قال الخبير في الشؤون الاقتصادية، الدكتور فريد كورتل، إن الصناعة العسكرية في الجزائر عريقة، أما في الوقت الحالي، فقد تطوّرت كثيرا وصارت واعدة، لأنها اليوم تشهد نهضة إقليمية بارزة، بل أكد أنها تمكّنت من رفع التحدي بعد نجاحها في المساهمة في الناتج الداخلي الخام، وفوق ذلك، تساهم في استحداث مناصب الشغل وتخفض من كلفة الواردات، لذا فهي قاطرة حقيقية قوية وسريعة لتطوير الاقتصاد الوطني.
عكف الخبير الاقتصادي فريد كورتل، عشية الاحتفال باليوم الوطني للجيش، على استعراض نشأة وجذور بداية الصناعة العسكرية في الجزائر، بشكل دقيق ومستفيض، وقال إنها عريقة راسخة في التاريخ، معتبرا ـ في المقام ذاته ـ أن الحديث عن الصناعة العسكرية بالجزائر يقودونا إلى الوراء، وبالتحديد إلى الحقبة الاستعمارية التي تسجل فيها البدايات الأولى لنشأة الصناعة العسكرية، وهذا ما يعكس الوعي المبكر لدى الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني؛ لأن الصناعة العسكرية الجزائرية، بنظرة كرونولوجية، ليست وليدة اليوم كونها في الحقيقة تضرب بجذورها في التاريخ، وسجلت إنجازات كبرى، على اعتبار أن الأسطول الجزائري ظلّ يذكره التاريخ منذ العهد العثماني الذي ازدهرت فيه المدافع والسفن الحربية، حيث كانت الجزائر ورشة كبيرة تُصنع فيها مختلف هذه الأسلحة، وجعلت منها أعظم قوة بحرية في المنطقة، ثم جاءت بعد هذه الصناعة مرحلة الصناعة والتسلّح في عهد الأمير عبد القادر، حيث كان أفراد المقاومة في عهد الأمير عبد القادر يقومون بصناعة الأسلحة التي تؤرخ للصناعة العسكرية الجزائرية، ثم تواصلت إبان الثورة التحريرية، وطبعا كانت صناعات خفيفة وليست ثقيلة، أي فيما يحتاجه جيش التحرير الوطني، ولكن استمر التطور تدريجيا، وكانت الانطلاقة القوية واللافتة بوزن ثقيل لنشأة الصناعة العسكرية الجزائرية، من خلال مديرية الصناعات العسكرية بوزارة الدفاع الوطني التي تشرف حاليا على 23 مجمعا ومؤسسة للصناعات العسكرية وحتى المدنية.
قفزة نوعية للصناعة العسكرية
يرى الدكتور كورتل، أن المشهد العام للصناعة العسكرية بالجزائر اكتمل، وبرزت حتمية أن يكون الجيش طرفا داعما للتنمية ومكملا للنهضة الاقتصادية، لذا يمكن القول، إن الانطلاقة الواسعة والشاملة في القرن الواحد والعشرين، في حين، تعود اللبنات الأولى إلى ما قبل الاستعمار الفرنسي، بينما برزت الصناعة العسكرية بالمفهوم الحديث في سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأت السلطات بالسعي إلى تلبية حاجيات الجيش من ذخيرة وأسلحة خفيفة وبقيت في عقد الثمانينيات، حيث شمل صناعة بعض الزوارق السريعة بترخيص من شركة “بروك مارين”، وكذا بناء سفن صغيرة للحماية وسفن الصيد، فضلا عن سفن صغيرة للإنزال وصناعة الذخيرة، أما اليوم – أوضح الخبير- فالجزائر أحدثت قفزة تاريخية، فهي تصنع كل ما تحتاجه من أسلحة خفيفة وذخائر ومركبات وعربات نقل عسكرية وما إلى ذلك.
وذكر الخبير أنه من خلال 23 مؤسسة منتشرة عبر مختلف مناطق الوطن، على غرار ولاية سيدي بلعباس وقالمة وأم البواقي وباتنة وخنشلة ورويبة وغيرها من المؤسسات تحت وصاية مديرية الصناعات العسكرية، تنتج ما يحتاجه الجيش الوطني الشعبي وتلبي حتى طلب المدنيين في السوق الوطنية، وبالتالي، المساهمة في تنمية الاقتصاد الوطني.
ولم يخف الدكتور كورتل، أن الصناعة العسكرية في الجزائر قطعت أشواطا كبيرة، في ظل المساعي المتواصلة لترقيتها وتطويرها، ما سمح بتحقيق إنجازات معتبرة على مستوى مختلف مكوناتها مع تقديم منتجات متنوعة وعالية الجودة بهدف تلبية احتياجات الجيش الوطني الشعبي ودعم الاقتصاد الوطني وتحقيق عدة أهداف أخرى.
كما وقف الخبير بالتفصيل على الأداء الصناعي من خلال مركبات ينتظر منها الكثير مستقبلا، مؤكدا أن الصناعة العسكرية في الجزائر منصهرة ضمن الشق الاقتصادي، من خلال إشراف مديرية الصناعات العسكرية بوزارة الدفاع الوطني، على 23 مؤسسة كبرى، وتضمّ مؤسسات تتمثل في وحدات وكذلك مركّبات تضم عدة مؤسسات مختصة ذات أثر وحركية في النشاط الإنتاجي والاقتصادي، بالإضافة إلى مؤسسة البناء والتصليح البحري المختصة في بناء السفن وصيانتها، ومؤسسة الانجازات العسكرية ومؤسسة البناءات الميكانيكية ومؤسسة صناعة الطائرات ومؤسسة تجديد العتاد الخاص ومركز الهندسة والتطوير في الميكانيك والإلكترونيك، ومؤسسة تجديد عتاد الطيران، يعني أن هذه المؤسسات تنشط في مختلف القطاعات التي يحتاجها الجيش الوطني والسوق الوطنية. وتوفر للجيش الألبسة والعتاد الخفيف والأسلحة الرشاشة والمركبات والمدرعات التي يتمّ إنتاجها من طرف هذه المؤسسات.
الاكتفاء الذاتي
وتطرق الدكتور كورتل إلى أهداف تطوير الصناعة العسكرية في الجزائر، وقال إن الغرض من ورائها تحقيق جملة من الأهداف حسب قيادة أركان الجيش الجزائري، وفي صدارتها تلبية حاجيات الجيش والسعي للاكتفاء الذاتي، بالإضافة إلى تلبية مختلف حاجيات الأجهزة الأمنية والمؤسسات العمومية والاستجابة لحاجة السوق الوطنية عموما بهدف المساهمة في تطوير القاعدة الصناعية للجزائر.
ولا يخفى أن مسألة الاكتفاء الذاتي، تعد رهانا أساسيا راهنت عليه مديرية الصناعات العسكرية بوزارة الدفاع الوطني لتأمين ما يحتاجه الجيش بإنتاج وطني محلي ونسبة إدماج تصل إلى 100 بالمائة في بعض النشاطات الإنتاجية، وهذا رهان كبير، لأنه أعطى أفضلية وارتياحا كبيرا لتمويل الجيش الوطني الشعبي بكل ما يحتاجه، بسهولة تامة.
من جهة ثانية، تهدف الصناعات العسكرية إلى توفير مداخيل للدولة تضخها في عملية التنمية من خلال توقيف استيراد ما كان يستورد سابقا من حاجيات الجيش الوطني الشعبي، ويضاف إلى هذه الأهداف، أن الصناعة العسكرية سمحت بتدعيم جهود الاقتصاد الوطني في امتصاص البطالة، لأنه كما هو معروف، أن جميع مؤسسات الجيش خاصة المتعلقة بالصناعة العسكرية لها عمال من الجيش وعمال من المدنيين أي شبه عسكريين، وهذا ما ساهم في توظيف الآلاف من الشباب بمختلف مؤسسات الصناعة العسكرية، ويعتبر ذلك مساهمة فعلية للصناعات العسكرية في امتصاص البطالة، حقّقت هذه الصناعات خطوة أخرى، تتمثل في تشجيع المناولة والرفع من نسبة الإدماج الوطني، حيث إن مختلف المؤسسات العسكرية تلجأ في بعض الأنشطة الإنتاجية إلى مؤسسات القطاع الخاص والعمومي لاقتناء ما تحتاجه من مواد أولية، بدلا من استيرادها من الخارج، وهذا ما يرفع من نسبة الإدماج الوطني في الصناعات العسكرية التي وصلت في بعض المجالات إلى نسبة مائة بالمائة، منتوج محلي جزائري.
تخفيض الواردات وترشيد الإنفاق
وأثنى الدكتور كورتل على رؤية المؤسسة العسكرية في أن تكون داعمة للاقتصاد الوطني ومساهمة في الحفاظ على مكتسباته وعلى المال العام، من خلال ترشيد الإنفاق عبر إقامة صناعات عسكرية مهمة للسوق الوطنية. لذا عند ذكر الصناعات العسكرية في الجزائر ـ يواصل كورتل ـ يجب الحديث عن عوامل أساسية تدخل ضمن تطوير القطاع، ومن بينها سعي مديرية الصناعات العسكرية إلى الحدّ من التبعية الإستراتجية في مجال التسلح من خلال تطوير الصناعات المحلية وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وكذا التخفيف من العبء المالي للواردات العسكرية، ما يسمح بتخفيض الوارادات العسكرية، وهذا بدوره يساهم في التقليص من فاتورة الواردات من ميزانية الدولة، وتوفير جزء معتبر من العملة الصعبة التي تضاف لاحتياطي الصرف.
وعن أبرز انجازات الصناعات العسكرية ذات الأثر على الاقتصاد الوطني، تحدّث كورتل عن نجاح المؤسسة العسكرية في الإشراف على كثير من المؤسسات التي كانت على وشك الإفلاس والانهيار، فأنقذت آلتها الإنتاجية بعد أن حوّلتها إليها، مثل مركب الجرارات والمحركات بواد حميمين الكائن بقسنطينة، ومركب الرافعات بعين السمارة، ومركب رويبة لصناعة الحافلات والشاحنات، وهذه المؤسسات شهدت تذبذبا وانهيارا، وحوّلت إلى الصناعة العسكرية، ما سمح بإعادة بعثها والمحافظة عليها كمكتسبات قوية في الصناعة الجزائرية والاقتصاد الوطني، وقد أصبحت اليوم مؤسسات رائدة، سواءً مؤسسة صناعة الجرارات بواد حميمين بشراكة ألمانية أو مصنع رويبة لصناعة الشاحنات والحافلات، وهذه المؤسسات صارت قوية جدا في أدائها بعد تحويلها إلى مديرية الصناعات العسكرية، لأنها صارت المالكة والمشرفة على إدارتها ومنحتها دفعا قويا للمساهمة في الإنتاج الوطني.
مؤشرات تعكس نمو الاقتصاد
وسلّط الدكتور كورتل الضوء على الدور الجديد المهم الذي تقوم به الصناعات العسكرية في دعم الاقتصاد الوطني، وعكست دور الجيش الوطني الشعبي في المساهمة في تحسين أداء الاقتصاد الوطني، لأن محصلة أدائها يرفع من الناتج الداخلي، وكونه أحد المؤشرات القوية والهامة على تطور الاقتصاد الوطني، ما يجعل الجيش الوطني الشعبي فاعلا أساسيا في دفع عجلة الاقتصاد نحو الأمام.
وأفاد كورتل أن الصناعة العسكرية أُسست بغرض تلبية احتياجات السوق الوطنية مثل السيارات النفعية والسياحية والشاحنات، وتمّ إنتاج أكثر من 160 ألف مركبة في مصنع تيارت، وجهت إلى الجيش ومختلف الأسلاك والمؤسسات الوطنية وحتى للأشخاص المدنيين في وقت سابق، وهذه الصناعة استفادت منها السوق الوطنية بصورة كبيرة بمنتجات ذات جودة عالية بمواصفات عالمية وأسعار جيدة، وما ساعد في تقليص فاتورة الاستيراد وساهم في تطوير النسيج الصناعي الوطني، ومن ثمّ المساهمة في الناتج الداخلي الخام للاقتصاد الجزائري الذي يعوّل عليه رئيس الجمهورية كثيرا في أن يصل إلى 200 مليار دولار، بعد أن كان في 2021 في حدود 164 مليار دولار، ويقف الجيش الوطني الشعبي كما ظلّ على عهده دائما إلى جانب شعبه، ليجسّد مختلف الرهانات المصيرية ذات الأولوية.