تعتبر القدرة على التأقلم مع متغيرات ومعطيات يعرفها العالم، أحد المعايير التي يعتمد عليها في تحديد مدى تقدم الدول وقدرتها على بناء مجتمعاتها واقتصادياتها، التي يعتبر المورد البشري بالخصوص فئة الشباب، المادة الخام المعوّل عليها.
الجامعة كمنبت أساسي لهذا المورد، لها دورها الريادي في إنتاج الكفاءات، وقد خطت الجامعة الجزائرية في ذلك، شوطا معتبرا بانتقالها من الجيل الثالث إلى الجيل الرابع، وتطلعها بنظرة استشرافية إلى مستقبل بعنوان ريادة الأعمال والذكاء الاصطناعي.
وقد قدّم رئيس اللجنة الوطنية التنسيقية لمتابعة الابتكار وريادة الأعمال الجامعية، ممثل وزير التعليم العالي والبحث العلمي، ومدير الدراسات على مستوى المديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، البروفيسور أحمد مير، من خلال حوار خصّ به “الشعب”، أهم ما تضمنته تجربة الجامعة الجزائرية الرائدة ومقاربتها الجديدة من أجل ترسيخ ثقافة المقاولاتية وتكوين رواد أعمال يعوّل عليهم في بناء نسيج اقتصادي وطني قوي.
“الشعب”: بروفسور.. كيف ترون اليوم، أداء الجامعة الجزائرية في ظلّ الرهانات التي تطرحها المتغيرات العالمية خاصة الاقتصادية منها، وهل يمكننا القول إنها قد تمكنت من مواكبتها وحجز مرتبة متقدمة بين نظيراتها من الجامعات العالمية؟
البروفيسور أحمد مير: كما تعلمون، تعرف الجامعة الجزائرية اليوم، ديناميكية حقيقية في التحوّل من جامعة من الجيل الثالث إلى جامعة من الجيل الرابع، على غرار التحولات التي عرفتها الجامعات العالمية خاصة بأوروبا الغربية، كندا وأمريكا. ونقصد بالجامعة من الجيل الرابع، تلك التي – إلى جانب مهامها التعليمية – تعنى بالبحث العلمي وتثمين مخرجات البحوث العلمية، بالإضافة إلى كونها مرتبطة بالحياة الاقتصادية، باعتبارها جامعة منتجة، سواء تعلق الأمر بالمنتجات الابتكارية أو بالخدمات التي تقدمها للمجتمع. فالجامعة التي يعرفها العالم اليوم، ونسعى لتجسيدها ببلادنا، هي تلك التي تتفاعل والبيئة الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بها وذات الصلة الوطيدة بها، فهي تختلف عن سابقاتها من الجيل الأول والثاني والثالث، المنحصرة بين أسوار مدرجاتها ومنغلقة على محيطها الداخلي، كونها منفتحة كليا على الاقتصاد الوطني وحتى العالمي وعلى المجتمع، حيث يتفاعل المواطن مع جامعته، ليقيم وبثمن فيما بعد ما تقدمه الجامعة.
هل من الممكن أن تحدثونا عن جملة الإجراءات التي اعتمدتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من أجل جعل الجامعة أرضية مهيئة ومنصة انطلاق لتجربة ريادة الأعمال والمؤسسات الناشئة التي تقوم عليها المقاربة الاقتصادية في هيكلها الجديد؟
فعلا، لقد سطّر قطاعنا الوزاري إستراتيجية واضحة المعالم، لإدماج الجامعة الجزائرية في الحياة الاقتصادية، حيث تعرف هذه الأخيرة، منذ سبتمبر 2022 نقلة نوعية، من خلال جملة البرامج والاستراتيجيات التي اقترحها وزير التعليم العالي والبحث العلمي، البروفيسور كمال بداري، في الشقّ المتعلق بالمقاولاتية أو ما يسمى اليوم بريادة الأعمال، حيث تمّ إنشاء اللجنة الوطنية التنسيقية لمتابعة الابتكار وريادة الأعمال الجامعية، تحديدا في الـ25 سبتمبر 2022، تتكون من 42 عضوا من مختلف أنحاء الوطن، زيادة إلى خبراء من مختلف التخصصات، وتتمثل مهمتها الأساسية في رسم الإستراتيجية الكفيلة بتحويل ذهنية الطالب من باحث عن منصب شغل إلى خلاق للثروة، من خلال إنشاء مؤسسته المصغرة الخاصة، وإيداع أكبر عدد ممكن من براءات اختراع.
واستكمالا لهذه الخطوة، تمّ مباشرة إصدار القرار الوزاري 75/12 في 27 سبتمبر 2022، المتعلق بطلبة أطوار التعليم العالي الثلاث، حيث جاء هذا الأخير ليؤكد ويرسخ التوجّه الحقيقي الجديد للجامعة الجزائرية، كقاطرة حقيقية للتنمية الاقتصادية للبلاد، وذلك تنفيذا لما جاء في الالتزام رقم 41 لرئيس الجمهورية. حيث حرّر القرار الوزاري، الذي ذكرناه سالفا، مذكرات التخرج من رفوف المكتبات ومن هيكلها الكلاسيكي، من خلال تثمينها وتحويلها إلى مشروع مبتكر لشركة ناشئة أو مصغرة، أو لطلب براءة اختراع، كما تضمن القرار بين أسطر مواده إمكانية تكتل مجموعة طلبة، من طالب إلى ستة طلبة من كليات مختلفة بهدف إنشاء مؤسسة ناشئة بدءا من براءة اختراع، ووصولا إلى تجسيد الشركة الناشئة.
كيف كان التجاوب مع هذا القرار من طرف الطلبة والمحيط الجامعي بصفة عامة؟ وما الإجراءات البيداغوجية التي تندرج في إطار تجسيده؟
لقد عرف القرار الوزاري الذي شرعنا في تجسيده منذ 27 سبتمبر 2022، ديناميكية وحركية كبيرة كان لها أثرها الواضح في تحفيز الطلبة وتحريك الوسط الجامعي في سابقة غير مشهودة من تاريخ الجامعة الجزائرية منذ الاستقلال، حيث سجّلنا إقبالا كبيرا للطلبة من أجل التسجيل للحصول على شهادة مؤسسة ناشئة. فقد تمّ تسجيل في الفترة الممتدة ما بين شهر أكتوبر إلى نهاية شهر جانفي، 11 ألف فكرة مبتكرة قابلة للتجسيد كمؤسسة ناشئة أو مؤسسة مصغرة. تمّ انتقاء 6 آلاف فكرة منها قابلة للتثمين والتحويل إلى مؤسسة ناشئة.
بعد ذلك، وكمرحلة ثانية، قامت حاضنات الأعمال البالغ عددها 94 حاضنة بمختلف مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي على المستوى الوطني بمرافقة الطلبة، من خلال إخضاعهم إلى تكوين مكثف في مجال ريادة الأعمال والمقاولاتية، ومتابعتهم على مستوى مخابر البحث من أجل انجاز نماذجهم الأولية، ليتمكن العديد منهم من تطوير نماذجهم الأولية ووصولها إلى مستوى 3 أو 4 من مستوى TRL، المعتمد في عملية تقييم النماذج الأولية، ليتمّ تسجيل المشاريع بعد ذلك في المنصة الرقمية التابعة للجنة الوطنية لمنح وسم “لابل مؤسسة ناشئة” أو “لابل مشروع مبتكر، أو “لابل حاضنة أعمال”، وفي هذا الصدد، تمّ تسجيل أكثر من 1600 فكرة على مستوى منصة startup.dz التابعة لوزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمصغرة، حيث ستقوم اللجنة الوطنية بمعالجة هذه الطلبات بمعدل اجتماع كل أسبوع. ومن باب الإحصاء وبلغة الأرقام فقد بلغ عدد المشاريع التي حصلت على وسم “لابل مشروع مبتكر” 194 مشروع. ما يعتبر انطلاقة موفقة ومشجعة للمقاربة الجامعية الجديدة القائمة على إنشاء المؤسسات الناشئة.
ألا ترون أن ريادة الأعمال وعالم المقاولاتية، تجربة جديدة ومغامرة يخوضها طلبتنا، تحتاج إلى مرافقة دائمة ويد ممودة من طرف السلطات العمومية، لتفادي النتائج السلبية وتحقيق النتائج المنتظرة منها؟
من بين بنود ومميزات الجامعة من الجيل الرابع، مرافقتها المستمرة لطلبتها وعدم التخلي عنهم، حتى بعد التخرج. من هذا المنطلق قام وزير التعليم العالي والبحث العلمي بإسداء تعليمات إلى كل مسؤولي المؤسسات الجامعية، بتخصيص فضاءات في شكل مكاتب لأصحاب المؤسسات الناشئة المتخرجين حديثا من الجامعات، من أجل تمكينهم من توطين مشاريعهم وإعطائها الصبغة القانونية من أجل الحصول على السجل التجاري، حيث وفرت الجامعة الجزائرية أزيد من 1000 مكتب، يمنح للاستغلال من طرف أصحاب المشاريع المتحصلة على وسم “لابل مشروع مبتكر” أو “لابل شركة ناشئة”، لمدة سنة قابلة للتجديد لسنة ثانية، دون إخضاعهم لأية رسوم، تحفيزا وتشجيعا لهم. كما قام وزير التعليم العالي بإسداء تعليمات تتعلق بوضع تحت تصرّف الطلبة، منصة رقمية تسمى “ابتكار”، لتوجيههم من الجامعات إلى مراكز البحوث والمنصات الرقمية ذات الاختصاص البيولوجي والكيمائي من أجل انجاز نماذجهم الأولية واختبار مشاريعهم الابتكارية على مستوى هذه المراكز والمنصات، ما يسمح لهم بتطوير نماذجهم الأولية، وجعلها قابلة للتصنيع والتحويل إلى منتوج مبتكر تنتجه المؤسسات الناشئة.
هل فعلا أنه لا يمكن للجامعة الجزائرية، أن تنجح في تجسيد مقاربتها الجديدة دون اللجوء إلى مرافقة من مختلف الهيئات، لتكملة جملة الخطوات البيداغوجية على مستوى مختلف هياكلها؟
أكيد، فدائما وفي إطار الإستراتيجية الجديدة لقطاع التعليم العالي والبحث العلمي، وتحقيق جامعة من الجيل الرابع كان وزير التعليم العالي قد أسدى تعليمات بضرورة تسهيل وتسريع عملية إيداع الطلبات، من خلال الشركات الفرعية التابعة لمؤسسات التعليم العالي، التي لم يتجاوز عددها من الاستقلال إلى غاية سبتمبر 2022، 10 شركات فرعية تابعة لمؤسسات التعليم العالي، ليصبح عددها اليوم 102 مؤسسة فرعية في مختلف مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، وذلك تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية بضرورة إنشاء مكاتب دراسات على مستوى المؤسسات الجامعية ما يسمح لنا بالاستغناء على مكاتب الدراسات الدولية، التي كلفت الخزينة العمومية مبالغ ضخمة بالعملة الصعبة. خاصة وأن الجزائر تمتلك مكنونا بشريا خبراتيا لا يستهان به ومخابر بحوث متطورة، ما يجعلنا على يقين من قدرة هذه المؤسسات الفرعية على تقديم القيمة المضافة للاقتصاد المحلي.
كما تمّ إنشاء 17 دار ذكاء اصطناعي، تقوم بالدرجة الأولى بتوعية المواطن والوسط الجامعي وكل ما هو متعلق بالذكاء الاصطناعي وأخلاقيات استعماله، حيث تمكنت الإستراتيجية المعتمدة من تحقيق أهدافها، ونطمح لتزويد كل مؤسسات التعليم العالي بدار ذكاء اصطناعي لتعميم استعمالاته في جميع المجالات، خاصة وأن وزير التعليم العالي والبحث العلمي، بالشراكة مع وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة كان قد أعلن عن إطلاق عام 2023 ، سنة ذكاء اصطناعي.
بالوقوف عند النتائج المحقّقة وبلغة الأرقام، ما تقييكم لتجربة ريادة الأعمال بالجامعة الجزائرية، وهل يمكن القول إنها نجحت في إقناع الطالب الجزائري بالتوجّه إلى عالم المقاولاتية بدل البحث عن منصب شغل بعد التخرج؟
بعد مرور أكثر من 9 أشهر على إصدار القرار 75/12 المتضمن “شهادة – مؤسسة ناشئة” ، “شهادة – براءة اختراع”، سجلنا إلى غاية 20 جويلية الفارط مناقشة أزيد من 2200 مذكرة تخرج في إطار “شهادة – مؤسسة ناشئة”، ومن المنتظر انطلاق مناقشة الدفعة الثانية شهر سبتمبر القادم ليصل إجمالي مذكرات التخرج التي تمّت مناقشتها في إطار القانون 75/12 ، إلى 4 آلاف مذكرة تخرج، حيث تختلف هذه الأخيرة عن سابقاها الكلاسيكية، كونها تعتبر بطاقة تقنية واقتصادية لمشروع اقتصادي، سواء كان مشروعا لمؤسسة اقتصادية أو مشروعا لبراءة اختراع، كما نأمل أن تتحوّل المذكرات التي تمّت مناقشتها في هذا الإطار إلى مؤسسات ناشئة ومؤسسات مصغرة في غضون الأشهر المتبقية من سنة 2023. خاصة وأن الطالب المتخرج قد تلقى تدريبا مكثفا في مجال المقاولاتية وكيفية إعداد البطاقة التقنية والاقتصادية لمشروعه، خلال مرحلة إعداد نموذجه الأولي، ليتمكن من تجسيد مشروعه على أرض الواقع بجدارة.
أظن أننا قد توصلنا إلى تحقيق الأهداف المسطرة، خاصة فيما تعلق بغرس ثقافة ريادة الأعمال في الوسط الجامعي، التي تعتبر اللبنة الأساسية للانطلاق نحو تجسيد أهداف الالتزام رقم 41 لرئيس الجمهورية، المتعلق بجعل الجامعة قاطرة حقيقة للتنمية الاقتصادية للبلاد. فمن بين الأهداف المحقّقة جراء تطبيق القرار الوزاري 75/12 ، هي أننا ولأول مرة تمكن قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، من إيداع 853 طلب براءة اختراع، مرشحة إلى بلوغ 1500 براءة اختراع في غضون الأشهر المتبقية من سنة 2023، كما تمّ تسجيل 734 مشروع جاهز لأن يحول إلى مؤسسة مصغرة، مستفيدا في ذلك من الصيغة الجديدة للوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية، المخصصة لمرافقة الطلبة الجامعيين، حيث تمّ استحداث في هذا الإطار، مراكز لتطوير المقاولاتية، بلغ عددها 84 مركزا على مستوى مؤسسات التعليم العالي، بالشراكة مع وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، لتكون لبنة حقيقة لغرس ثقافة المقاولاتية في الوسط الجامعي، لتحويل مشاريع التخرّج للطلبة إلى مشاريع اقتصادية حقيقية، بتمويل من الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية.
هل من جديد للدخول الجامعي الجديد 2023 ـ 2024، في مجال تكوين الطلبة رواد الأعمال المستقبليين؟
أكيد تعتزم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إطلاق برنامج مكثف، بداية شهر سبتمبر لتدريب المدربين، مهمة تمّ إسداؤها إلى خبراء من مكتب العمل الدولي، ليقوم بعدها المتدربون المستفيدون من البرنامج المكثف، بتدريب زملائهم على مستوى مؤسسات التعليم العالي، ليتمكنوا بدورهم من تدريب الطلبة المقبلين على تجسيد مؤسساتهم الناشئة، وتمكينهم من أبجديات تسييرها، المتعلقة بكيفية إنشاء شركة، البيئة الداخلية والخارجية للمؤسسة، الجانب المالي، الجبائي والتسويقي للمؤسسة وغيرها من المحاور الأساسية التي تقوم عليها المؤسسة الاقتصادية. كذلك تمّ إطلاق صفة “الطالب المقاول” بالشراكة مع وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، ستمنح للطالب الراغب في إتباع هذا النوع من التعليم العالي ابتداء من السنة الأولى ليسانس أو ماستر، ما سيمنح له امتيازات عديدة متعلقة بالبرنامج الدراسي، الامتحانات وغيرها، لتسهيل عملية إنشاء مؤسسته المصغرة بالموازاة مع مساره التعليمي بالجامعة الذي لا يتنافى مع تكوينه القاعدي الذي اختاره.