تعتبر جرائم التزوير والاستعمال المزوّر من أخطر الجرائم التي تهدّد النظام الاقتصادي والاجتماعي، ما يستدعي مكافحتها بقوانين فعّالة وذات نجاعة، دون إهمال الجانب التقني القائم على التكنولوجيا والرقمنة.
هذا الأمر الذي جاء في سياق توجيهات تلقّاها مجلس الوزراء من أجل إعداد قانون خاص بمكافحة التزوير والاستعمال المزور، مبنية على أساس أخلقة الحياة العامة.
تعالج الجهات القضائية، بصفة دورية مستمرة، قضايا مرتبطة بالتزوير واستعمال المزور للمستندات والأوراق النقدية، وهي قضايا ذات تأثيرات سلبية على الاقتصاد والمجتمع، من حيث التقليل من الثقة في النظام المالي والتجاري، وتهديد أمن العملات، بالإضافة إلى تعريض المستهلكين والشركات لخسائر مالية هائلة. وعرفت هذه الجرائم تطورا ملحوظا بتطور الوسائل التكنولوجية المستعملة، في حين تلعب هذه الأخيرة دورًا مزدوجًا في هذا الصدد، إذ يمكن أن تكون التكنولوجيات وسيلة للتزوير، ولكنها أيضًا وسيلة لمكافحة هذه الجرائم بشكل فعّال.
”البلوك-شين” أحدث التكنولوجيات لحماية البيانات والتّعاملات
يقول الخبير في الرقمنة عبد الرحمن هادف، في تصريح لـ “الشعب”، “إن تعميم استعمال التكنولوجيات الحديثة أصبح أمرا ضروريا في شتى مجالات الحياة العامة، في وقت نتكلم فيه على ضرورة استعمال هذه التكنولوجيات في مكافحة الظواهر السلبية، لاسيما التزوير واستعمال المزور، إضافة إلى الترسانة القانونية، التي تعمل على وضعها الحكومة لإصلاح كل ما يتعلق بالحياة العامة”، لافتا إلى تفعيل قانون حماية البيانات ذات الطابع الشخصي، وقبلها تفعيل السلطة الوطنية للإمضاء والتصديق الالكتروني، مشيرا إلى أنه صار من الضروري تعميم هذه الآليات التي تعتبر آليات جد فعالة لمحاربة التزوير والاستعمال المزور من خلال تكنولوجيات جديدة، على غرار الإمضاء والتصديق الالكتروني الذي يعتمد على تقنيات جد متقدمة لتثبيت ومعرفة مسار البيانات من خلال تكنولوجيات مشفرة.
وأوضح الخبير هادف، أنّنا نتكلم اليوم، عن تكنولوجيات “البلوك-شين”، وهي أحدث التكنولوجيات في حماية وتأمين البيانات والتعاملات بصفه عامة، حيث أصبح من الضروري أيضا، مواكبة هذه التحولات التي تعرفها الحياة العامة في الجانب الإداري والإجرائي، بقوانين وآليات تقنية، تعميم التكنولوجيات الرقمية من خلال وضع منظومة تعمل بصفه توافقية، وتطويرها على أساس مبادئ التشغيل البيني، بما يسمح بمتابعة وتسيير وحوكمة أفضل لكل ما هو صناعة المعلومات والبيانات وحماية البيانات، لأننا بحاجة الى تطوير منظومة لحماية البيانات على أسس حديثة.
وأكّد الخبير هادف أهمية مرافقة المسار التقدمي والتحول التكنولوجي في كل المجالات، بمنظومة مؤمّنة ومؤطّرة بصفة فعالة من أجل حماية وتأمين البيانات ذات الطابع الشخصي والسيادي، باعتبار أن الكثير من البيانات المتداولة على شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أن تصنّف في خانة البيانات ذات الطابع السيادي، وبالتالي أصبح من الضروري حسبه “وضع منظومة توافقية”، وهذا أساس التشغيل البيني للأنظمة المعلوماتية، وهو التمكن في التحكم الصارم في صناعة البيانات، والقدرة على تأمينها بصفة فعالة وناجعة، وذلك إضافة الى القوانين والأطر التي يجرى إعدادها، على غرار مشروع قانون الرقمنة الذي سيؤطر كل مجالات استعمال التكنولوجيات الرقمية، في وقت ظهرت فيه مفاهيم جديدة لصناعة البيانات الضخمة التي تؤرق حكومات العالم، لذلك أصبح من الضروري وضع الأطر القانونية والآليات العملية الكفيلة بحماية البيانات بفعالية أكبر.
تعميم التّصديق الإلكتروني
في سياق مشابه، رافع الخبير المختص في الحوكمة الالكترونية والرقمنة، بشير تاج الدين، من أجل تعميم آلية التصديق الالكتروني، مشيرا إلى أنّها آلية يستحيل معها تزوير الوثائق والمستندات، وبالتالي سيسمح تعميمها بالتحول الرقمي المنشود على صعيد الإجراءات والمعاملات الادارية، ومنها القضاء على مظاهر التزوير وحتى بيروقراطية الإدارة.
وأكّد في تصريحه لـ “الشعب”، أنّ التوقيع الإلكتروني هو حجر الزاوية الحقيقي للرقمنة، يعمل الآن ويدعمه إطار قانوني متين، مضيفا أنه على الرغم من وجود استثمارات كبيرة لإنشاء هذه البنية التحتية، إلا أنه تأسف لعدم استخدامها بكامل إمكاناتها.
أحكام قانون العقوبات لم تعد كافية للرّدع
من جهته، أوضح المختص في القانون العام، حاج مختار بوداعة، أنّ مشروع القانون المتعلق بمكافحة أشكال جرائم التزوير واستعمال المزور، يأتي انسجاما وتنفيذا لالتزامات رئيس الجمهورية، الخاصة بأخلقة الحياة العامة سواء في جانبها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وجاء المشروع حسب الدكتور بوداعة من أجل مكافحة أفضل وأكثر نجاعة لجرائم التزوير التي ازدادت خطورة في السنوات الأخيرة، وأصبحت تشكّل خطرا وتهديدا لمصالح الدولة والمواطنين.
ويعتقد الدكتور بوداعة أنّ الأحكام العامة الواردة في قانون العقوبات المتعلقة بتجريم أعمال التزوير والاستعمال المزور، في المحررات الرسمية أو التجارية أو المصرفية وحتى العرفية، أصبحت غير كافية لمكافحة فعالة، حتى التعديل الأخير الذي جاء به قانون العقوبات سنة 2020 بموجب المادة 253 مكرر، الخاص بمعاقبة أشكال التزوير بالنسبة لشهادات الاقامة غير كاف، لذلك نحن بحاجة إلى قانون خاص بهذه الجرائم، لعدة اعتبارات، أولها ضرورة أن يحصر القانون جميع مظاهر التزوير في الطلبات العمومية أو الشهادات الإدارية والاستفادة من الطلبات في مجال السكن، ومختلف الطلبات العمومية، والاعفاءات الجمركية والضريبية.
وأشار إلى أنّ تعدّد أوجه التزوير يطرح ضرورة حصر جميع هذه المظاهر في نص قانون خاص، وعلى هذا الأساس قامت وزارة العدل بتشكيل فوج عمل مشكل من عدة قطاعات لإثراء المشروع بجميع المقترحات الواردة من القطاعات الوزارية والخبراء والمختصين، حتى يتضمن القانون جميع مظاهر التزوير مهما كانت، لأنها تعددت وبلغت التزوير في البيانات الشخصية خاصة مع تطور الرقمنة، التزوير في الوثائق المدرجة للحصول على صفقة عمومية والتزوير للحصول على امتيازات معينة من الدولة، كما يهدف القانون تشديد العقوبات المقررة في هذا الصدد حسب خطورة الفعل.
دمـوش: حسابات مالية وشركـات وهمية أنشئت بوثائق مزيّفة
من جهته، قال باحث الدكتوراه في العلوم السياسية تخصّص إدارة عامة وتنمية محلية، مصطفى دموش، أنّ الحديث عن قانون خاص بمحاربة جرائم التزوير والاستعمال المزور، يدفعنا إلى التذكير بالبند الرابع لالتزامات رئيس الجمهورية، الهادف إلى أخلقة الحياة السياسية والحياة العامة وتعزيز الحكم الراشد، والذي يعد من المحاور الرئيسية التي أولاها السيد الرئيس ضمن اهتماماته، وأكّد عليها مرارا سواء في مجلس الوزراء أو لقاءاته مع وسائل الإعلام الوطنية، خاصة لما يتعلق الأمر بتحقيق نزاهة الموظفين العموميين والمساءلة والمحاسبة أمام الهيئات الرقابية والمواطن، مع ضرورة التجديد الأخلاقي والقانوني المطبق على الموظفين العموميين، كل ذلك في سياق تقريب الإدارة من المواطن وتعزيز الثقة بينهما.
ويرى مصطفى دموش أن طلب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إعادة إثراء ومراجعة القانون الجديد المتعلق بردع التزوير واستعمال الوثائق والمحررات المزورة، جاء بناء على استفحال هذه الظاهرة التي تجاوزت بعدها الإجرامي في المؤسسات الإدارية، لتشكّل تهديدا لأمن الدولة نظرا لتوسعها وتشابكها مع العديد من الأبعاد الأخرى، مضيفا أن ظاهرة التزوير لم تصبح محل جرم جنائي فقط، بل تنعكس على الاقتصاد الوطني من خلال التهرب الضريبي ودفع مستندات ووثائق غير صحيحة، بهدف الحصول على خدمات وفوائد مالية وتجارية غير مشروعة، وهو ما يتنافى مع مبدأ الثقة العامة، الذي يحكم العلاقة بين المؤسسات والمتعاملين الاقتصاديين والشركاء الاجتماعيين والمواطن، موضحا أن هذا القانون خاص، سيساهم في إعادة هذه العلاقة، وتنعكس آثاره بشكل إيجابي على الاقتصاد الوطني.
وأضاف مصطفى دموش، أنّ مواصلة الحرب المعلنة ضد الفساد ومحاسبة المتورطين في نهب المال العام، أظهر حجم الفساد المالي والإداري، نتيجة تداول وثائق مزورة سمحت لهم بإنشاء حسابات مالية وشركات وهمية، هدفها تبييض الأموال وتجنب الضرائب دون خلق نشاط اقتصادي حقيقي يساهم في الحد من ظاهرة البطالة، داعيا في هذا السياق إلى الصياغة الدقيقة والعميقة لقانون مكافحة التزوير والاستعمال المزور، كما من شأنه أن يحيط بالتحولات الحاصلة على هذه الظاهرة الخطيرة، في ظل عناية الحكومة الحالية بالإدارة الإلكترونية والبيئة الرقمية، والتي شهدت جرائم إلكترونية حديثة مثل التزوير الإلكتروني في المحررات الإلكترونية، وهو ما يدفع الدولة الجزائرية إلى مواكبة كافة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية وغيرها، لتتعزّز الجمهورية الجزائرية بنص قانوني جديد ضمن الترسانة القانونية المساهمة في محاربة كل الظواهر السلبية