التغريب والنهب الثقافي أسلحة يستعملها الاحتلال الصهيوني في حربه على الشعب الفلسطيني، حيث يسعى جاهداً لإبعاده عن إرثه الشعبي وانتمائه الثقافي وعزله عن بعده العربي، من خلال محاولات التهويد الممنهجة..
في هذا الحوار الذي أجراه المتوكل طه مع “الشعب”، يتحدث الكاتب والشاعر والأستاذ الجامعي الفلسطيني، عن دور الثقافة في لملمة الوجود الفلسطيني الذي شتته ظروف الاحتلال الصهيوني الذي يحاول الاستيلاء على الإرث الفلسطيني بممارسته للاستلاب الثقافي.. ويعد المتوكل طه أحد أبرز الكتّاب والشعراء الفلسطينيين المعاصرين، وله ما يزيد عن 55 مؤلفاً. ترأس اتحاد الكتاب الفلسطينيين لمدة 15 عاماً، وكذا مجلس التعليم العالي الفلسطيني لمدة ثلاث سنوات، وأسس بيت الشعر في فلسطين مع عدد من الشعراء والكتاب المبدعين، ثم ترأسه لمدة ثماني سنوات، كما تقلّد المتوكل العديد من المناصب الحكومية منها وكيلاً لوزارة الإعلام وسفيراً لفلسطين في ليبيا.
“الشعب”: زرت الجزائر خلال إحيائها للذكرى الـ75 للنكبة الفلسطينية، كيف تصف الترابط والتناغم والعمق الذي يطبع علاقة البلدين والشعبين الجزائري والفلسطيني ؟
المتوكل طه: الجزائر تكاد تكون البلد العربي الوحيد الذي يشكّل جداراً يسند أرواح الفلسطينيين، فلم يتبق بلد يعمل بشكل حاسم وينحاز لفلسطين سوى الجزائر التي بقيت على عهد دأب عليه قادتها “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”، ونرى الجزائر تشاركنا الرغيف والنزيف، ولقد ظلت حاضنة، تحاول أن ترد العدمية التي تستهدف القضية الفلسطينية، من خلال إحيائها للعديد من المناسبات الوطنية الفلسطينية، لتبقى الذاكرة مترعة ويانعة وممتلئة، ويبقى الوجدان الفلسطيني والعربي ريّاناً مثل صحن الجمر، بالقضية الفلسطينية.
الجزائر وفّت وكفّت، ونحن لا نجد كلمة تفيها العرفان والعطاء، أنا باسم الشعب الفلسطيني أتقدم بالشكر الجميل والموصول إلى هذه البلاد، رئيساً وحكومة وشعباً، على الاحتضان والتبني، وعلى الانحياز لقضية العرب الأولى، وأنا أحسب أنها المعادل الموضوعي لفلسطين الآن التي لا توجد لها يداً تُربت على الكتف الفلسطيني إلاّ يد الجزائر، وهذا ليس بالأمر الغريب عليها، فالثورة الفلسطينية ابنة ثورة الجزائر التي كانت أول حاضن لها، بافتتاحها مكاتب للقادة الفلسطينيين قبل اندلاع الثورة، ففيها أرهص الشعب الفلسطيني لثورته، وفيها شحذت الهمم وتدعمت بكل غال ونفيس.
هلاّ قدمت لنا صورة عن النضال في الحقل الثقافي الفلسطيني؟
صراعنا مع الكيان الصهيوني يتوزّع على ثلاث جبهات، أولها جبهة الحق التاريخي، بمعنى أن فلسطين أرضنا من البحر إلى النهر، والاحتلال يدّعي أن هذه الأرض له، وهنا يحصل الصدام الكبير معه، أما الجبهة الثانية فهي جبهة المقدسات والتي يدعي الكيان أنها يهودية رغم إسلامها، ونقصد هنا المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي الشريف ومسجد بلال وقبر يوسف وغيرها من المواقع والمقدسات، والجبهة الثالثة، هي جبهة الثقافة، كما تعلمون، الاحتلال الصهيوني قام على شظايا بشر جمعوا ممّا يزيد عن 60 دولة، هؤلاء حطوا على أرض فلسطين وحلوا فيها بعد أن اقتلعوا سكانها الأصليين، لكن هذه الشظايا البشرية اكتشفت أن ليس لها مرجعية ثقافية موحدة ولا ثقافة اجتماعية، لهذا ذهب الاحتلال واستلب كل مكونات الثقافة الفلسطينية وادعى أنه صاحبها، حيث عمل على نهب ثقافتنا الاجتماعية الفلسطينية المكونة من لباسنا وفننا وأطباقنا، وتراثنا الشعبي ومختلف العادات والتقاليد، وهذا ما يسمى بالاستلاب الثقافي، كما عمل بالمقابل على تغريبنا عن ثقافتنا وتفريغ المؤسسات الأهلية والرسمية التي تُكوّن الفرد ثقافياُ واجتماعياً، وحاول أن يصب ثقافة مسخا، بدل الثقافة الوطنية الحقيقية، وهي معركة كبرى نخوضها مع الاحتلال، لأنه إذا اعترف بأن لنا ثقافة، فسيعترف بأن لنا أرضاً، بحكم أن الثقافة هي نتاج تفاعل الإنسان مع أرضه على مدار مئات السنين، لهذا السبب يحارب الكيان الصهيوني الثقافة الفلسطينية بكل ما أوتي من قوة ويحاول أن يجعل لنفسه ثقافة خاصة، لكن، عندما نبحث في مكوناتها، نجدها فلسطينية مسروقة، وعليه، وجب علينا أن نعمل على صيانة وخلق مناعة داخل المؤسسات التي تكوّن الفرد الفلسطيني وتؤصّل مداركه، حتى نُبقي على الذاكرة حية، وحتى نجابه العدمية التي يحاول الكيان إشاعتها في الروح والوجدان والوعي الفلسطيني.
ما هو الدور الذي تؤديه السلطات والمؤسسات الفلسطينية وقوفاً في وجه محاولات تهويد الثقافة الفلسطينية؟
السلطة الفلسطينية ذات إمكانات محدودة على المستوى المالي، وبالتالي، حتى وإن كان لديها مشاريع، فليس في ملكها موازنات لترجمة الرؤى والاستراتيجيات ميدانياً، علاوة على هذا، فالسلطة الفلسطينية تعمل تحت الشرط الاحتلالي، والذي يستطيع أن يعترض ويمنع أي نشاط، وعليه يحول دون تطبيق برامجها، وعليه فالمطلوب هنا من كل المؤسسات الفلسطينية الأهلية والرسمية، داخل وخارج فلسطين، أن تعمل دون كلل، بالاشتراك مع عمقها العربي والإنساني حتى تحافظ على ثقافتها ووحدة الشعب الفلسطيني الذي شتته ظرف الاحتلال الجائر طيلة 75 سنة.
كيف يمكن للثقافة أن تعيد جمع ما فرقه الاحتلال؟
إن الظروف القاسية التي أنشأت شعبنا طيلة هذه السنوات، جعلت من الفلسطيني الذي تربى في شمال إفريقيا غير الفلسطيني الذي تربى في مدينة حيفا المحتلة، وغير ذاك الفلسطيني الذي تربى في رفح أو غزة أو في القدس والضفة الغربية وغير الذي تربى في كندا أو أوروبا، بمعنى أن مكونات الثقافة لدى الفلسطيني في جغرافيا ما، غير تلك الثقافة التي كونت الفلسطيني في جغرافيا أخرى، وهو ما خلق بعد 75 سنة، حالة من التباين في الأولويات السياسية لدى الفلسطينيين، بحيث أن الأولويات السياسية بالنسبة للفلسطينيين اللاجئين والمقدر عددهم بنحو 7 مليون، هي العودة إلى فلسطين، بينما تتمثل أولوية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة في إقامة الدولة، أما أولوية الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ 1948 فهي المساواة، وقد يبدو لنا من خلال هذا، أن هناك تناقضا في الأولويات السياسية لدى الشعب الفلسطيني، وهذا صحيح إلى حدّ كبير، وعليه فلم يعد هناك ما يوحّد الفلسطينيين في كل هذه الجغرافيات المتباعدة مكانياً وزمانياً سوى الحنين الوطني والخيط الفولكلوري، وإذا تساءلنا عن طبيعة المادة الإسمنتية التي بإمكانها إعادة توحيد الفلسطينيين في كل مكان، فسنجد أنها الثقافة، ولهذا علينا اليوم أن نضع البرامج والرؤى والاستراتيجيات الثقافية بمعناها الواسع، نفيد من الإعلام بمعناه المعاصر، والمناهج والمساقات التعليمية، ونوظف كل الآليات والميكانيزمات التي تساعدنا على إيصال ثقافة واحدة إلى كل الوجود الفلسطيني في العالم حتى نعيد وضع الفلسطينيين على خط واحد، ويكون بذلك وجدانهم ممتلئا بثقافة وطنية جامعة.