أصدر مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية “كراسك”، الكائن مقرّه بوهران، العدد الأول من مجلة “تراث، المجلة الجزائرية في الأنثروبولوجيا الثقافية”.
وحسب المركز، فإن هذا الإصدار العلمي يسعى أن يكون مجالا لتحليل ودراسة ومناقشة التحدّيات المعرفية التي يعرفها البحث العلمي المهتم بالثقافة وتراثها المادي وغير المادي.
وبعد مرور سنوات على إصدار سلسلة من دفاتر “تراث”، التي اهتمت بالدراسات والوثائق حول التراث الثقافي الجزائري والمغاربي، رأى الباحثون والمبادرون على نشرها أنه قد حان الوقت لإعطاء تلك المنشورات طابعا مؤسساتيا دائما. ومن هذا المنطلق، جاء التفكير في مجلة دورية نصف سنوية منتظمة، بلجنة علمية ولجنة قراءة مكونة من شخصيات علمية بارزة في ميدان التراث الثقافي، من أجل توفير إطار للتفكير والتحليل ودراسة الإنتاج الثقافي اللامادي في أبعاده اللسانية، التاريخية، الأنثروبولوجية، الشعرية والسوسيولوجية.
وهكذا جاءت “تراث”، المجلة الدورية العلمية المحكمة، على أن تصدر مرتين في السنة، وذلك في إطار تثمين الأعمال البحثية لمركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في الجزائر، وفي العالم. كما تقوم المجلة بنشر الأبحاث العلمية التي تعنى بالدراسات التراثية ذات الأبعاد الثقافية، والفنية، واللغوية والمعمارية، والتاريخية، باللغات العربية والإنكَليزية والفرنسية، ويراد لها أن تكون “فضاءً أكاديميا يمنح للقارئ المهتم مواضيع متنوعة ومتخصصة في المعرفة المنهجية بالتراث الثقافي والاجتماعي”.
ويمكن الاطلاع على المقالات العلمية التي تضمنتها المجلة، وتحميلها، وذلك على المنصة الجزائرية للمجلات العلمية. وقد تضمن هذا العدد مقالات باللغتين العربية والفرنسية، تعنى بمواضيع تتمحور في معظمها حول قضايا التراث.
التنمية المستدامة.. وآليات حماية التراث
ومن الدراسات التي تضمنها هذا العدد الأول، دراسة بوشيبة بركة تحت عنوان “التراث الشعبي والتنمية المستدامة. قراءة في الرقصات الشعبية”. وتنطلق الدراسة من كون الموروث الثقافي أحد العناصر المهمة في تحقيـق التنمية المستدامة، وذلك لأثره الاقتصـادي والاجتماعـي والثقافي والبيئـي، فهـو عنصر محـوري يعمـل علـى تنشـيط قطاعـات أخرى، لاسـيما قطـاع السياحة والنقـل، والصناعـات التقليديـة، والصناعـات الغذائيـة، وهو مـا يـؤدي إلى تطويـر المؤسسـات الصغيرة والمتوسـطة التي تعمـــل على توفير مناصب شـغل وجلـب عوائد مالية بالعملـة المحليـة أو الصعبة.
وتضيف الدراسة أن الجزائر من الدول التي أدركت أهمية هذا الموروث، فهي تسعى إلى الاستثمار في موروثها الثقافي والسياحي اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، لما تمتلـكه من مقومـات ثقافية في تراثها المادي وغير المادي، وأخرى طبيعيـة متنوعـة تتمثـل في موقعهـا الجغـرافي الإستراتيجي، وما تتوفـر عليه من حظائر وطنية مصنفـة ضمـن التـراث الثقـافي العالمـي. كما أن الموروث الثقافي مصدر هام من مصادر ثقافة الشعوب والأمم، تتناقله الأجيال بالتواتر، وتطبعه في كل مرحلة من مراحل تطورها بسمات تاريخها ومميزاتها الثقافية والاجتماعية والعقائدية، فيُظْهِرُ قدرتها على التفاعل مع المجالات الأخرى، وهو ما يؤهله لرسم خصوصيات الجماعات وهوياتها وانتماءاتها الحضارية والثقافية. ويحاول هذا المقال العلمي الوقوف على خصوصيات هذا الموروث، ودوره في تحقيق التنمية المستدامة من خلال عناصره المختلفة، وتشخيص مدى الاهتمام به، من خلال عرض ودراسة وتحليل الأثر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لهذا الموروث، والبحث عن الوسائل الكفيلة للمحافظة عليه من الزوال والتشويه.
أما عبد القادر دحدوح، فيقدم مقالا علميا عنوانه “التراث الثقافي بالجزائر: المنظومة القانونية وآليات الحماية”. ويذكّر كاتب المقال بما يمثله التراث الجزائري من رصيد ضخم ومتنوع يرجع إلى مختلف الحقب التاريخية التي يصل عمقها الحضاري إلى ملايين السنين. ويضيف دحدوح أن الدولة، ممثلة في وزارة الثقافة، بذلت جهودا كبيرة من أجل حماية وصيانة وترميم وتثمين هذا التراث، والبحث والتنقيب عنه، كما وقد خصصت لذلك عدة مؤسسات مختصة في الحماية والصيانة والترميم والبحث والتنقيب، كما وضعت له عدة آليات بداية من الجرد والتسجيل والتصنيف وغيرها، وهي الآليات التي حددت أطرها التنفيذية بنصوص قانونية تبدأ بالدستور ثم قانون حماية التراث الثقافي، ونصوص ضمن قوانين عدة هيئات وطنية لها صلة بحماية التراث، وصولا إلى المراسيم والقرارات الوزارية التطبيقية لمواد قانون حماية التراث، وهي النصوص التي يعرضها هذا المقال، لمعرفة الإطار القانوني الذي سخرته الدولة لحماية التراث الثقافي بشقيه المادي وغير المادي.
الموسيقى.. لسان التراث الخالد
ولم يخلُ هذا العدد الأول من مقال للفقيد حاج ملياني، الباحث الأكاديمي المتميز وأحد أبرز المهتمين بالتراث اللامادي الجزائري والثقافة الشعبية الجزائرية، والذي غادرنا في جويلية 2021. واقترحت “تراث” على قرائها مقالا للفقيد بالفرنسية، عنوانه “عناصر التاريخ الاجتماعي للأغنية الشعبية في الجزائر، نصوص وسياقات
Eléments D’histoire Sociale
De La Chanson Populaire
En Algérie, Textes
Et Contextes”.
وفي هذا المقال، اعتبر ملياني أن إحدى خصائص الموسيقى والأغاني في الجزائر، تتمثل في أنها لم تُثِر اهتمامًا كبيرًا بأصولها، واستخدامها وخصائصها الرسمية للمؤرخين الأصليين قبل الاستعمار الفرنسي. وتنشر هذه الدراسة مجموعة متنوعة من أنماط الأغنية الشعبية في الجزائر، من خلال النظر في بعض الأمثلة المأخوذة من الأغاني الشعبية والطقوس الاجتماعية بناءً على الظروف أو الأنواع (الأغاني الساخرة على سبيل المثال).
فيما يسلط مقال عمار نابتي الضوء على نوع معين من الأغاني الأمازيغية يسمى “آشتدو Acteddu” أو “آسرقس Aserqes”، حسب الجهة في منطقة القبائل. وتتميز هذه الأغنية، الموجهة خصيصًا للرضّع وبدرجة أقل للأطفال في مقتبل العمر، بميزتين من أنواع الأغاني الأخرى: حالة الاتصال التي تحدث فيها، والمحتوى اللغوي. وهذه الدراسة، المبنية على نظرية أفعال الكلام ونظرية التفاعلات، تصف هذا الموقف الذي تلعب فيه الأم مع طفلها بجعله يقفز، ويحاول الباحث إظهار أن هذا النوع يعمل بشكل مختلف عن الأنواع الأخرى من الأغاني.
من البصمة التركية.. إلى الشاشية التونسية
كما نقرأ في مقال “الأتراك في الملحون الشعر الشعبي في الجزائر، الاستعارات والتمثيلات” لكاتبه أحمد أمين دلاي، أن أقدم نص شعر باللغة الجزائرية أو ما يعرف بالشعر الملحون يعود إلى القرن السادس عشر. لذلك، تزامن ظهور هذا الفن في منطقتنا تمامًا مع بدايات التواجد التركي (العثماني)، وقد احتفظت نصوصه، بطبيعة الحال، بالآثار اللغوية والتاريخية والعقلية لثلاثة قرون من الوجود العثماني.
وعمد هذا العمل إلى إعادة قراءة نصوص شعرائنا المشهورين، للتعرف، في المقام الأول، على تأثير لغة العثمانيين على اللهجة العربية الجزائرية، من خلال الاقتباسات المأخوذة من اللغة التركية في الشعر الشعبي ومعانيها. وفي الجزء الثاني من المقال، يلاحظ الباحث كيف مثل نفس هؤلاء الشعراء صورة الأتراك، بعد أن تأثروا مبكرًا بقوتهم. كما يشير المقال، من خلال بعض النصوص المتعلقة بالصراعات الكبرى بين القبائل العربية والأتراك، إلى العلاقة بين هؤلاء الأخيرين والسكان المحليين كما تظهر في هذه النصوص الجدلية (بمعنى الحرب والصراع) ووجهة نظر الشعراء الشعبيين.
من جهته، يقترح علينا صالح فالحي موضوع “الشاشيّة التونسية غطاء رأس رجالي، رمز وهوية. تراث ثقافي لامادي جدير بالصون والتثمين”. ويقول كاتب المقال إن الشاشية التونسية مثلت جزءً أساسيا من اللباس التقليدي الوطني، زيادة على أنها كانت تدل على مركز وشخص لابسها، وكانت تختلف أيضا حسب الجهات الجغرافية. وتمتاز الشاشية التونسية بجودة عالية ترفض مراحل صنعها الاقتباس أو التقليد، وفي ذلك احترام لأصول صنعتها وضمان لجودة منتوجها. لذا وجب رد الاعتبار لهذا اللباس التقليدي الرمز، يقول فالحي، الذي دعا إلى اتخاذ سياسة تراعي وتحافظ وتنهل من إبداعات هذا التراث الحرفي وتقدمه وتعرف بالقواعد الصحية والمضبوطة لفن حرفة الشاشية، وتبرز مدى إشعاع منتوجها داخليا وخارجيا، لتشكيل وثيقة علمية وعملية حول هذا اللباس الذي مثل جزء من الزي التقليدي التونسي. ويعتمد المقال على الصورة والإحصائيات والاستمارات والتحليل والتعليل لكل ما يهم الحرفة والحرفي، وذلك من أجل تقريبها للقارئ.