تستوقفنا ذكرى استرجاع السيادة الوطنية للحديث عن معارك قادتها ومازالت تقودها الجزائر من أجل حماية الموروث الثقافي وصيانة الهوية الوطنية وزرع روح الفخر والاعتزاز والانتماء إلى الوطن في كل الأجيال.. موضوع فتحت “الشعب” النقاش حوله مع الأديب والقاص زين الدين بومرزوق، فكان هذا الحوار..
“الشعب”: عانى الشعب الجزائري طيبة 132سنة من حرب طمس الهوية ومحو الذاكرة بكل الوسائل والطرق الخبيثة والهمجية، كيف كانت مقاومة الجزائريين للبطش الفكري الاستدماري؟
الأديب زين الدين بومرزوق: شكرا لجريدة “الشعب” على إتاحة هذا الفضاء للحديث والخوض في أهم الإشكالات التي واجهت الشعب الجزائري بعد الاستقلال، وهي المحافظة على هويته الثقافية التي كانت حصنا منيعا لهذه الأمة منذ عصور، ضد كل محاولات التهجين والطمس من قبل الحملات التي مرّت على هذه الأرض، وآخرها الاستعمار الفرنسي الغاشم الذي جثم على هذه الأرض الطيبة لما يقارب قرن ونصف من الاحتلال والاستدمار. ويعتبر الاستعمار الفرنسي من أبشع ما عرفت البشرية من احتلال بسبب تعمّده القضاء على كل ما يرتبط بهوية الشعوب المحتلة، وبمقوماتها وبانتمائها، ولقد عمل بكل الوسائل على طمس الصورة الجميلة التي عرف بها الشعب الجزائري من تلاحم وتضامن ومحبة في كنف السلم والازدهار، حيث يذكر المؤرخون أن عدد الجامعات التي كانت متواجدة بالجزائر تنافس تلك الموجودة في أوروبا وشمال إفريقيا، ونذكر منها جامعة قسنطينة جامعة مدينة الجزائر وتلمسان ومازونة وبسكرة، حيث كانت تضمّ آلاف الطلبة، ونفس الأمر يتعلّق بالمدارس الابتدائية والثانوية. حيث اعتمد المستعمر خطة هدامة بوجهين.. نشر الأمية بالقضاء على كل المدارس التعليمية بأطوارها الثلاثة بالإضافة للمدارس القرآنية، وتضمن الأمر أيضا محاولات اجتثاث الثقافة الوطنية، بالإضافة إلى سياسة التجويع والتهجير وانتهاج سياسة الأرض المحروقة في كل شيء، فقط من أجل طمس الهوية الوطنية.
كيف تمكنّت الجزائر من استرجاع هويتها الثقافية بعد الاستقلال في ظلّ محاولة المستعمر الفرنسي ضرب المؤسسات الثقافية للمجتمع الجزائري؟
كان لزاما بعد الاستقلال الانتهاء من تثبيت المؤسسات الوطنية والتفكير في التوجّه نحو التنمية، وأدرك المسؤولون حينها أن ذلك لا يتأتى دون الانتباه إلى ضرورة تحصين وإعادة الروح الوطنية إلى المدارس بانتهاج سياسة ديموقراطية التعليم وتشجيع المدارس القرآنية على إعادة فتح أبوابها من أجل المساهمة في محو الأمية وغرس قيم الدين الإسلامي السمحة، وكذلك تشجيع الجمعيات المحلية والوطنية بالمساهمة في بناء الفرد الجزائري وإعادة الثقة في انتمائه ومقوماته الوطنية وقدراته لمواجهة عديد التحديات.. كذلك، ساهمت دور الشباب في تجنيد صفوف الشبيبة ومنحها الفرصة للتعبير عن طموحاتها في شتى مجالات الحياة التي تخصّ انشغالاته في اطار مؤسساتي، ولا ننسى دور الكشافة الإسلامية التي كانت صمام أمان في وجه المستدمر قبل الثورة وأثنائها، حيث وجهت الشباب للانخراط في مسعى التحرير والبناء.
ما هي التحديات التي رفعتها الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا من أجل الحفاظ على الثقافة الوطنية وحمايتها؟
التحديات كانت كبيرة بحجم ما تركه المستعمر بعد اندحاره وخروجه مكرها من الأرض الطاهرة، ففي مجال الإبداع، كان لزاما على الدولة ومؤسساتها الثقافية والإعلامية الترويج للثقافة الوطنية ومدى تضحيات الشعب الشجاعة والطويلة من أجل استرجاع سيادته وحريته وحقّه في بناء مستقبله، حيث كانت السينما النافذة التي انتقلت بها الجزائر إلى قلوب الناس والأحرار في العالم من خلال الأعمال السينمائية التي قدّمت بطولات هذا الشعب على مدار السنوات التي أعقبت الاستقلال، هذا من خلال صناعة الأفلام بالتعاون مع الدول الصديقة والمؤسسات التي آمنت بثورة الجزائر، فكانت الأفلام مثل “معركة الجزائر” و«دورية نحو الشرق” و«سنين الجمر”، وعمر “قتلاتو الرجلة”، و’’مسلسل الحريق’’ وأفلام عديدة كانت معبرة بصدق عن هوية هذا الشعب التي حاول المستدمر طمسها.. كما بيّنت هذه الأعمال السينمائية بشاعة الاستعمار الفرنسي الذي عاث فسادا ودمارا لعقود وعقود في أرجاء هذا الوطن حيث لم يستثن الإنسان ولا الطبيعة ولا الحيوان، وكان غرضه البقاء على هذه الأرض المباركة.
لقد كان للإبداع الأدبي دور فعّال في معركة تحصين الهوية الوطنية وتنوير الفكر، ولقد صنع الرعيل الأول من الأدباء قواعد العصر الذهبي للفكر والأدب، أين نحن اليوم من كل تلك الرهانات؟
بالإضافة إلى السينما التي تتكئ على النصوص الروائية، كان للكتاب والمبدعين حينها الأثر الطيب في نقل الصورة الصحيحة عن واقع الجزائر ويوميات المواطن الجزائري قبل الثورة وبعد الاستقلال وأثناء مرحلة البناء والتشييد، فكانت كتابات الطاهر وطار وبن هدوقة وكاتب ياسين وزهور اونيسي ومرزاق بقطاش وبوجدرة وواسني الاعرج، محمد الديب، مولود فرعون مولود معمري، آسيا جبار، عبد الله ركيبي محمد مصايف، وقبل الاستقلال. مفدي زكرياء شاعر الثورة، ومحمد العيد آل خليفة وكثيرون غيرهم.. كل هذه الأسماء وغيرها، كانت وراء ازدهار النشر والإبداع، وكذلك الكتاب الذي يعتبر مرجعية أساسية في التنوع الثقافي ونشر الوعي والثقافة والتصدي للمخططات الاستعمارية الرامية إلى طمس الهوية الوطنية. وكان هذا الجيل الذهبي مقدمة لبروز جيل ثان بعد مرحلة البناء والتشييد.. جيل وطني شاب متشبّع بمبادئ الثورة ومطّلع على الثقافات الأخرى، وهو ما يسمى بجيل الثمانينات الذي حمل المشعل خاصة بعد الانفتاح السياسي والإعلامي نهاية الثمانينات، وكانت الدولة حينها تدعّم نشر الكتاب. وبالرغم من وجود مؤسسة واحدة لنشر الكتاب آنذاك، ولكن بعد ذلك، ومع انفتاح السوق على عالم الكتاب وتعدّد دور النشر، ازدهرت صناعة الكتاب وبرزت أسماء أدبية منافسة ومكملة للجيل الأول.
كثيرة هي المؤسسات الثقافية التي تخدم مكانة الجزائر محليا، إقليميا ودوليا.. هل هي كافية اليوم لرفع التحدي والحفاظ على المكتسبات؟
بالرغم من التطوّر الحاصل في البناء الوطني من خلال تثبيت المؤسسات في مختلف القطاعات كالصناعة الاجتماعية التعليمية والثقافية بدءا بإنشاء وزارة الاتصال ووزارة للثقافة تارة بدمجهما معا وتارة بفصلهما عن بعضهما، وإنشاء مؤسسة النشر والإشهار (اناب) وكذلك مؤسسة أخرى تهتم بالكتاب والثقافة، إضافة إلى مساهمة وزارة الشباب والرياضة من خلال دور الشباب والمراكز التابعة لها التي تساهم في الفعل الثقافي بأنواعه خاصة ما يتعلق بالتراث والمحافظة عليه. كذلك إنشاء محافظات تهتم بالشأن الثقافي والتاريخي وكل ما يتعلّق بالتراث الوطني والهوية الوطنية، مع المجالس الوطنية المختلفة المتعلقة بالعربية والأمازيغية، دون أن ننسى وجود مديريات للثقافة عبر الولايات همها الوحيد تنشيط ومتابعة المشاريع الثقافية وانجاز المشاريع التابعة للقطاع، بالإضافة إلى دور الثقافة وكذلك المكتبات العمومية للمطالعة والمكتبات البلدية كلها مؤسسات مهمة تخدم مكانة الجزائر ثقافيا، دون أن ننسى أهمية تفعيل دور الملحقات الثقافية التابعة للسفارات بالخارج التي تتحمّل مسؤوليات كبيرة مع المراكز الثقافية الوطنية بالخارج لإبراز التنوع الثقافي والإبداعي وأهمية التراث الجزائري الضارب في عمق التاريخ، فالتنسيق بين كل هذه المؤسسات كفيل، ليس فقط بمواجهة التحديات، وإنما ببعث الثقافة الجزائرية الأصيلة المتنوعة ونشرها وتثبيتها كفاعل أساسي في تكوين الفرد.