تلقيت دعوة كريمة لحضور المؤتمر القومي العربي الذي ستحتضنه العاصمة اللبنانية نهاية هذا الشهر، وكنت حريصا، كبعض الرفاق في الجزائر، على المشاركة، وربما كان سبب ذلك الرغبة في أن يكون كل منا خير خلف للراحل الكبير المناضل عبد الحميد مهري، لكن ظروفا خاصة جعلتني أضطر إلى الاعتذار، ومن هنا أحسست أن عليّ أن أقول، كتابيا، ما كنت أريد قوله في بيروت.
دكتور محيي الدين عميمور
وأعترف هنا بأن ما شجعني على الكتابة هو حيوية الدكتور طارق ليساوي الذي يصرّ على محاربة الإحباط، فيواصل الكتابة ويعطي بذلك قدوة من حقه علينا أن نقتدي بها.
وبدابة، أحب أن أوضح أنني أسير على هُدى المنطق الجزائري فيما يتعلّق بالقضايا القومية، والذي يقول بكل بساطة ووضوح إن “الالتزام مع القضية الفلسطينية هو إسمنت الوحدة العربية، والتهاون في شأنها هو المُفجّر الذي ينسف الكيان العربي”.
ولقد طالبت منذ شهور وشهور بوقفة نقد ذاتي نواجه بها أنفسنا ونتعرف على أخطائنا ونقوم بإجراء التعديلات الضرورية لمواقف ثبت أنها لم تكن العلاج الصائب لما نعانيه من تفتت وانهيار، ولم تكن الطريق السليم لإنجاز المشروع الحضاري القومي العربي، طبقا لما جاء في أهداف المؤتمر القومي.
ولأن القضية الفلسطينية هي محور هذه السطور، أحبّ أن أذكر بأمر أراه بديهيا، وهو تهافت المقولة التي ترى أن غاية ما نستطيع القيام به، كوطن عربي وكعالم إسلامي، هو قبول ما يرضى به الفلسطينيون، وهذا، في نظري، دليل خَوَرٍ ومبرّرُ تخاذلٍ.
ذلك أننا لا نتعرض، في مجموعنا، لنفس الضغوط (ولا أقول .. الإغراءات) التي يتعرّض لها الفلسطينيون من العدو الغاصب ومن أنصاره وحلفائه، وأحيانا من الأصدقاء المفترضين قبل الأعداء المهيمنين.
ثم إن من حقنا، كمثقفين، أن نرفع سقف المطالب الوطنية بغض النظر عن الالتزامات الدولية لدولنا، وهنا فقط نكون جديرين بدور الريادة الذي يتحمّله المثقف الوطني، ويمكننا أن نعطي الفلسطينيين حرية المناورة لانتزاع حقوقهم التي هي في واقع الأمر حقوق الأمة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي.
ويجب أن نتذكر اليوم أن القيادات العربية هي المسؤول الأول عمّا آلت إليه القضية الفلسطينية من نكبات.
وبدون أن أعود إلى من يقف وراء إجهاض الانتفاضة الفلسطينية في الثلاثينيات من القرن الماضي، أتوقف لحظات لأذكر بأحداث الأربعينيات.
كان منطلق الأحداث آنذاك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1947 بتقسيم التراب الفلسطيني بين اليهود والعرب.
وتفجر الغضب الفلسطيني وراح يواجه العصابات الصهيونية التي استفادت من تجارب عناصرها خلال الحرب العالمية الثانية، وعرفت الساحة جهادا حقيقيا قام به أبناء فلسطين بقيادة عبد القادر الحسيني وحسن سلامة وأحمد عبد العزيز، وساهم فيه بكفاءة كبيرة شباب من الضباط المصريين استفادوا من عطلة بدون مرتب، بالإضافة إلى شباب الإخوان المسلمين وعناصر متفرقة من رجال المغرب العربي.
وهنا تأتي الخطيئة الكبرى في التعامل مع القضية الفلسطينية.
فقد قرّرت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين بالتواطؤ المؤكد مع عناصر الكيان الصهيوني بقيادة بن غوريون، الذي اتخذ قرار إعلان قيام دولة إسرائيل (الكيان الصهيوني) في 15 مايو 1948.
في نفس الوقت، كانت القيادات العربية قد قرّرت دخول قواتها المسلحة إلى الأرض الفلسطينية لمواجهة العدو الصهيوني، وذلك ضد إرادة المجاهدين الفلسطينيين بل والكثيرين من الساسة على الساحة العربية، الذين كانوا يرون أن يتمّ دعم المجاهدين بالمتطوعين وبالأسلحة والعتاد بدون إقحام القوات النظامية التي كان من الصعب أن تسمى جيوشا بالمنطلق الحربي الحديث.
وحدثت سلسلة الهزائم التي عرفتها القوات المسلحة العربية التي لم تكن بكفاءة المقاتلين الصهاينة، تكوينا وعتادا، والتي كانت بعض قياداتها تحرّك القوات من عاصمة البلاد.
ولقد استعملت تعبير “الخطيئة” عمدا لأقول بأن المنطق السليم في 1948 كان يقضي بإعلان قيام دولة فلسطين على ترابها الوطني، من النهر إلى البحر تزامنا مع الإعلان الإسرائيلي (الصهيوني)، مع التحفظ على قرار الجمعية العامة بالتقسيم، وتعترف الدول العربية المستقلة آنذاك بالدولة الجديدة وتُطلب لها عضوية الأمم المتحدة، أسوة بما قامت به تل أبيب.
لكن ما حدث كان مهزلة حقيقية، فقد قسمت فلسطين في واقع الأمر بين ثلاث دول من بينها إسرائيل (الكيان)، التي توسّعت خارج حدود قرار التقسيم، وهكذا أصبحت “أم الرشراش” مدينة تسمّى “إيلات”.
وراحت القضية الفلسطينية تعوم في بحر المزايدات والمناقصات، وأصبحت مادة للتلاسن العربي، بحيث سمعنا يوما من الرئيس التونسي الحبيب بو رقيبة في أريحا منتصف الستينيات لوما للعرب الذين رفضوا قرار التقسيم ولم يحاولوا مواجهة الواقع بالنضال المرحلي، أسوة بما عرفته تونس.
ولم يكن سرا أن الزعيم التونسي كان ينطلق من وضعية نفور كان يشعر بها إزاء الهتافات الجماهيرية في المدينة الفلسطينية التاريخية بحياة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، متناسيا أن نجاح سياسة المراحل كان إلى حدّ كبير بفضل الثورة الجزائرية التي فرضت على فرنسا التفرغ لمواجهتها بكل الطرق الممكنة.
وللأمانة التاريخية، فإن عبد الناصر كان هو أول من طرح تلك الفكرة في 1955، في إطار مناورة سياسية أعطت نتائجها آنذاك.
فخلال الإعداد لمؤتمر “باندونغ” اقترح بعض القادة الآسيويين، ومن بينهم “أونو” زعيم “بورما”، وبتأثير إسرائيلي (صهيوني) على ما أعتقد، فكرة دعوة إسرائيل (الكيان الصهيوني) للمشاركة في المؤتمر على أساس أنها دولة آسيوية.
وكان هذا سيفتح الباب أمام الكيان المغتصب ليكون جزءا فاعلا في المنطقة العربية، كما حدث فيما بعد عندما فرض تعبير “الشرق الأوسط” نفسه على الخطاب السياسي، بفعل فاعل معروف.
وتفتق ذهن الديبلوماسي محمود فوزي عن الرد المناسب، وهكذا قيل إنه لا مانع من قبول الاقتراح إذا أعلنت إسرائيل (الكيان) قبولها لقرار التقسيم، بكل معطياته.
وبالطبع فقد رفضت إسرائيل (الكيان) ذلك؛ لأنها كانت ومازالت تعمل على بناء كيانها من النيل إلى الفرات، وهو ما نجحت في تحقيقه بفضل التواطؤ المعروف.
ولن أستعرض كل ما هو معروف بالنسبة للقضية الفلسطينية، التي تلقت ضربات قاصمة في 1967 ثم في 1970 ثم في 1982، وتوالت النكسات في الرقص “الأهبل” بين “مدريد” و«فاس”، وتمخض الجبل فولد فأرا اسمه “حل الدولتين”، والذي كان وراءه الصحفي الأمريكي “فريدمان” وبالتنسيق المؤكد مع الحلفاء التقليديين للكيان الصهيوني.
وهنا أصل إلى الهدف من هذه السطور.
فحكاية الدولتين هي أغنية ممجوجة ثقيلة الدم، رفضتها إسرائيل (الكيان) منذ البداية، لكن القيادات العربية ما زالت تمضغها كعِلْك لا طعم له ولا رائحة.
وتلميذ المدارس الابتدائية يعرف اليوم أن الضفة الغربية تتحوّل شيئا فشيئا، بفضل سرطان المستوطنات، إلى أرخبيل من التجمعات العدوانية يذكر بتجمعات “الكيبوتز” التي دمّرت القوات العربية في 1948، بينما أصبحت غزة مجرد سجن كبير.
وهنا يأتي دور المؤتمر القومي العربي، والذي ينصّ قانونه على أنه “يعمل على صعيد مستقل عن أجهزة الحكم”، بما في ذلك القيادة الفلسطينية بالطبع.
وأنا أرى أن على المؤتمر القومي العربي أن يعلن اليوم سقوط فكرة “الدولتين”، ويطالب العالم كله، والقيادات العربية في المقدمة، باعتماد تكوين دولة واحدة متعدّدة الأديان والمذاهب، تتحوّل تدريجيا إلى واحة سلام في المنطقة وفي العالم.
ويجب أن أقول هنا، وللتاريخ، أننا في الجزائر كنا أول من دعا لتحقيق هذه الفكرة، والتي قفز عليها فيما بعد الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي عندما تبنى فكرة تكوين دولة “إسراطين”، وبرغم أن البعض سخر من تلك الفكرة، لكنها كانت هي الطريق السليم للفرار من منطق “الدولتين” الخادع.
ولكيلا يسارع البعض إلى اتهامي بممارسة “الحكمة بأثر رجعي”، بتعبير الأستاذ هيكل، أذكر أنني كتبت سطورا في يونيو 1968 في مجلة الجيش الجزائرية، لم يرفضها آنذاك راعي المجلة، الرئيس الراحل هواري بو مدين، وقال لي فيما بعد أنه كان يجد نفسه في كلماتي، وربما كان هذا هو سرّ استدعائه لي فيما بعد لأعمل إلى جانبه.
قلت آنذاك:
«القضية فلسطينية أولا.. بمعنى أن أبناء فلسطين هم الذين يجب أن يقوموا بالدور الرئيسي ومعهم، وضمن إطارهم وتحت لوائهم، فدائيون من أبناء الأمة العربية.
ويكون شعار هذه الفترة .. لا بقاء لدولة عنصرية تؤمن بالتوسّع والغزو، ويكون البديل الذي نقدّمه للعالم ولأنفسنا.. إقامة دولة فلسطينية تجمع المسلمين والمسيحيين واليهود داخل إطار المحبة والإخاء وتشكل لهذا العالم أرضا مقدسة وواحة سلام ومرفأ أمان.
ولقد كان من أسباب خسارتنا في حرب جوان أن العالم كله كان مع إسرائيل (الكيان) .. بيده أو بلسانه أو بقلبه أو بها معا، فليس في مصلحة أي من القوى العالمية أن تتكون على أرض المنطقة قوة عربية متكاملة، وليس من مصلحة هذه القوى، ولكل هدفه الخاص، أن يستتب السلام في المنطقة، فمن يمول، بمشترياته، مصانع الأسلحة في الغرب والشرق”.
ثم قلت: “من مصلحتنا اليوم أن نعطي لشعوب العالم أجمع أغنية عاطفية من نوع .. فلسطين!! أرض السلام؟؟ حيث لا سلام ولا حروب ولا خصام، حيث تتعانق الأديان .. ويجد كل خائف ومشرد أرض الأمان، وهو ما لا يمكن أن يتحقّق إلا بإزالة الكيان الذي يزرع التعصب ويؤمن بالتوسّع، ويشكل بوجوده بؤرة إثارة مستمرة للحقد والكره.. ولا يتحقق ذلك إلا بإنهاء وجود دولة إسرائيل (الكيان).
كان ذلك ما قلته بعد هزيمة 1967.
واليوم، ما رأي المؤتمر القومي العربي؟
هل يجرؤ المثقفون العرب على إعلان سقوط فكرة الدولتين، والمناداة بدولة واحدة، تواجه فكرة الدولة اليهودية العنصرية التي ينادي بها قادة الكيان، وبهذا نعطي الغرب فرصة إثبات نزاهته عندما يطالبنا بإقامة دولٍ علمانية، وفي نفس الوقت نعطي للشباب في العالم أجمع ما يذكرهم بأيام شعارات تشي غيفارا وبدورهم الرائد في مواجهة حرب فيتنام، ليكون الشارع الدولي النصير الأول لنا في مواجهة العنصرية اليهودية؟
ثم، أليس هذا هو ما ينزع عن “التطبيع” كل مبرراته؟