف تشكيلتها باختلاف صفة المتهم، (مدني أو عضوي جبهة التحرير الوطني ورتبته)، وتنقسم إلى أولا المحاكم الثورية المختصة بجرائم المدنيين: وأنشئت في كلّ النواحي، للنظر في الجرائم الجسيمة التي يرتكبها المدنيون مثل الجوسسة لصالح العدو.
إلى جانب المحاكم الثورية المختصة بجرائم العسكريين، إذا كان الخطأ الذي ارتكبه الجندي بسيطا، يحاكم في الكتيبة التي ينتمي إليها، سواء بتجريده من سلاحه أو فرض ساعات إضافية للحراسة.
وفي الحالات الأخرى، في حال المتهم إلى إحدى المحاكم، أولا محكمة الناحية، حيث يقاضي أمامها الجندي أو ضابط صف إذا ارتكب جريمة جسيمة، ثانيا محكمة المنطق، إذ يقاضي أمامها الضابط الذي يرتكب جريمة، وتشبه تشكيلتها، تشكيل محكمة الناحية، ويرأسها مسؤول المنطقة، أما الضباط السامون، فكانت تنشأ محاكم خاصة بهم.
وأنشئت المحكمتان الثوريتان ما بين الولايات، وهما أعلى الجهات القضائية في الدولة، تتواجدان على مستوى الحدود الغربية والشرقية وتختص في الفصل في أول وآخر درجة في الجرائم المرتكبة، سواء كانت بسيطة أوجسيمة داخل أو خارج الجزائر.