مازالت منطقة غرب إفريقيا تستقطب أنظار وانشغال العالم بفعل الانتكاسات السياسية والأمنية التي تترجمها التهديدات الإرهابية المتواصلة من جهة، وتعكسها التغييرات غير الدستورية التي تزايدت أعدادها في السنوات الأخيرة من جهة ثانية، حيث مسّت الانقلابات العسكرية العديد من الدول، آخرها دولة النيجر التي أطاح فيها عسكريون بالرئيس محمّد بازوم في 26 جويلية الماضي، و علّقوا عمل المؤسّسات وتولّوا تسيير دواليب السلطة بالرّغم من المعارضة الدولية لحركتهم غير الدستورية، بل وبالرّغم من تهديد المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا “إيكواس” بتبني الخيار العسكري لإعادة بازوم إلى الحكم.
الانقلاب العسكري الذي نفّذه رئيس الحرس الجمهوري في النيجر الجنرال عمر تياني، حظي باهتمام عالمي لم يسبق له مثيل رغم أن هذه الدولة اعتادت التغييرات غير الدستورية والصراعات الداخلية؛ فمنذ استقلال البلاد عن فرنسا عام 1960 شهدت 6 انقلابات عسكرية، منها ما نجح ومنها ما تمّ إجهاضه، كما أن النيجر ليست الدولة الوحيدة في المنطقة التي أطيح برئيسها المنتخب، فهناك دول مجاورة عاشت نفس الظاهرة في السنوات الأخيرة، ولم تثر نفس ردّ الفعل العالمي العاصف، ما يطرح أكثر من علامة استفهام عن هذا الموقف التّصعيدي والحازم ضدّ المجلس العسكري في نيامي والذي تقوده بشكل واضح مجموعة “إيكواس” بدفع من المستعمر السابق.
ومعلوم أنه في ظرف أشهر فقط، من أفريل 2021 إلى جانفي 2022، شهدت إفريقيا 4 انقلابات عسكرية، أحدثها في بوركينا فاسو، وهو رقم 11 في تاريخ هذا البلد الواقع في منطقة الساحل والصحراء الأكثر اضطرابًا غربي القارة السمراء.
وفي سبتمبر 2021، أعلن ضباط من القوات الخاصة الغينية اعتقال الرئيس ألفا كوندي والسيطرة على العاصمة كوناكري، وحل مؤسسات الدولة في انقلاب أنهى دور أحد مخضرمي السياسة الإفريقية.
أما في 25 ماي2021، فقد قاد العقيد أسيمي غويتا انقلابا في مالي هو الثاني بعد انقلاب أوت 2020.
كما دخلت بوركينا فاسو من جديد في 30 سبتمبر الماضي في دوامة الإنقلابات العسكرية، حيث أعلن عسكريون إقالة رئيس المجلس العسكري الحاكم اللفتنانت كولونيل بول هنري سانداوغو داميبا الذي تولى السلطة إثر انقلاب في نهاية جانفي، أي أن هذه الدولة شهدت، هي الأخرى مثل مالي، انقلابين في أقلّ من سنة.
والمثير للاهتمام والتساؤل – كما قلنا سابقا- هو تباين الموقف الدولي والإفريقي على وجه الخصوص من مجموع هذه التغييرات غير الدستورية، ففي حين انحصر ردّ الفعل في فرض عقوبات على المجالس التي تولّت السلطة في باماكو وواغادوغو وكوناكري، مع تجميد عضوية الدول الثلاثة في المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا “إيكواس”، اهتزّ العالم ولم يقعد بسبب الإطاحة برئيس النيجر بازوم، بل إن “إيكواس” رفعت من سقف تهديداتها إلى أعلى مستوى ملوّحة بالحلّ العسكري لإعادة النظام الدستوري في نيامي، ما يجعلنا أمام سؤال كبير، وهو البحث عن السبب الذي جعل “إيكواس” تقف هذا الموقف المتشدّد من انقلاب النيجر مقارنة بالانقلابات التي شهدتها دول مجاورة.
باريس تبحث عن قشّة النجاة
البحث في خلفيات رهان المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا على السلاح لإعادة النظام الدستوري إلى النيجر رغم خطورة هذا الخيار وتداعياته السلبية على أمن المنطقة الهشّ في الأساس، ليس بالأمر السهل، فقد يقول البعض إن هذه المجموعة لا يمكنها أن تقف موقف المتفرّج في ظلّ توالي سلسلة الانقلابات بالمنطقة، خاصّة وأنّها تعهدت بعدم التسامح مع أي انقلاب جديد، بعد الانقلابات العسكرية التي شهدتها ثلاث دول من المجموعة، هي مالي وبوركينا فاسو، وغينيا خلال العامين الماضيين.
وقد يضيف آخرون، بأن الاكتفاء بالعقوبات مثلما حصل مع باماكو وواغادوغو وكوناكري، لن يجدي نفعا ولن يكون رادعا لإنهاء التغييرات غير الدستورية للسلطة في المنطقة.
ورغم أهمّية هذه المبرّرات ومنطقها، فهي تبدو ساذجة أمام الأسباب الحقيقية التي تدفع نحو إصرار “إيكواس” على استعمال القوة لفرض إعادة الرئيس المطاح به في النيجر، إذ يجزم كثيرون بأن موقف المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا المتشدّد، تقف وراءه فرنسا التي تصارع للإبقاء على وجودها ونفوذها في المنطقة، فبعد أن جرفتها السيول المعادية وأخرجتها من مالي وبوركينافاسو، ها هي باريس اليوم تقف ضعيفة في مهبّ رياح الرّفض الشعبي والعسكري في النيجر، لهذا فهي تراهن على إعادة حليفها بازوم إلى السلطة، وتعتبره القشّة التي تحمي وجودها بمنطقة غرب إفريقيا.
فرنسا إذن هي التي تقرع طبول الحرب، وهي لا تكترث لتداعيات الخيار العسكري ما دام الذين سيدفعون الثمن هم مواطنو النيجر والمنطقة، فالمهمّ بالنّسبة إليها هو الحفاظ على مصالحها وعلى الكنز الثمين الذي اسمه دولة النيجر التي تمثل أحد أقوى حلفاء باريس في الساحل والصحراء، فضلا عن كونها مصدرا رئيسيا للإمداد باليوارنيوم المستخدم في إنتاج الكهرباء لملايين الأسر الفرنسية، فقد كان قرابة 35 بالمائة من اليورانيوم المستخدم في المفاعلات الفرنسية عام 2020، يأتي من النيجر التي يعيش شعبها في فقر مدقع بينما تذهب ثرواته لتحقيق رفاهية الفرنسيين وغيرهم.
وبالاضافة إلى اليورانيوم، بدأت اكتشافات البترول والغاز الطبيعي والمعادن النفيسة كالذهب، تبشر بمخزون وفير في هذه الدولة وفي غيرها من الدول المجاورة مثل تشاد ومالي وموريتانيا والسنغال، وهو ما يجعل المنطقة ساحة صراع دولي على الموارد الطبيعية ورهانات التمدد الجيوسياسي الإستراتيجي.
كما توثقت شراكة نيامي وباريس، بعدما نقلت فرنسا قواتها من مالي عام 2022 إلى النيجر، فبعد طرد القوات الفرنسية من باماكو استضافتها نيامي حيث توجد الآن قاعدة عسكرية فرنسية قوامها 1500 عسكري، وتخشى فرنسا إن هي لم تتحرّك عسكريا خلف “إيكواس” لاستعادة سلطة بازوم، أن تفقد وجودها العسكري في النيجر، خاصة في ظلّ تنامي العداء الشعبي للوجود الفرنسي، لا سيما وسط الشباب الذين يعدّون فرنسا المسؤول الأول عن حالة التبعية السياسية والتخلف الاقتصادي لبلادهم.
بين الخيار العسكري والسياسي
بعد ما يقارب الشهر على الانقلاب العسكري، يستمر المشهد النيجيري في الغموض خاصة، مع الشدّ والجذب بين من يرافعون للحل العسكري ومن يتمسّكون بأفضلية الخيار السياسي، فبينما تتمسّك “إيكواس” بخيار التدخل العسكري معلنة رفضها للمرحلة الانتقالية التي اقترحها المجلس العسكري في نيامي، تتوالى المواقف الدولية الداعية إلى الحوار والابتعاد تماما عن خيار القوّة الذي لا يمكنه إلاّ أن يزيد الوضع سوءا بالنيجر وبالمنطقة المعتلّة أمنيا.
وعكس باريس، ترافع واشنطن بشدّة للحلّ السياسي السلمي، وترى أن هناك فرصة للدبلوماسية مع الحلفاء الأوروبيين والأفارقة لإعادة الأمور إلى نصابها.
وكانت السُلطات العسكرية الانتقالية، في كل من مالي، وبوركينا فاسو، وغينيا كوناكري، قد حذَّرت أيضاً في وقت سابق، من أي تدخلِ عسكري ضد النيجر.
وقال بيانٌ مُشترك لبوركينا فاسو، ومالي، إن أي خطوة كهذه ستُعَد بمثابة إعلان حرب ضدهما أيضا.
وتتمسّك الجزائر التي تملك حدودا طويلة مع النيجر، تصل إلى حوالي ألف كيلومتر، بمعارضة شديدة لأي تدخل عسكري لتغيير الأوضاع في النيجر.
وفي ظلِ هذا الوضع المعقّد، يعتبر مراقبون أن التدخل العسكري من قبل مجموعة (إيكواس)، لإنهاء الانقلاب في النيجر، بات صعباً وهو يزداد صعوبة يوما بعد يوم، خاصة في ظِل التفاف قطاع كبير من الشعب، حول قادة المجلس العسكري الذين أظهروا لحدّ الآن ليونة في مواقفهم وعرضوا الحوار لحلّ الأزمة، كما طرحوا مرحلة انتقالية من ثلاث سنوات.
وكانت (إيكواس) قد كلّفت “قوة الاحتياط” بمهمات لها ارتباط بحفظ السلام، وسبق أن نشرتها في 4 دول هي سيراليون وليبيريا وغينيا بيساو وغامبيا. لكن مراقبين يعتبرون أن تدخلا مشابها في النيجر سيكون أصعب بكثير، إذ أن مساحة النيجر تعد أكبر من مساحة غامبيا، وهو ما يجعل حسابات إرسال قوات عسكرية إليها، محفوفة بمخاطر أكبر، كما أن التدخل يحتاج إلى تحضير يستغرق عدّة أشهر.
سيناريوهات
يطرح الخبراء السياسيون مجموعة من السيناريوهات للخروج من المأزق الدستوري في النيجر، أوّلها الاتِّفاق على جدول زمنّي لانتقال السلطة، وثانيها وآخرها التدخل العسكري.
فيما يتعلق بالخيار الأول، وهو الاتِفاق على جدول زمني لانتقال السلطة، يرى هؤلاء الخبراء أنه ومن أجل تهدئة الأمور، وإيجاد حلٍ وسط، فإن المجلس العسكري في النيجر قد يتَّفق مع (الإيكواس)، على جدول زمني للعودة إلى الحكم الديمقراطي.
ويضيفون إن الاتِّفاق قد يتضمن إطلاق سراح الرئيس بازوم، إضافة إلى المعتقلين السياسيين الآخرين، من أجل الحفاظ على استمرار المحادثات، وهذا كان مطلباً أساسياً لأولئك الذين أدانوا الانقلاب في إفريقيا وغيرها.
أما الخيار الثاني وهو التدخل العسكري، فهو يبدو مكلفا وربما متراجعا، خاصّة وأن قادة دول غرب إفريقيا لم يقولوا بأن القوة ستستخدم قطعاً إذا لم تتم إعادة الرئيس بازوم إلى الحكم، بل تركوا الأمر مفتوحاً كاحتمال من الاحتمالات.
ورغم أن جلّ قراءات المراقبين تصبّ في اتجاه تراجع احتمالات التدخل العسّكري في النيجر، إلا أن أحداً ليس بمقدوره الجزم بالطريق الذي ستسلكه الأحداث خلال الساعات القادمة، في ظل الدعم الفرنسي، لفكرة تدخل (إيكواس)، عسكريا، وفي ظل تحوّل الصراع في إفريقيا إلى صراع غير مباشر على النفوذ، بين القوى الكبرى من جانب آخر.
«إيكواس” والامتحان الصّعب
المعضلة التي تواجه المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في انقلاب النيجر، تمثل تحدياً غير مسبوق، إذ لا يبدو أن كل أعضائها متحمسون للعمل العسكري إضافة الى وقوف مالي وبوركينا فاسو الى جانب الحكومة العسكرية في النيجر واستعدادهما للتدخل عسكريا إلى جانبها في حال قيام ايكواس بتدخل عسكري في النيجر.
كما أن المؤسسة الأمنية والعسكرية في النيجر لم تشهد أي انقسامات وتبدو متماسكة حتى الآن وهو ما يجعل أي عمل عسكري أكثر كلفة وصعوبة إضافة إلى مخاطر تحول التدخّل إلى حرب مديدة، ما ينذر بانتشار الاضطرابات والقلاقل في المنطقة، وهو ما لا تفتقر إليه منطقة الساحل منذ سنوات.
معلوم أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا التي تعرف اختصاراً باسم “ايكواس”، تأسست في عام 1975 بهدف تعزيز التنمية الاقتصادية بين أعضائها الـ15، وتدخلت منذ إنشائها في عدد من صراعات القارة الإفريقية.
وتضمّ المجموعة، ومقرها العاصمة النيجيرية أبوجا، كلا من: بنين، بوركينا فاسو، غينيا، كوت ديفوار، مالي، النيجر، السنغال وتوغو، وجميعها تتحدث الفرنسية، إلى جانب غامبيا الناطقة بالإنجليزية، غانا، ليبيريا، نيجيريا، سيراليون، وعضوان ناطقان بالبرتغالية، وهما الرأس الأخضر وغينيا بيساو.
كما كانت موريتانيا البلد العربي الوحيد في المجموعة لكنها انسحبت منها عام 2001.
وتهيمن نيجيريا، العملاق الإقليمي، على المجموعة سياسيا واقتصاديا، وهي تمثل نصف أراضي الكتلة، و60 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي.
يبلغ مجموع سكان المجموعة نحو 350 مليون نسمة حسب إحصاءات 2021 وتبلغ مساحتها الإجمالية 5 ملايين كيلومتر مربع، أي 17% من إجمالي مساحة قارة أفريقيا.
والرئيس النيجيري، بولا أحمد تينوبو، هو الرئيس الحالي للمجموعة.
وفرضت المجموعة عقوبات على أربعة من هذه الدول في أعقاب انقلابات عسكرية، وهي: بوركينا فاسو، وغينيا، ومالي، والنيجر في الفترة الأخيرة.
تعاظم نفوذ المجموعة السياسي مع مرور الوقت، فقد تدخلت بشكل مباشر في تسوية النزاعات في جميع أنحاء المنطقة.ففي عام 1993، تبنت قانونا جديدا يمنحها رسميا مسؤولية منع النزاعات الإقليمية وتسويتها.
وشكّلت في جوان 2004، قوة عسكرية قوامها 6500 عسكري، من بينها وحدة للتدخل السريع في حالة نشوب أي صراع.