تجتهد الجزائر لجعل البحث العلمي من أولويات برامج وتصورات الحكومة، وفي الحقيقة، ليس لها خيار آخر غير هذا، إذا ما أرادت فعلا فرض نفسها في مشهد الاقتصاد العالمي، ومجابهة تحدياته ورهاناته المطروحة على أكثر من صعيد، حيث لا تزال بعيدة كل البعد عما تنفقه الدول المتقدمة وحتى بعض الدول السائرة في طريق النمو من أموال على الأبحاث العلمية، التي حرصت على إخراجها من وصاية الجامعة، وجعلت منها سياسة مركزية في عمل حكوماتها، هذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية، وما تفطنت إليه الصين لاحقا، وبدأت بعض الدول في سلك هذا المسار، ومنها الهند وتركيا وحتى الكاميرون …
أ.محمد قحش*
من هنا جاء اهتمام الدولة بالبحث العلمي، من منطلق أنه العمود الفقري الذي يرتكز عليه جسد المجتمعات المتطورة والمقياس الذي بات يحدد مدى تطور وتقدم وقوة أي دولة في العالم، قدر اهتمامها أيضا بالتعليم العالي، وحرصها الشديد على إصلاح المنظومة الجامعية، والسهر على عصرنتها بهدف تحقيق الجودة والنجاعة في التعليم العالي والبحث العلمي، واستدراك التأخر المسجل في هذا القطاع المهم والحساس، حتى تتمكن الجامعة الجزائرية من استعادة عافيتها وإيجاد تصنيف لها ضمن المراكز المتقدمة في الترتيب العالمي.
ماذا حققت البحوث الجامعية؟
إن تسليط الضوء على البحث العلمي في الجامعة الجزائرية، يحيل بالضرورة إلى طرح سؤال مهم وهو، ماذا استفاد الاقتصاد الوطني والمجتمع من وراء هذه البحوث؟
والمقصود هنا طبعا النتائج الملموسة التي حققتها مشاريع البحوث العلمية المنجزة على أرض الواقع حتى اليوم، وهل ساهمت فعلا في تفعيل ديناميكية التنمية؟
المفروض هذا هو الدور المنوط بالجامعة ومخابر البحث العلمي في الدول المتقدمة، التي بلغت الرفاه والرقي بالعقول والعلوم وإنتاج المعرفة، وصناعة النخب والكفاءات التي يحتاجها المجتمع والدولة…
بل إن بحوث التخرج الغزيرة لشهادات الماستر والدكتوراه المكدسة في مصالح الأرشيف، دون التفكير في العودة إليها وتحويلها إلى مشاريع إقتصادية مفيدة، يؤكد مدى حجم الفجوة الكبيرة القائمة بين التعليم العالي والبحث العلمي، وبين إستراتيجية التنمية الاقتصادية التي تراهن عليها الدولة من أجل تحقيق التنمية المستدامة المنشودة، وإلا أي دور للجامعة والبحث العلمي، إن لم يساهما في تحقيق التطور وتنمية البلاد والعباد.
إستقلالية البحث العلمي والابتكار
أولا، من باب الإنصاف، وحتى نعطي كل ذي حق حقه من الاهتمام والدعم والمتابعة، وبهدف بلوغ النجاعة وتحقيق النتائج الإيجابية المرجوة، ورفع المردودية في العمل، وجب فصل البحث العلمي عن التعليم العالي، وتخصيص وزارة للبحث العلمي تكون مستقلة عن وزارة التعليم العالي، لأن أهمية البحث العلمي تقتضي ذلك، ولا يجب اختزالها في مخبر للبحث تابع لجامعة أو لأخرى.
وعليه فإن جمع البحث العلمي والتعليم العالي في وزارة واحدة، لن يؤدي إلى تحقيق النتائج التي نتطلع إليها جميعا، شعبا ودولة، بالنظر إلى أهمية البحث العلمي من جهة، الذي يتطلب التفرغ التام والدعم والتركيز والمواصلة، والتعليم العالي الذي يتطلب بدوره المتابعة والاهتمام في عملية الإصلاح من جهة أخرى، علما أن العديد من الدول قد سارعت إلى استحداث وزارة للبحث العلمي والابتكار، مستقلة عن التعليم العالي، ومنها بعض الدول الإفريقية مثل الكاميرون وأوغندا، وفي أوروبا هناك بريطانيا وإسبانيا وبولندا، والعديد من الدول الآسيوية مثل الصين والهند وإيران والفيتنام وماليزيا، وفي أمريكا الجنوبية، نجد الأرجنتين والتشيلي والبرازيل والأمثلة كثيرة.
ثانيا، إن طبيعة المرحلة الجديدة وتوجه الدولة نحو الاقتصاد القائم على العلم والمعرفة والذكاء الإصطناعي، يفرض ضرورة الاهتمام أكثر بالبحث العلمي، وضخ ميزانيات معتبرة لمشاريعه وابتكاراته، وتسويق براءات الاختراعات.
تخصيص وزارة خاصة بالبحث العلمي والإبتكار، يعني إدراج هذا المجال ضمن الميزانية العامة للدولة، تكون مكرسة للبحث العلمي فقط، والمشاريع العلمية التي تساهم في التطور والرقي ونمو الاقتصاد الوطني.
ثالثا، إن مهمة وزير البحث العلمي والابتكار الجديد، ستكون في هذه الحالة مكرسة للسهر على المخابر ودعم المشاريع العلمية، وتشجيع مختلف الإبتكارات وتسويق براءات الإختراعات والترويج لها، والحرص كل الحرص على توفير بنية تحتية علمية جد متطورة لمخابر البحث، وتشجيع الباحثين وتوفير كل سبل النجاح لهم ومرافقتهم، والسهر على تأطير المخترعين، إلى غاية بلوغ مرحلة تسويق المشاريع العلمية، والعمل على إيجاد السبل الكفيلة باستقطاب وإقناع القطاع الخاص للاستثمار في مراكز البحث العلمي.
هكذا يمكن رسم خريطة الطريق لمستقبل مستدام، للنهوض بالتنمية وإحداث نهضة إقتصادية حقيقية، من خلال إشراك كل الوزارات في العملية، لاسيما وزارة الصناعة والتجارة والطاقة والمناجم، والعلوم التكنولوجية والزراعة، وحتى العلوم الإنسانية، والتنسيق مع وزارة البحث العلمي والمساهمة في تمويل المشاريع العلمية التي تخدم قطاعها، وترفع من إنجازاته ونجاعته، عن طريق اقتطاع جزء من ميزانيتها وإنفاقها لهذا الغرض.
أبحاث قصيرة النظر
لقد ظل البحث العلمي في الجزائر حبيس الممارسة النظرية دون الخوض في التجارب التطبيقية الجادة، بمفهومها الحقيقي والعميق، ورهينة الأهداف الضيقة، مما حال دون انفتاحه على القضايا الاجتماعية والتحديات والرهانات التي يشهدها العالم اليوم بشكل متسارع، وهو ما جعل أغلب البحوث، لا تفي بالغرض وبعيدة كل البعد عن متطلبات سوق العمل.
وعليه فإن حل هذه الإشكالية المطروحة بحدة، يفرض ضرورة التخلص من الذهنيات السلبية السائدة، والتخلي عن الحسابات الضيقة، والتوجه نحو توجيه البحوث العلمية، وتطوير مناهجه ودعم المشاريع العلمية التي تتوفر على معايير الجودة وتخدم المصالح الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وتتوافق والأهداف والمخططات الإستراتيجية التي وضعتها الدولة، ولا داعي لهدر الأموال في البحوث المتشابهة والمتكررة والفاقدة للفعالية، أو دعم البحوث الهزيلة، التي لا تمنح أي قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، ولا تعمل على تطوير وتيسير الحياة العامة للشعب.
آن الأوان لإرساء قاعدة بحثية قوية ومتينة، يمكن من خلالها التطلع إلى التطور والتقدم الذي تطمح له الدولة والشعب، وتدفع عجلة التنمية إلى الأمام!!
إشكالية الإنفاق
من الصعب تقبل حقيقة أن الجزائر تحتل المراتب الأخيرة في الإنفاق على البحث العلمي والتطور التكنولوجي والابتكار على المستوى العالمي، حيث لم تتعد الميزانية المرصودة لهذا الغرض على مدار سبع سنوات الأخيرة) 2015 -2022 (57 مليار دج، أي 420 مليون دولار أمريكي، وهو ما يعادل 8 ملايير دج، أي 60 مليون دولار أمريكي سنويا، موزعة على 1661 مخبرا و29 مركز بحث و43 وحدة بحث المنتشرة عبر الوطن، يضاف إليها 24 محطة للتجارب وعدد من الأرضيات التكنولوجية والمنصات التقنية، (المصدر: وكالة الأنباء الجزائرية 26 مارس 2022)، في حين بلغ عدد الجامعات الموزعة عبر التراب الوطني 66 جامعة…
للأسف ما أنفقته الجزائر على البحث العلمي خلال سبع سنوات كاملة مازال قليلا مقارنة بميزانيات ببعض الدول المحسوبة على دول العالم الثالث، فأما ما تنفقه الدول المتطورة والقوية، يفوق ميزانيات دول بأكملها، لأنها تعدت بكثير ملايير الدولارات، كما أن أغلب مخابر البحث العلمي الكثيرة الموجودة في الجزائر، تفتقد للبنية البحثية العلمية، وقد يقف هذا وراء احتلال بلادنا مؤخرة الترتيب، ومبررا لغيابها عن المجلات العلمية العالمية.
القطاع الخاص.. الغائب الأكبر
من المؤسف القول أن البحث العلمي في الجزائر يفتقد لإستراتيجية واضحة المعالم ومحددة الأهداف، ولا حتى ميزانية مستقلة، كما أن مراكز البحوث العلمية لا تملك أجهزة أو بالأحرى أنظمة متخصصة لتسويق ما تنتجه من أبحاث، حتى تتحول إلى مشاريع إقتصادية مربحة ومهمة، تتوافق ومخططات التنمية التي وضعتها الدولة، ناهيك عن هشاشة العلاقة القائمة بين مخابر البحث العلمي والقطاع الخاص، وتلك أهم إشكالية مطروحة في مسألة البحث العلمي!! فإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، الرائدة عالميا في البحث العلمي والإبتكار، قد إكتفت بعدد قليل من الوزارات في حكومتها، وعمدت إلى جعل قطاع التعليم بمفهومه الشامل، الابتدائي والمتوسط والثانوي وحتى التعليم العالي تحت وصاية وزارة واحدة، هي وزارة التربية، إلا أنها حرصت على أن تجعل من البحث العلمي والإبتكار مراكز مختصة ومستقلة بذاتها، وأغلبها تابعة للقطاع الخاص، نعم القطاع الخاص الذي لا يزال الغائب الأكبر عن مشاريع البحث العلمي في الجزائر، ويواصل مجانبة فكرة الاستثمار فيه، وتعتبر الجامعات ومراكز البحث التي يزيد فيها دعم القطاع الخاص للبحث العلمي وينخفض بها الدعم الحكومي، هي الدول الأكثر تقدما في مجال البحث العلمي والأكثر تطورا إقتصاديا.
من الخطأ أن يظل القطاع الخاص، باعتباره رقما مهما في المعادلة الاقتصادية، منغلقا على نفسه، ودون إشراكه للاستثمار في مشاريع البحث العلمي والابتكارات، وفي تسويق براءات الإختراعات.
وعليه فإن تصحيح هذا الخطأ، يتطلب إقناع وتوعية الخواص بمدى أهميتهما في تنمية وتطوير نشاطهم، وكذا إيجاد آلية داعمة ومحفزة على الانصهار في هذا التوجه، من خلال رسم خطة محكمة تكون كفيلة بجعل الخواص يقبلون على الاستثمار في مشاريع البحث العلمي والابتكارات، ويتسابقون على تمويلها وتسويقها، دون إقصاء المخترعين العاديين، من غير المتحصلين على شهادات جامعية، الذين يتعين تأطيرهم وتمويل مشاريعهم.
لقد لجأت بعض الدول إلى إجبار القطاع الخاص على المساهمة في تمويل الأبحاث العلمية، عن طريق تخصيص نسبة معينة من أرباح الشركات الخاصة، وجعله طرفا مهما في نجاحها، أو فرض رسوم وضرائب إضافية موجهة لفائدة البحث العلمي، في حين عمدت بعض الدول الأخرى إلى تخفيف الضرائب على الشركات الخاصة التي تساهم في تمويل الإبتكارات ومراكز البحث العلمي، أو فرض ضريبة صغيرة على مكالمات الهاتف النقال، موجهة خصيصا إلى الأبحاث العلمية، وهي وسيلة تجعل حتى المواطن العادي مساهما في نهضة البحث العلمي، وشيئا فشيئا تترسخ ثقة وإيمان القطاع الخاص بمؤسسات البحث العلمي، وتتوطد العلاقة بينهما بمرور الوقت، بعد أن أدرك الخواص مدى أهمية مراكز ووحدات البحوث العلمية في حل مشاكلهم الفنية والتقنية وحتى الادارية، وتطوير إنتاجهم وتحسين نوعيته، فيزيد الإحساس بالمسئولية الوطنية، وينمي لديه حس المواطنة وروح المسؤولية إزاء المجتمع، فيدفع به ببذل مزيد من المشاركة والدعم على البحث العلمي والإبتكار والذي يؤدي إلى النمو الاقتصادي وتحقيق الرفاه الاجتماعي.
غياب التغطية الإعلامية
لا تزال البحوث العلمية مهمشة في وسائل الإعلام، ونادرا ما تخصص لها حيزا في فضاءاتها المتعدد والمتنوعة، ويعد هذا أكبر عائق يمكن أن يواجهه الباحثون أنفسهم، للتعريف بمشاريعهم العلمية ومختلف الاختراعات والابتكارات التي توصلوا إليها، بل إن عدم الإهتمام بالأبحاث العلمية يقتل العزيمة فيهم، وروح المثابرة والاجتهاد لديهم، ولا يشجعهم إطلاقا على المواصلة في هذا المسار.
ولتجنب هذه النتائج السلبية التي لا تخدم مصلحة البلاد ولا البحث العلمي ولا الجامعة في حد ذاتها، وجب إخراجها من الظل إلى النور، حتى تتمكن البحوث العلمية أخذ حقها من التغطية العلمية والنشر والمكانة التي تليق بها، وأن تسخر لها وسائل إعلام متخصصة أو موضوعاتية، لإبرازها وتسليط الضوء على الابتكارات وبراءات الاختراعات والترويج لها، والحرص على نشر البحوث العلمية الجزائرية في المجلات الدولية المتخصصة في هذا المجال، لتحسين ترتيب الجامعات الجزائرية في التصنيفات العالمية، وتعزيز المنافسة سنويا بين الباحثين، من أجل الاجتهاد لتقديم الأفضل، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى تفعيل حركة النشاط العلمي، بل وإحداث نهضة حقيقية، علمية واقتصادية بين الجامعات ومراكز البحث العلمي، وحتى نظيراتها في الخارج.
تجارب تسويق الإنتاج العلمي
لقد أثبتت تجارب كثير من الدول، أن الإقتصاد العالمي قائم اليوم على الأفكار والخطط المربحة، التي ترفع من معدلات نموه، وتعزز مكانة وقوة هذه أو تلك الدولة في المشهد العالمي، ففي رياضة كرة القدم مثلا، هناك من الدول مَن استثمرت فيها أمولا ضخمة، وأنفقت مبالغ خيالية للحصول على خدمات أقوى اللاعبين وأشهر نجوم الكرة المستديرة من دول أخرى بغض النظر عن حجم هذه الدول إقتصاديا أو سياسيا، فالموهبة ليس لها حدود، وضمهم إلى بطولاتها، بهدف رفع المستوى وتحقيق الانتصارات وحصد الكؤوس والألقاب الوطنية والإقليمية والعالمية، التي تستقطب السياح وهواة كرة القدم من مشارق الدنيا ومغاربها، فتجني أموالا وتزيد في حركة ونشاط هذا القطاع، هكذا تصنع السياحة الرياضية !
وهكذا أصبحت المواهب في أي قطاع عملة نادرة وباهظة الثمن!، ولأن سياسات الدول تختلف، والأهداف والأفكار كذلك، فضلت الكثير من الدول المتطورة، رصد ميزانيات ضخمة لجلب علماء دول أخرى بغض النظر عن جنسيتهم، فوفرت لهم أحسن ظروف العمل، وقدمت لهم كل الدعم وكذا الامتيازات المغرية في سبيل الاستفادة من أبحاثهم العلمية واختراعاتهم، لأنها تؤمن بمدى أهمية ذلك، ومتيقنة أن ما أنفقته لن يساوي شيئا أمام الأرباح التي ستحققها من وراء تسويق إنتاجهم العلمي عالميا، فالثراء ليس فقط بامتلاك الثروات الطبيعية التي تبقى في كل الحالات والأحوال نعمة مهمة وجب تثمينها، لكنها تبقى غير كافية في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم، من تطور تكنولوجي ومعرفي وصناعي، الذي قلب موازين الاقتصاد العالمي وبات يتحكم فيه اليوم، وهو ما تفطنت له أغلب الدول المتقدمة التي لا تمتلك حقول النفط والغاز، والتي جعلت من عقولها ثروات طبيعية قادرة على صناعة قوتها الاقتصادية، هذا ما فعلته الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايلندا وماليزيا وسنغفورة والهند، بل إن هذه الدول لا تتوانى في استيراد مواردها الطبيعية الخام من الدول التي لا تستثمر في البحث العلمي!! لتحولها إلى مواد إستهلاكية وتعيد تسويقها إلى نفس دول المصدر بأثمان باهظة، يا لها من مفارقة اقتصادية!!
لقد أقدمت هذه الدول إلى شراء حتى نفايات دول أخرى لتحويلها إلى مواد إستهلاكية قابلة للإستعمال مرات عديدة تجني من ورائها أموالا طائلة، وعلى سبيل المثال، إذا كان سعر الطن الواحد من الألومينيوم الخام يقدر ب 1700 دولار أمريكي، فإن سعر الطن الواحد من الألومينيوم المعدل يبلغ 3700 دولار أمريكي، وبإمكانه أن يتضاعف بكثير عندما يحول إلى أسلاك كهربائية، وهنا يتبين الفارق بين الدول المصنعة والدول المصدرة للمواد الأولية.
إذا كانت الجزائر تراهن اليوم على اقتصاد جديد خارج قطاع المحروقات، منتج للثروات، وكفيل باستحداث مصادر جديدة للأموال بعيدا عن النفط والغاز، بهدف تحقيق التنمية المستدامة، وفي ظل إلتفاف العالم برمته حول مشروع التحول نحو الطاقة النظيفة، لابد أن تُسرع وتيرة الاستثمار في صحرائنا الشاسعة، واستغلال مساحاتها الخصبة لإنتاج الطاقة الشمسية، تحسبا للدخول في مرحلة جديدة قائمة على الطاقات المتجددة واكتساح السيارات الكهربائية، علما أن 1 بالمائة منها فقط بإمكانها تغطية احتياجات أوروبا من الطاقة الكهربائية النظيفة، حقيقة أن الاستثمار في الموارد الطبيعية مهم.
لكن في الواقع فإن الاستثمار في العلم والمعرفة أهم بكثير، لأن العصر بات يفرض هذا التوجه وعلينا أن نسلم به، لكن الأمثل لو توفرا كلاهما معا، وهنا يتعين على مخابر البحث العلمي في الجزائر أن تتأهب لهذا التحول الذي فرضه التغير المناخي و التطور التكنولوجي، عوض اللجوء إلى مناقصات لفائدة شركات دولية للاستثمار في هذا المشروع الطموح أو مشاريع في قطاعات أخرى.
المخططات الإستراتيجية للدولة
لابد أن تنصهر البحوث العلمية في المخططات الإستراتيجية التي سطرتها الدولة، وتساير عجلة التنمية في جميع القطاعات الحيوية، وتساهم في تطويرها وحل مشاكلها، وأن يكرس الوعي بأهمية البحث العلمي لدى القطاعين العام والخاص، وأن يكون مقياس التفوق في الأبحاث العلمية قائما على مدى نجاعتها وجودتها ومكاسبها الاقتصادية والاجتماعية، ونشرها في المجلات العلمية العالمية المتخصصة والمشهورة، وكذا الأموال و الجوائز التي تحصدها، وخاصة إذا كانت براءات الإختراعات مسجلة ومحمية دوليا، بطبيعة الحال المنتوج المسوق سيكون منتوجا عالميا.
على هذا الأساس يحدد ترتيب جهة البحث وطنيا وعالميا، إن ما يهمنا هنا في الأبحاث العلمية هي النوعية وليس الكمية، ما جدوى إنجاز مائة براءة إختراع هزيلة غير قابلة للتطبيق أو التسويق؟ ولا يمكن تحويلها إلى مشاريع إقتصادية أو إستثمارات تساهم في حل المشاكل المطروحة في هذا وذاك القطاع، وتطوير حياة المواطن ورفع نمو الاقتصاد الوطني.
المخابر مصادر جديدة للأموال
لا يجب تأجيل فكرة أن تصبح الجامعات ومخابر البحوث العلمية مصادرا جديدة للأموال، لأنها تأخرت أكثر من اللازم !! ومن الضروري استدراك هذا التأخر الكبير، والشروع في العمل في هذا الإتجاه، الذي قطعت فيه الدول المتقدمة أشواطا كبيرة، وحتى دول سائرة في طريق النمو قفزت خطوات لابأس بها…
فالأبحاث العلمية هي في الأساس موارد مالية، يمكن الحصول عليها من خلال استثمارها في مشاريع اقتصادية مربحة وذات منفعة، كما أن السير في هذا الاتجاه هو خطوة مهمة للجامعة ولمخابر البحث العلمي لتكون مستقلة بذاتها وبمواردها المالية مستقبلا.
مما لا شك فيه من بين آلاف رسائل الماستر والدكتوراه المكدسة في أرشيف الجامعات ومعاهد التكوين العالي والمدارس العليا، بكل تأكيد هناك أبحاث جادة وذات نوعية، قابلة للتحول إلى مشاريع اقتصادية، فلماذا لا ينفض عنها الغبار وتستثمر في مؤسسات صغيرة أو متوسطة وشركات ناشئة أو ما يعرف بـ”ستارتأب Startup”، وإن تعذر ذلك، وجب اللجوء إلى بيعها أو بالأحرى تصديرها إلى دول أخرى كمشاريع إقتصادية، المهم أن تستفيد الجامعة أو مراكز البحث من هذه المشاريع العلمية بأي وسيلة أو طريقة ممكنة، تجعل منها إيرادات لها، عوض أن تتآكل في مصالح الأرشيف، والحرص على توفير شروط المنافسة بين الجامعات ومخابر البحث لاحتلال المراتب المرموقة في الترتيب العالمي.
صناعة القوة وصناعة النخبة
إذا كانت الدول المتطورة قد جعلت من العلم والمعرفة سلاحا قويا، عززت من خلاله نفوذها الاقتصادي والسياسي، فإن الجيش الوطني الشعبي الجزائري له دور كبير وبالغ الأهمية في دعم البحث العلمي والإبتكار والإرتقاء به، عن طريق تمويل مراكز البحوث، لتطوير الصناعة الخاصة بالأسلحة وعتاد الجيش الوطني الشعبي، مثلما تفعل أغلب الدول المتقدمة والقوية، ومنها تركيا التي تمكنت في السنوات الأخيرة من صناعة أسلحتها وعتادها العسكريين بنسبة 80 %، حيث أصبحت تستورد منها اليوم إلا 20%، لكنها في الواقع تتطلع إلى تقليص هذه النسبة المتبقية وبلوغ -“100 % صناعة تركية”- في هذا المجال.
إن تمسك الدول القوية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بفرض عقوبات لمنع بيع الأسلحة أو التكنولوجيا المتطورة لأي دولة لا تتوافق مع رؤيتها وقناعاتها….فإن الجزائر أشد تمسكا بمبادئها القوية، وبقراراتها السياسية والسيادية، ولا تقبل بطبعها أي إملاءات من الخارج، فإن هذا يفرض عليها ضرورة التحرر من قيود تبعية الصناعة العسكرية، وهنا أستحضر المقولة الشهيرة للشهيد البطل العربي بن مهيدي “لكم الماضي ولنا المستقبل”، التي أجدها أبلغ من الخوض في تفاصيل هذه الفكرة، لأنها تتعدى الزمان والمكان.
تدرج أبناء المستقبل
لقد كشفت الدراسات أن التشجيع على الإبداع والإختراع يجب أن يكون في سن مبكرة، أي ثلاث سنوات، وأن يغرس لدى التلميذ في المراحل الأولى من الدراسة، من هنا تكتشف المواهب وتتطور مهاراتهم العلمية، وليس في المراحل المتأخرة، التي تجعل من مهمة البحث في هذه الحالة صعبة ومرهقة وطويلة، بمعنى يجب تدريب وتشجيع التلاميذ على البحث العلمي، وتأطيرهم وإحاطتهم بالدعم المادي والمعنوي اللازمين، لأن هذا سينمي مهاراتهم الفكرية والإبداعية ويعزز الثقة في أنفسهم وروح القيادة لديهم، وعند دخولهم الجامعة يكون الطالب مهيأ لخوض تجربة البحث العلمي بكل أريحية، هكذا يمكن صناعة نخب المستقبل، التي تستجيب لمتطلبات سوق العمل المحلية والعالمية، هذا ما تفعله تماما الولايات المتحدة الأمريكية، التي جعلت من البحث العلمي مادة أساسية من المرحلة الإبتدائية إلى الدراسات العليا، لأن التخصص في النظام التعليمي الأمريكي يبدأ في الجامعة وليس قبل.
مخابر عالمية متخصصة
آن الأوان للتفكير مليا وبجدية في مسألة البحث العلمي في الجزائر، وجعله يرتكز على قواعد وأسس متينة، ويواكب التطورات ويستجيب لمتطلبات العصر، وفي اعتقادي لن يتحقق ذلك إلا بإنشاء مخابر كبيرة ومتخصصة، بمواصفات عالمية، في الطب وصناعة الأدوية والصناعات الصيدلانية لضمان الصحة المستدامة وطنيا وعالميا، وإنسانيا، ومخابر في تطوير الجينات الفلاحية لضمان الاكتفاء الذاتي وبلوغ مرحلة التصدير، كما فعلت روسيا مثلا، التي تحولت من دولة مستوردة للقمح، إلى أكبر وأهم دولة منتجة ومصدرة للقمح في العالم.. ومخابر أخرى متخصصة في تطوير تقنيات إعادة تدوير النفايات والطاقات المتجددة والصناعات التحويلية، لخلق ثروة جديدة وترشيد استهلاك الموارد الطبيعية والمحافظة على البيئة، ومخابر أخرى متخصصة في تطوير صناعة العتاد العسكري، لنتحرر من التبعية العسكرية والمحافظة على امننا و حدودنا، وغيرها من المخابر العلمية المتخصصة في القطاعات والمجالات الحيوية، التي تطور الاقتصاد الوطني وترفع المستوي المعيشي، وتتوفر على كل المقاييس العلمية العالمية، ومجهزة بأحدث التقنيات المتطورة، وتضخ لها ميزانيات معتبرة، تكون محفزة للعلماء والباحثين، سواء المتواجدين داخل الوطن و حتى من أبناء جاليتنا المقيمة في الخارج. إذ لابد من أن تستفيد الجزائر من أبنائها ونخبها وعلمائها وكفاءاتها المتواجدة عبر أنحاء العالم، ممن يشتغلون في أكبر وأشهر مراكز البحوث العلمية العالمية، بالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وفي العديد من الدول الأوروبية والآسيوية، ممن تستفيد من الأدمغة الجزائرية، وتحفيزهم على المساهمة والمشاركة في عملية تطوير مراكز أو مخابر البحث العلمي بوطنهم الأم.
الدبلوماسية التكنولوجية
فرض التطور التكنولوجي في العالم اقتصادا جديدا، منافسا أو بالأحرى مواز للاقتصاد التقليدي القائم على النفط والغاز، ما أدى إلى بروز الدبلوماسية الرقمية، واستحداث سفارات افتراضية، وسيطرة شبكات التواصل الاجتماعي على المشهد العالمي، واشتعال حرب التطبيقات الالكترونية وثورة رقمية، فمثلما هو معمول به في سفاراتنا في الخارج وبقية الدول الأخرى وجود ملحق إقتصادي، وملحق ثقافي، وملحق سياسي وملحق عسكري، أضحى لزاما أن تسارع الجزائر إلى إنشاء ملحق تكنولوجي في سفاراتنا المتواجدة بالدول التي تشهد تطورا رهيبا في مجال التكنولوجيا والاتصال، والتي باتت تتحكم اليوم في الاقتصاد العالمي، يكون بمثابة همزة وصل بين التكنولوجية العالمية وعلمائنا في الخارج ووزارة البحث العلمي، ونقل كل هذه التطورات وأحدث التقنيات المعمول بها في الدول المتقدمة والخبرات وتطبيقها في الجزائر حتى لا تبقى متأخرة في هذا المجال…
وعليه فإن تعزيز وتفعيل دور الدبلوماسية التكنولوجية الجزائرية في الخارج، سيؤدي بالضرورة إلى تحقيق الكثير من المكاسب للاقتصادي الوطني، ويجعله ينمو ويتطور بنفس الوتيرة التي تشهدها الدول المتقدمة، إذ ليس من صالح الجزائر أن تبقى بمعزل عن التطور المتسارع الذي يشهده العالم.
* خبير إقتصادي ونائب برلماني أسبق عن الجالية الجزائرية أمريكا، أسيا وأقيانوسيا