«الفكرة التجريبية» عفوية بطبيعتها، وهي فردية خالصة، بل هي إحساس يشكّل «أصالة الاختراع»، كما يمثل مستوى العبقرية.. هكذا – تقريبا – وصف كلود بيرنار طبيعة المنهج وهو يستعد لإعلان دخول «فنّ الطبّ» إلى الحاضنة العلمية التجريبية..
وقد يستغرب بعضهم اليوم، تصنيف «الطّب» في قائمة «الفنون»، بحكم أنّه رسّخ وجوده في المخابر، وحقق فتوحات مذهلة للبشرية، وصار لديه مناهج جديدة في العلاج، حتى إن الواحد من الأطباء صار ينحو تجاه الدّقة في الأداء، فلا يُقدم على وصف دواء إلا بعد المرور بالتحاليل المخبرية؛ فهي وحدها التي تكفل التشخيص الأقرب إلى الحالة، ما يسهل كتابة الوصفة الفعالة.. ومع هذا، لا يمكن إنكار عبقرية الأطباء الفنانين الذين سبقوا تجريبية بيرنار، وعرفوا كيف يتعاملون مع حالات عويصة قد لا تجد حلولا في المخابر؛ لأن مناطها الحذق، وسعة الخيال، والقدرة على تطويع الأفكار وتحليلها.. وهذا – مع الأسف – ضاع على «الطب» في الحاضنة العلمية المحض، فجعل التعامل مع المرضى أشبه بـ»نظم التقانة» المستحدثة، وأصبح كثير من الأطباء مثل «الروبوتات»، لا يجدون الوقت حتى لبسمة صغيرة على قائمة وسائل العلاج وأدواته..
مما يروى أن عجوزا ذهبت إلى طبيب في مصحّة عمومية، بعد أن أرهقتها الأوجاع، فاستقبلها وشخّص حالتها، وأعطاها الوصفة، وانصرفت إلى حالها.. ولم يمرّ سوى يوم واحد، حتى عادت العجوز إلى المصحة، وصبرت إلى أن جاء دورها، فدخلت على الطبيب، وارتمت على يده تدسّ فيها شيئا من المال.. فاندهش الرّجل، وحاول أن يخبرها بأن الطب مجاني، ولكنّها قاطعته قائلة: (يدّك امْلِيحَه يَا اوْلِيدِي.. هَذِيكْ الكَتْبَه انْتَاعَكْ.. حليتها في ماء الورد والفيجل، واشربتها.. ضربة واحدة.. راحْ الْوجَع..)..
خلاصة القول.. الفن والعلم جناحان، لا يمكن الطيران بواحد منهما فقط..