يملك الباحث في التاريخ فوزي مصمودي تجربة قيمة في أدب الرحلات، يحدثنا عنها من خلال هذا الحوار منطلقا من واقع هذا الجنس الأدبي، والأسباب التي أدت إلى تراجع الاهتمام به في السنوات الأخيرة.
“الشعب”: ما هي الإضافة التي يقدمها أدب الرحلات للقارئ وللمشهد الثقافي؟
فوزي مصمودي: بالتأكيد أن أدب الرحلة الذي يتميز بالمتعة والجدية في آن واحد، يستهوي في عمومه الأدباء والشعراء والمؤرخين والجغرافيين والسياسيين وعلماء الاجتماع. إذ لا يمكن لهم أن يستغنوا عنه انطلاقا من خلفيات وأهداف واهتمامات كل واحد منهم..
وتصبح الرحلة ذات قيمة، إذا عمد صاحبها إلى تدوينها بدقة طيلة رحلته، ولم يستثن كل مشاهداته وملاحظاته حول الملامح الطبيعية للمكان الذي شملته الرحلة، سواء كان مدينة أو بلدة أو قلعة.. وكذا طبيعتها المناخية والنباتية والعمرانية وظروفها المعيشية وأنواع أطعمة وألبسة سكانها، وصفات وخصائص الشعوب التي قابلها وعلاقتهم بحكامهم من ملوك وأمراء وقضاة.. مع تسجيله حتى المواقف الطريفة والعجيبة التي لفتت نظره انطلاقا من تجربته ومعاينته الشخصية وانطباعاته وأحاسيسه، وحتى الأحداث والمتاعب والمغامرات التي واجهته ومرّ بها خلال مسيرة رحلته، وبذلك تقدم الرحلة صورة حية وواقعية عن المدن والمناطق التي شملتها، باعتبارها مادة تاريخية ثرية وجغرافية خصبة، وتعرّف قراءها بتجارب الآخرين وعادات الشعوب وتقاليدهم وخصوصياتهم الثقافية والحضارية والدينية، وتنقل ثقافتهم ومعارفهم كإحدى نوافذ المعرفة، كما تشجّع المهتمين والعلماء لزيارة تلك البلدان واكتشافها بأنفسهم.
هل لهذا المجال صدى خاص في المشهد الأدبي؟
الرحلة لون أدبي يعتمد أساسا على السرد القصصي النثري السلس، وقد تتخللها قصائد ومقطوعات شعرية تجود بها قريحة الرّحالة، على غرار رحلات الحج في التاريخ الإسلامي، كرحلة أبي سالم العياشي والحسين الورتيلاني، وأبي محمد عمران البسكري صاحب الرحلة الحجية وقصيدته الشهيرة في زيارته، إلى مقام النبي ـ صلى الله وعليه وسلم ـ بالمدينة المنورة، ومطلعها:
دار الحبيب أحقُّ أن تهواها …. وتحن من طرب إلى ذكراها
وقد كان أدب الرحلة مزدهرا طيلة العهود الإسلامية الماضية، برز خلالها رحالة أدباء وجغرافيون تركوا لنا تراثا ضخما في ميدان أدب الرحلة، إلا أن هذا اللون الأدبي شهد في الفترة المعاصرة تراجعا ملحوظاً وانحسارا في المشهد الثقافي، وربما يشتدّ هذا التراجع بين أدباء بلاد المغرب العربي بالخصوص، خلافا لأدباء المشرق العربي الذين ولعوا بتدوين رحلاتهم، سواء في الفترة الحديثة أو المعاصرة، حيث انتشرت رحلات: الأمير شكيب أرسلان وأمين الريحاني وعلاّمة الجزيرة حمد الجاسر.. وغيرهم، مما يدعو بإلحاح إلى طرح هذا الفَقر المدقع في مجال أدب الرحلة، على بساط البحث والنّقاش والدراسة على جميع المستويات، لاسيما في الوسط الأكاديمي الجامعي ولدى الأدباء والنقاد.
في رأيك.. ما هي الأسباب التي أدت إلى تراجع الاهتمام بأدب الرحلات؟
ربما يعود هذا التراجع إلى عديد العوامل، منها على الخصوص عدم عناية النُّقاد بهذا الجنس الأدبي وقلة تشجيعهم له، وتخوّف دور النشر والتوزيع من ولوجه والمغامرة فيه، يُضاف إليها التوجّه شبه الكلى للمجتمع إلى وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الحديثة، دون إغفال إهمال المؤسسات الثقافية لهذا اللون الأدبي؛ لذلك وجدنا عددا قليلا من الدول تولي عناية بهذا الجانب، فأنشأت مؤسسات ومراكز خاصة، وأخرى تؤسس جوائز سنوية قارة، ترصد لها أمولاً طائلة، كجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة بدولة قطر..
المعروف عنك اهتمامك الكبير بتفاصيل المكان والزمان والإنسان والتاريخ وأدب الرحلة تدوين لكل هذا، كيف انجذبت إلى هذا النوع المتميز من الكتابة؟
لا أخفيك سرّا أنني منذ صباي كنتُ مولعا بالسفر والرحلة، بداية من الرحلات المدرسية التي تنظمها المؤسسات التربوية التي درستُ بها، مرورا برحلاتي السياحية والثقافية والعلمية داخل الوطن وخارجه. وزاد شغفي بها كتبُ الرحالة والجغرافيين والمستكشفين والمغامرين ومدوناتهم التي كانت تصل يدي، فأقرأها بنهم وشغف كبيرين، لاسيما الرّحالة العرب، على غرار ابن بطوطة، بن حوقل، ابن فضلان، الإدريسي بن جبير. وكذلك رحلات الجزائريين كرحلة أبي راس الناصري المعسكري والحسين الورتيلاني، ورحلات كُتّاب وعلماء الجزائر كابن باديس والإبراهيمي وعلي مرحوم، وأحمد توفيق المدني وأبي القاسم سعد الله.. إضافة إلى الرحالة الأوربيين الذين زاروا الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية بالخصوص، ثم تُرجمت رحلاتهم إلى اللغة العربية، كرحلة: إيزابيل إيبرهاردت، ماسكوري، أندري جيد، كارل ماركس، هلتون سيبسون، هاينريش فون مالتسان.. وبالتأكيد أن هذا التراث الذي يندرج ضمن أدب الرحلة قد حفّزني أكثر على تدوين رحلاتي وتوثيق يومياتها.
حدّثنا عن تجربتك الخاصة في أدب الرحلة؟
كانت بدايتي في مجال التوثيق بالرحلة التي قادتني إلى الولايات المتحدة الأمريكية ممثّلا لوزارة التربية الوطنية رفقة بعثة عربية في نهاية عام 2006، والتي دامت (23 يوما) طُفنا خلالها بعديد الولايات والمدن الأمريكية، كواشنطن ومدينتي مينيابوليس وسانت بول بولاية مينيوسوتا، وتولسا بولاية أوكلاهوما، ولوس انجلوس بولاية كاليفورنيا، ومدن: كولومبيا وأورنجبورغ وشارلستون بولاية كارولينا الجنوبية.. وغيرها، وكانت فرصة ثمينة للاطلاع على المجتمع الأمريكي من الداخل، لاسيما مؤسساته الإعلامية والتربوية والاجتماعية والصحية، إلى جانب الكونغرس الأمريكي ومركز الأرشيف القومي. ولتوثيق تجربتي في (العالم الجديد) دوّنت (رحلتي إلى أمريكا) التي صدرت عام 2009.
وخلال عام 2009 وُجهت إليّ دعوة من قبل وزارة الثقافة التونسية وجمعية البحوث التاريخية، للمشاركة بمحاضرة ضمن فعاليات ملتقى العلامة محمد الخضر حسين الجزائري التونسي، شيخ الأزهر بمصر الذي عُقد بنفطة بولاية توزر، وقد كتبتُ سلسلة من المقالات حملت عنوان (ثلاثة أيام بالجريد التونسي) نُشرت حينذاك بيومية تونسية وأخرى جزائرية.
وقبلها كانت لي رحلة ثقافية إلى ليبيا عام 2005، دامت أسبوعا كاملا ضمن وفد جزائري، نشرتُ فصولا عنها بأسبوعية (إفريقيا) الليبية.