يرى الدكتور السعيد غندير أننا نشهد اليوم الثورة التكنولوجية الرابعة والتي يتربع الذكاء الاصطناعي على جميع مفاصلها، باسطا يده على جميع الميادين التي تهم البشر من علم وأدب وفن وإبداع، مبشرا ومنذرا بولوج عصر جديد يتسم بذكاء غير انساني، بل آلي رهيب حاملا معه تحديات وفرصًا عديدة.
قال السعيد غندير، استاذ بكلية العلوم التقنية بجامعة ورقلة في تصريح لـ«الشعب”، “إننا نعيش اليوم تأثيرات الذكاء الاصطناعي الإيجابية والسلبية على الجوانب العلمية والبحثية والإبداعية، حيث أصبح بإمكان أي شخص كتابة قصة أو نظم قصيدة أو رسم لوحة فنية أو حتى تأليف مسرحية بواسطة الذكاء الاصطناعي، إلا أن هاته التكنولوجيا التي شهدت طفرة نوعية بداية من عام 2023 لم تفتأ أن بدأت تثير تساؤلات بخصوص مساهمتها في الميادين العلمية والبحثية إلى جانب مخاوف مشروعة حول مستقبل الإبداع والخصوصيات الثقافية للمجتمعات، فبمجرد انتشار استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي العديدة، على غرار روبوتات المحادثة كالشات جي بي تي والبينغ وبارد، وكذا عدة مواقع وتطبيقات تسهل ما كان عسيرا يوما ما وفي وقت أقل، لم يلبث أن استقبلها المجتمع العلمي بِنَهم كبير لما لها من ايجابيات أَضحت معروفة كالاستشارات العلمية والبحثية، تحرير البحوث العلمية،.. إلخ”.
ونوّه السعيد غندير إلى أنه طَفت إلى السطح بالموازاة مع ذلك عدة اشكالات تخص البحث العلمي في شتى مجالاته، وهي ظاهرة فقدان اللّمسة الانسانية للمقالات والبحوث العلمية والأدبية، فأمست تتصف بكونها فاقدة لروح التفاعل الانساني في التحليل والتنظير والاستنتاج، مضيفا أن تلك البحوث أثارت عدة قضايا خطيرة تخص الملكية الفكرية للمعلومات المساقة فيها، وذلك أن الباحث لا يدري من أين زوّدته أدوات الذكاء الاصطناعي بتلك المعلومات، ولا يدري حتى إن كانت مختلقة من طرف الذكاء الآلي أم لا، وقد تكون خاطئة أيضا ولا أصل لها، بينما يتم سردها على أنها حقائق مثبتة علميا، وهنا تكمن الكوارث المستقبلية للبحوث العلمية. فبحكم أن تلك الأدوات الذكية مبنية على نماذج لغوية وخوارزميات تمكنها من إنتاج مختلف الصيغ الكلامية بطرق منطقية تَم تدريبها عليها، وهذا استنادا لما هو متاح من قواعد بيانات محددة مسبقا.
وأكد المتحدث أن عصرنا الحديث وفي السنوات القريبة القادمة سيشهد قنابل بحثية أكثر خطرا، فلن يُعرَف الغثُ من السمين، ولن يُعرَف مَنْ أخذ عن مَنْ، ولا من هو الأصل من الناقل، وفيما إذا كان الأصل هو آلة أم إنسان، أو أن الأصل والناقل هما آلة على حد سواء أو ربما مزيجا من ذكاء إنساني- آلي، وغير ذلك من إشكالات تُميعُ وتُضعف البحث العلمي داخل حقل عدم المسؤوليات وما سينجر عنه من مصائب علمية بحثية.
وعن أثر الذكاء الاصطناعي على الإبداع، ذكر الدكتور غندير أن له مزايا عديدة كتوسيع حدود الإبداع بتوليد أفكار جديدة ومبتكرة بناءً على البيانات والأنماط، اضافة الى تسريع الانتاج الإبداعي، وكذا توفير مصدر إلهام لتجاوز الجمود الإبداعي، حيث يستطيع الانسان اليوم إنتاج أعمال فنية وأدبية مذهلة بمجرد النقر على زر دون ان يكون فنانا ولا أديبا، فهو يمكن أفرادًا من مختلف الخلفيات من التعبير عن أنفسهم من خلال رسم لوحات فنية وكتابة روايات، قصص، وحتى مسرحيات. وهذا الأمر يتيح إمكانية للأصوات غير مسموعة في المجتمعات أن تظهر وتتألق دون مؤهلات ابداعية، وهو ما يؤثر سلبا على ذوي المؤهلات الابداعية الحقيقية من حيث إثبات وجودها وسط كساد وزخم من السلع الفنية والادبية المبدعة، وهذا ما يمكن أن يثبط العديد منهم على مواصلة الاعتماد عن مقدراتهم الابداعية الاصيلة التي تستنزف الجهد والوقت في ظل منافسة غير متكافئة من حيث الأدوات.
وتابع المتحدث قوله: “هنا نستشرف هذا السؤال المنطقي: هل سيؤدي هذا إلى فقدان الإبداع البشري التقليدي الفريد شيئا فشيئا؟ الحقيقة أن التوازن بين الإبداع البشري واستخدام التكنولوجيا يعتبر تحديًا، وهذا لأن الإبداع ليس مجرد النتيجة النهائية للعمل، بل هو أيضًا عملية تعبر عن رؤية وعواطف وخلفيات ثقافية فريدة خاصة بالفرد ضمن مجتمع ما. ومن هنا، تظهر تحديات الخصوصية الثقافية وحماية الهوية الثقافية للمجتمعات”.
كما أشار أستاذ العلوم التقنية في السياق ذاته إلى أنه يمكن لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أن تجعل الثقافات تبدو وكأنها واحدة، مما يهدّد بتفتيت التنوّع الثقافي وتشويه الهويات الثقافية عبر عولمتها، لأن ما يمكن أن يكون إجابة على سائل يسأل في منطقة ما تتميز بموروثها الثقافي الخاص، قد لا يصلح كإجابة على سائل آخر بمنطقة أخرى تختلف خصوصيتها عن الأولى، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتمييز بين الجنسين أو الجنس المتحوّل أو الحركات الشاذة. علما أن أدوات الذكاء الاصطناعي تعتمد على قواعد بيانات لما هو متاح من انتاجات فكرية بشرية في هاته المرحلة على الأقل، إضافة إلى اعتمادها على قواعد بيانات تخصّ هيئات دولية رسمية كالتي تعنى مثلا بالتراث اللامادي ومادي انساني مسجل. لذلك كلما كان رصيد مجتمع ما، من حيث تسجيل وتدوين موروثه الثقافي والتاريخي والحضاري كبير من حيث تسجيل المطالبات الثقافية في الهيئات الدولية، وكذا نشر البحوث الرصينة في قواعد بيانات عالمية موثوقة، كلما كان الاستشهاد بها وتوظيفها من طرف أدوات الذكاء الاصطناعي أكثر، وهو ما يساهم في حماية الأمن القومي الثقافي للمجتمعات وخصوصياتها.
وختم غندير قوله بأن “عديد الدول المتقدمة اليوم تسعى لتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل مستدام، بحيث تضع حدا لعواقبه الوخيمة على البحث العلمي والابداع مستقبلا، وذلك من خلال صياغة إطار قانوني دولي يحدد قيودا ومسؤوليات تقع على مطوري تلك الخدمات. أما عن الخصوصيات الثقافية للمجتمعات والموازنة بينها وبين التقدم التكنولوجي، فإن ذلك يبدو بعيد المدى في ظل عالم يتبع نهج “الانتقاء والاختيار” في الأخلاقيات وفق نهج عولمة الثقافات الذي يسعون لفرضه، كل ذلك رغم دعوة المديرة العامة لمنظمة اليونسكو -أودري أزولاي- إلى خلق إطار أخلاقي لتطوير الذكاء الاصطناعي، والتي لم يُجبْها حيٌ لَما دعت، وليبقى عنصر التوعية المجتمعية عبر التعليم والتثقيف باستخدامات أدوات الذكاء الاصطناعي هو خير سلاح للحفاظ على الأمن الثقافي للمجتمعات”.