تُعتبر دبلوماسية القمة أحد أكثر الأدوات فعالية في السياسة الخارجية للدول، حيث تُستخدم لوصف العمليات الدبلوماسية والتفاوض والتشاور على مستوى القمة بين قادة الدول والحكومات. ويتم تنظيم هذه القمم عادة على نطاق دولي أو ثنائي وتتميز بتحقيق أعلى مستوى من التفاوض والتباحث حول القضايا الدولية الهامة والملفات الحيوية والتحديات العالمية المشتركة، كما تُعنى هذه القمم بمناقشة المصالح المشتركة وتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني.
الرئيس تبون.. دبلوماسية فعّالة من أجل اقتصاد سيادي اتفاقيات مثمرة في التعاون وفق مبدإ “رابح-رابح”
خلال زياراته الأخيرة لروسيا، قطر، الصين وتركيا، ركز رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، على تجسيد هذا المبدأ وتحمل عبء إعادة أمجاد الدبلوماسية الجزائرية بمنطق براغماتي جديد، هدفه هو تحقيق تعاون اقتصادي وتنسيق استراتيجي وسياسي مع هذه الدول، بالإضافة إلى جميع الدول التي تسعى لتكوين شراكات مجدية مع الجزائر.
تعزيز العلاقات مع قطبي النظام الدولي
خلال جولته، قام رئيس الجمهورية بزيارة كل من روسيا في شهر جوان الماضي والصين في الأيام القليلة الماضية. وتُعَد كلّ من روسيا والصين أحد أقطاب النظام الدولي الحالي، نظرًا لعدة اعتبارات سياسية واقتصادية وأمنية؛ فروسيا تمتلك أقوى الصناعات العسكرية في العالم، وهي الثالثة عالميًا في ميزانية الدفاع بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين، كما تُعَدّ روسيا أحد أكبر منتجي ومصدري النفط والغاز الطبيعي في العالم، وتمتلك ثروات معدنية هائلة، خاصة فيما يتعلق بالحديد والألمنيوم، وتمتلك روسيا صناعة فضاء متطورة توازي نظيرتها في الولايات المتحدة الأمريكية.
وخلال الزيارة التي قادته إلى روسيا، سعى رئيس الجمهورية للاستفادة من الخبرة الروسية في هذه المجالات، ووقّع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وثيقة تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وتم التوقيع على مذكرات تفاهم تاريخية تشمل كل المجالات تقريبًا، بما في ذلك مجال استكشاف الفضاء الخارجي للأغراض السلمية.
بالإضافة إلى ذلك، رحبت روسيا بانضمام الجزائر إلى مجموعة “بريكس”؛ مجموعة تمثل للجزائر فرصة جيدة لزيادة نفوذها الإقليمي وتنويع اقتصادها وتعزيز انفتاحها. ويُشكّل انضمام الجزائر لمجموعة “بريكس” فرصة استراتيجية للدولة، حيث تمثل دول “بريكس” ما يزيد عن 30٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي.
زيارة الدولة الثانية لرئيس الجمهورية قادته إلى الصين، وهي زيارة تُعَدّ مناسبة هامة، نظرًا للتحول الاقتصادي الكبير الذي عرفته الصين خلال العقدين الأخيرين. فقد كانت الصين في الماضي توصف بـ«العملاق النائم”، لكنها استفاقت ونمت بشكل مذهل، لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، بناتج محلي إجمالي يتجاوز 15 تريليون دولار.
كما أصبحت الصين أكبر مصدر للسلع في العالم، متفوقة على الدول الصناعية التقليدية مثل ألمانيا واليابان. هذا النمو الاقتصادي الكبير جعل الصين تحظى بأهمية استراتيجية في السياسة العالمية والتجارة الدولية.
تاريخيًا، ترتبط الجزائر والصين بعلاقات سياسية قوية وطويلة، تمتد إلى فترة ما قبل استقلال الجزائر، حيث قدمت الصين دعمًا قويًا للجزائر من خلال اعترافها بالحكومة الجزائرية المؤقتة، وهي أول دولة غير عربية تقوم بذلك، مما عزّز العلاقات الثنائية بين البلدين.
كما قدمت الجزائر دعمًا قويًا للصين خلال محاولات حرمانها من مقعدها الشرعي في مجلس الأمن، وإقصائها من الأمم المتحدة. هذه المواقف تعكس التضامن والتعاون القوي بين الجزائر والصين في المحافل الدولية. وتعتبر الجزائر تايوان جزءًا لا يتجزأ من الصين، وهذا يعكس موقف الجزائر المبدئي والداعم لوحدة الصين وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
خلال الزيارة التي قادها الرئيس تبون إلى الصين، سعى لتعزيز التعاون الاقتصادي مع هذا البلد في جميع المجالات، خاصة أن الصين تُعتَبَر الشريك التجاري الأول للجزائر. وتُعَدّ الصين أيضًا الشريك الأول في المشاريع الكبرى التي أطلقتها الجزائر لاستغلال ثرواتها المعدنية، نذكر من بينها مشروع غارا جبيلات لاستغلال خام الحديد في تندوف الذي بلغت قيمة الاستثمارات فيه حوالي 7 ملايير دولار، ومشروع استغلال مناجم الفوسفات في تبسة بقيمة استثمارية تقدر بنحو 6 ملايير دولار.
ووقعت الجزائر والصين، في زيارة الرئيس الأخيرة، العديد من الاتفاقيات الاقتصادية، شملت العديد من المجالات، مثل صناعة السيارات، التعليم، والفلاحة.
وخلال اجتماعه في إقليم شنزن، مع ممثلي الجالية الجزائرية في الصين، قال رئيس الجمهورية: “المشاريع والاتفاقيات المبرمة مع الجانب الصيني، ضخمة ومتبادلة النفع للبلدين”، مؤكدا أن الصين سوف تضخ 36 مليار دولار استثمارات في الجزائر في قادم السنوات.
بالإضافة إلى ذلك، رحبت الصين بانضمام الجزائر إلى مجموعة “بريكس”، وتأمل الجزائر في الحصول على دعم الصين للانضمام إلى المجموعة، نظرًا لدورها البارز وتأثيرها داخل المجموعة. ويتطلع الجانبان الجزائري والصيني إلى أن يصل مستوى التعاون الاقتصادي بين البلدين إلى مستوى يُعَادل العلاقات التاريخية التي تربطهما.
ويرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، الدكتور علي بوساحة، أن دبلوماسية القمة تعتبر أرقى الأدوات المستخدمة في مجال التفاوض والتعاون الدولي، لأن التنسيق يكون على أعلى مستوى، ما يساهم في تذليل كل الصعاب والتحديات التي قد تكون عائقا أمام تجسيد الاتفاقيات الموقعة بين الدول، وهذا ما عمل على تحقيقه رئيس الجمهورية في الزيارات التي قام بها، التي تعتبر تاريخية بكل المقاييس. واعتقد أنها سوف تؤرخ لعصر جديد في العلاقات الجزائرية- الروسية والعلاقات الجزائرية- الصينية بالتحديد.
تنسيق وتعاون إقليمي مهمّ
علاوة على ذلك، أجرى رئيس الجمهورية زيارة إلى دولة قطر الشقيقة. ودعا الطرفان الجزائري والقطري إلى ضرورة تعزيز العمل العربي المشترك، لاسيما وأن الدولتين متوافقتان في الرأي حول العديد من القضايا الإقليمية والدولية.
وترتبط الجزائر وقطر بعلاقات اقتصادية كبيرة نمت في العقود الأخيرة. ومن أوجه هذا التعاون، الاستثمار القطري في مجال الحديد والصلب، وكذلك الاستثمار في مجال الرعاية الصحية، لاسيما المستشفى الجزائري- القطري- الألماني.
كذلك، شملت جولة الرئيس تركيا التي تعدّ أكبر مستثمر أجنبي في الجزائر بأكثر من 5 ملايير دولار، مع تواجد أكثر من 1400 شركة تركية ناشطة بالجزائر. وتعول الجزائر كذلك على الجانب التركي لتحقيق نمو اقتصادي في بعض القطاعات التي تمتلك فيها تركيا خبرة لا بأس بها، لاسيما في مجال النسيج والحديد والصلب. وترى تركيا في الجزائر شريكا استراتيجيا مهما باعتبار الجزائر أكبر منتج ومصدر للغاز الطبيعي في إفريقيا.
يرى العديد من المتابعين للشأن الجزائري، أن الزيارات الأخيرة التي قام بها رئيس الجمهورية إلى مجموعة من الدول، سوف يكون لها دور كبير في دعم النمو الاقتصادي في البلاد في قادم السنوات، لاسيما تعزيز الصادرات خارج قطاع المحروقات ودعم الإنتاج المحلي. وبدأت نتائج هذه السياسة تؤتي أكلها، لاسيما وأن البنك الدولي أشار في تقريره الأخير إلى تحسن كبير في القطاع غير النفطي في الجزائر.