تعتبر السيّدة لطيفة محمد ناجي أبو حميد -أم ناصر- والملقبة بـ«خنساء فلسطين”، أو “سنديانة فلسطين”، إحدى أيقونات المقاومة الفلسطينية، فهي زوجة الشهيد محمد يوسف ناجي الذي اعتقلته قوات الاحتلال مرّتين، على الرغم من أنّه كان كفيفاً، ووالدة شهيدين، فيما يقبع أربعة من أبنائها في سجون الاحتلال، بعد الحكم عليهم بالسجن المؤبد. مرّ جميع أبنائها الـ10 بتجربة الاعتقال، وقتل الاحتلال جنينها وهي حامل في الشهر الثامن سنة 1991، وهدم منازلها خمس مرات.. وظلت “خنساء فلسطين” صامدة رغم ذلك، حتى استحقت لقب أم الشهداء والأسرى الأبطال..
رأيت فلسطين في وجوه الذين استقبلوني بمطار الجزائر
الشعب: كيف كانت أول زيارة لك إلى الجزائر؟
أم ناصر أبو حميد: كنت متشوّقة لزيارة الجزائر منذ أمد طويل، فقد كنت أسمع كثيراً عن نضالات أهل البلد وتضحياتهم، ولما حدث وحللت بهذه الأرض، ولدى نزولي من الطائرة، أحسست كأنني في فلسطين ولست في بلد آخر، لقد أيقنت أنّ البلدين توأم واحد، لقد رأيت فلسطين في وجوه الذين استقبلوني، في احترامهم وفي حبهم للشعب الفلسطيني واحتضانهم لقضيته، ودعمهم المتواصل واللامشروط له، ومن هذا المنبر أتوجه بالشكر للرئيس الجزائري ولقيادة الدولة ولكل الجزائريين، نظير الاستقبال الذي حظيت به آنذاك، والذي لا تصفه كلماتي، ومهما شكرتهم لن أوفيهم حقهم، رغم أنني كنت أتوقع استقبالاً حاراً، لكن توقعاتي ورغم كبرها لم تكن بحجم الحب والمودة التي عبّر عنها لي كل من صادفتهم خلال زياتي للجزائر.
الاحتلال الصهيوني حرمني تشييع جثمان ابني ناصر
وقفة الجزائر معنا قديمة قدم القضية الفلسطينية ودعمها للشعب الفلسطيني لم يتوقف أبداً، من رئيسها وقيادتها إلى كل رجالها ونسائها وشبابها ومختلف فئات شعبها، ومثلما تحررت الجزائر التي تنعم اليوم بالاستقلال والحرية بفضل تضحيات شعبها، ستشهد فلسطين ذات الانتصار في يوم إن شاء الله لن يطول قدومه، ويتحرر القدس ويزول الاحتلال الصهيوني الغاشم ويندثر، مثلما زال بالأمس المستعمر الفرنسي وخرج من الجزائر مهزوما مدحورا، وثقتنا كبيرة بتحقيق النصر مثلما فعلت الجزائر.
كيف هي حياة الأمهات الفلسطينيات وسط الاحتلال ؟
الوضع عندنا في فلسطين صعب جدا، الأمهات الفلسطينيات وعند خروج أحد أبنائهن، يقمن بتوديعهم الوداع الأخير، لأنّهن لا يعرفن إن كانوا سيرجعون لديارهم أم لا، فجنود الاحتلال لا يملكون ولا ذرة من الرحمة والإنسانية، هم يمارسون القتل والتنكيل على كل من يصادف طريقهم ولا يفرقون في ذلك بين النساء والرجال والشيوخ والأطفال.
نسير على خطى الجزائريين الأحرار ونحقق الانتصار
كل أمهات فلسطين تعانين من بطش ووحشية المحتل، لكن يجوز أن نقول بأن المعاناة تكون بنسب متفاوتة، وأود هنا أن أستذكر لكم إحدى الوقائع التي حدثت معي منذ أكثر من ثلاثين سنة، وبالضبط في سنة 1991، كنت حاملاً آنذاك في شهري الثامن، وفي عملية قامت بها قوات الاحتلال الصهيوني، داهمت فيها بيوتنا قبل هدمها، تقدم أحد جنود الاحتلال صوبي قائلاً “أنت لديك عشرة أولاد وتردين إضافة طفل آخر!؟” وقام بضربي، نقلت على إثر ذلك للمستشفى وقد كنت في حالة حرجة، فيما قاموا بهدم بيتي. أُسقط الجنين وكان قد توفي في بطني جراء اعتداء الجندي الصهيوني عليّ بالضرب، كدت أفقد حياتي أنا الأخرى بسبب تداعيات العملية، مات وحرم من حقه في الحياة في أبشع صور القتل والاعتداء وسلب حق الحياة من الآخرين حتى قبل مجيئهم لهذه الدنيا، وقتلهم في بطون أمهاتهم، هذه واقعة من بين مئات الانتهاكات اليومية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، وصحيح أنه تم تهديم بيتي بالكامل في ذلك اليوم، لكنه لا شيء أمام سلب الوطن والاعتداء على أراضيه وقتل أبنائنا وأهالينا والتنكيل بجثثهم وحرمان أهلهم من جثامينهم، فإذا حصل واستشهد أحد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، يمنع أهله من تسلم جثمانه أو إلقاء النظرة الأخيرة عليه، وهو ما حصل معي قبل أشهر، حيث سلب مني كيان الاحتلال الغاشم والوحشي ابني ناصر أبو حميد، الذي استشهد وبقي أسير ثلاجات الموتى عندهم، حرموني من توديعه وإلقاء النظرة الأخيرة عليه، متجردين من جميع الأخلاق والأعراف وجميع أحاسيس ومشاعر الإنسانية، وقد سبقه للشهادة أخوه الشهيد عبد المنعم، فيما يقبع أربعة من إخوته في سجون الاحتلال، محكوم عليهم بالسجن المؤبد.
ما هي القصة الكاملة للشهيد ناصر أبو حميد ؟
استشهد ابني ناصر أبو حميد في الخمسين من عمره، حيث أمضى سنوات معدودات حراً طليقاً، أما بقية عمره وحتى استشهاده فقد عاشه مطارداً ومبحوثاً عنه من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني. اعتقل أول مرة في سن 12 سنة، وأثناء جلسة محاكمته التي أديرت من قبل ثلاث قضاة في محكمة الكيان الغاشم، قال له أحدهم “هل تريد قضاء حياتك كلها داخل الزنزانة ؟« ولكن بتوفيق من الله، خرج من السجن في مرتين منفصلتين، وتمكّن من فك أسره من يد هؤلاء الباطشين، ليهب عمره ودمه لأجل فلسطين ولأجل كل شبر من أراضيها الطاهرة ولأجل تحرير الأقصى المبارك.
الأم الفلسطينية تودع كلّ يوم أبناءها الوداع الأخير
خلال فترة حياته والفترة التي قضاها في المقاومة ومحاربة الكيان الصهيوني، كان يطلق عليه لقب “الأسد المقنع”، كان ناصر أبو حميد من كتائب شهداء الأقصى، وكان الجميع يتأسى ويستذكر بطولاته، حتى الأطفال الصغار كانوا يتغنون بوصفه “الأسد المقنع”، ليصبح رمزاً للنضال والكفاح في وسط كل من يعرفه أو يسمع عنه. لم يهدأ لجنود الاحتلال الإسرائيلي بال قبل اعتقاله، وطالما قاموا بعمليات تفتيش وبحث واسعة لتوقيفه، دون أن يتحقق مرادهم، وقاموا في مرتين بنصب كمين محكم للإيقاع به، سهرت على تنفيذه فرق من القوات الخاصة لجيش الاحتلال، في إحداها أصيب بجروح بليغة لينقل للمستشفى في وضع حرج استدعى إسعافه بـ 15 كيساً من الدم نتيجة نزيفه وامتلاء جسمه بالجروح البليغة بعد الانفجار الذي تعرض إليه، لكن الله أطال في عمره ونجّاه من مصابه، ليتم أسره بعدها في سجون الاحتلال وتبدأ معاناته.
كيف ساءت حالته بعد ذلك داخل سجون الاحتلال ؟
في إحدى زياراتي له، أخبرني أنه يعاني من آلام في صدره، لكن حالته ساءت بعد ذلك، واشتد عليه المرض، إلى درجة أن حرارة جسمه وصلت إلى 44، تم نقله إلى عيادة السجن وليس إلى المستشفى، بعدما عاودت زيارته، قال لي إنه لم يصب بالمرض وإنما حقن به، حيث قام أحد ضباط الاحتلال بالبحث عنه حتى دلّوه عليه، فجاء إلى سريره وحقنه بإبرة تحتوي مادة لم يكن يعرف ما هي، فقد بعدها الوعي، بعد تلك الحادثة ساءت حالة ناصر الصحية، ودخل في حالة غيبوبة لمدة شهر كامل، منعنا من زيارته، وحين سمح لنا بذلك كنا نراه على بعد أمتار دون الوصول إليه أو الوقوف على حالته، حتى وهو في غيبوبة، كان مقيّدا وتحت حراسة مشددة، وبعد إصرار أخيه على طلب الوصول إليه ورؤيته عن قرب، منحنا أقل من 10 دقائق، وأخبرونا أنه يعاني من مرض السرطان وقد أصاب أجزاءً كبيرة من كبده. بعد استفاقته من غيبوبته لم يعرف أحدا من حوله، إلاّ أخوه محمد الذي كان مرافقا له وأسيراً أيضا بسجون الاحتلال الصهيوني، هذا الأخير كان يذكره بأني أمه ويذكره بمن يعرفهم من عائلته وأقربائه، عقب ذلك قرر أطبّاء الكيان بدء العلاج الكيماوي معه، فبعد الجلسة الأولى قاموا تهاوناً وتعمداً بتأخير موعد الجلسة الثانية لمدة شهرين كاملين، وهنا تدهورت صحة ناصر أكثر.
بمعنى أنه كان ضحية قتل عمدي؟
تماماً، بعد هذا الإهمال وتدهور حالته، قرروا استئصال أجزاء من كبده، وكانت آخر زيارة له حين كانوا بصدد نقله لإجراء العملية، حينها طلب مني أن لا أحزن والابتسامة لا تفارق وجهه، لم تأت العملية بنتائج إيجابية، ولم تتحسن حالته بل تفاقمت، لنكتشف بعدها أن من قام بالعملية هم أطباء متربصون وغير مؤهلين لإجراء عمليات من هذا النوع والحجم، وأنه كان عينة لتجاربهم، وبعد فحوصات أخرى اكتشف أطباء آخرون أن العملية التي أجريت له خاطئة بالأساس فأجروا له عملية ثانية، لكن للأسف كان الأوان قد فات، تعب جسده وأنهكه المرض تماماً، ونحن بدورنا كنا على يقين أن مستشفى الأسرى هو عبارة سجن للأموات، فكل من يدخله لا يخرج وهو على قيد الحياة.
بعد أيام طلب منا أن نزور ناصر، وأنه مسموح لنا رؤيته لدقائق معدودة طبعاً، وهنا انتابني الشك وأيقنت أن مكروها حدث لابني، وعند تنقلنا للمستشفى، وجدناه يصارع الموت، كانت تلك اللحظات الأخيرة له في هذه الحياة، بينما كنا نراقبه عن بعد من خلف زجاج الغرفة وأخوه يحمل قارورة الأكسجين خاصته ويتلو عليه آيات من القرآن الكريم، وفي الوقت الذي كان يحتضر فيه، كان محاطاً بجنود الكيان الصهيوني مدججين بالأسلحة، وقبل أن تفيض روحه ويستشهد، كان أخوه “باسل قد رزق بمولود جديد فسمّاه على اسم أخيه “ناصر” الذي استشهد بعد مجيء ابن أخيه إلى هذه الحياة.. غادر ناصر الحياة إلى جواه ربه شهيداً في جنات النعيم، ومن يعرف شعور الأم سيحس بألمي لا محالة، وأنا أفقد فلذة كبدي وأحرم من تشييع جثمانه، لقد كانت أمنيته أن يدفن إلى جوار أخيه الشهيد عبد المنعم، لكن للأسف بقي جثمانه الطاهر محتجزاً إلى جانب عشرات جثامين الأسرى الآخرين الذين لا يزالون في ثلاجات مستشفيات سجون الاحتلال الصهيوني الغاشم.