شكّل الموقع الجغرافي المتميز لمنطقة برج بوعريريج الذي يربط الشمال بالجنوب، مهدا لولادة وازدهار العديد من الحضارات والدول، تؤكّده تلك المعالم الأثرية والشواهد التي تزخر بها المنطقة، من تحف نادرة ومستحاثات تتعلق بأدوات وأحجار مصقولة، وفؤوس تبرز نمط العيش لدى العديد من الحضارات والدول التي مرت على المنطقة، تعود إلى العصر الحجري، والحقبة النوميدية وفترة الاحتلال الروماني، وقلل طينية وصخور مصقولة استعملت في مجال خدمة الأرض كالفلاحة، ومعاصر زيتون شاهدة على حضارات ودول بمنطقة “الزمالة” التابعة لبلدية برج الغدير، وبرج المقراني، ومدن كاملة تعود إلى قرون تؤرّخ لدول تعاقبت على المنطقة كدولة الموحدين والحماديين وغيرها.
«قصبة القصور”..واحدة من المواقع الأثرية التي تزخر بها ولاية برج بوعريريج، والواقعة في أعالي جبال بلدية القصور، فوق هضبة شامخة يتناغم فيها لون أحجارها ونمطها العمراني المتفرّد مع سهول أشجار الزيتون الخضراء، وثمار الهندي الممتدة على طول الطريق المؤدية إلى هذا المعلم التاريخي، الذي اتخذ لنفسه مكانا شرقيا بعيدا عن الضوضاء وحركة السكان، تحدث جدرانها وأزقتها الصخرية وتدعو الزائر إلى البحث عن تاريخه، وعمّن عمروه قديما وطاب لهم العيش فيه عن أقوام وأمم سكنوا المنطقة، وتترك لدى الزائر الفرصة للتأمل في تفاصيل هذا المعلم الأثري.
يقع المعلم الأثري المسمى “قصبة القصور” ضمن منطقة القصور، وهي إحدى البلديات التي تقع بالجنوب الغربي لولاية برج بوعريريج، تضم عدة قرى لعل من بينها قصبة القصور، والتي تعد من أهم المناطق الأثرية والسياحية التي تزخر بها ولاية برج بوعريريج، فهي تتمتع بطراز معماري فريد من نوعه يعود لأكثر من 10 قرون كاملة، وأصبحت قبلة للسواح من داخل وخارج الولاية.
نمط معماري متفرّد
يرى أستاذ قسم التاريخ بجامعة محمد البشير الابراهيمي والمهتم بتاريخ منطقة برج بوعريريج الدكتور بن سالم الصالح، أنّ تشييد القرية ارتبط تاريخها بالفترة ما بين (953 ـ 1005م)، حيث يحصي المعلم الأثري “قصبة القصور”، أكثر من 94 منزلا مصنوعا من الحجارة المصقولة التي يتماشى فيها النمط المعماري في تشييد هذه الأبنية مع الطبيعة الصخرية للمنطقة، حيث المنازل تتميز بالبرودة في فصل الصيف وبالدفء في فصل الشتاء، وبذلك يتم الاستغناء تماما عن أجهزة التبريد والتدفئة الاصطناعية، كما أنّ المنازل فيها تتوزّع على أربع حارات يحيط بها سور منيع تتخلّله أربعة أبواب: باب الضاوية، الباب القبلي، الباب الشرقي والباب الجديد، وتحصي قصبة القصور عديد المساجد العتيقة التي تعود إلى أكثر من 05 قرون، أشهرها: جامع أوشليق، الجامع القبلي، جامع البرقوقة، جامع سيدي المبارك الزهار، هذا الأخير شيد سنة 1695م من قبل الشيخ المبارك الزهار بن علي محمد الطيار، وغير بعيد يتواجد الجامع الأبيض الذي يعود تاريخ تشييده إلى سنة 1680م، فيما يذهب خليفة معزوز المهتم بالتراث، ورئيس جمعية الثقافة والتراث لبلدية القصور، إلى أن تاريخ إنشاء قرية القصور العريقة ارتبط بفترة تاريخ إنشاء قصبة الجزائر العاصمة بسبع سنين في الفترة ما بين 953 والفترة 1005 ميلادية، ويتحجّج بالعديد من الروايات الشفوية التي تم تناقلها بالتواتر عبر الآباء والأجداد.
وممّا جاء في بعض هذه الرّوايات، فإنّ تسميتها – بحسب معزوز – “قرية القصور” هي نسبة إلى الطابع المعماري للبنايات، كون المساكن مشيدة على هضبة توحي من بعيد بأنها قصور.
موطن الأحداث التّاريخية الهامّة
يؤكّد أستاذ التاريخ بن سالم، في تحليله لأسماء المناطق المجاورة للقرية حول أصول ساكنة المنطقة والأحداث التي ارتبطت بها، بالقول إنّ “طوبونيميا المنطقة تطرح عديد الفرضيات حول أصول السّاكنة، فالقصور وما جاورها تحوز على أكثر من 25 مكانا تسمياته تبدأ بحرف التاء: (تازروت، تيفرنت، تيحمامين، تاسة، تازقة، تاونت، تيزرغين، تاغاغت، توقاش، تاقصرين، تاقروش، تالة، توميات، تالامبالا، تيعنصرين، تيعرقاب، تاورطة، تيزوارط، تيويرقيوين، تاقحمامة، تاغوات، تاقرارةـ، تايرت، تيمنير، تيمزريت)، وهي دلالة على أنّها كانت موطنا لقبيلة صنهاجة البربرية قبل أن يصل الهلاليون مع القرن 11م وينصهرون مع الساكنة، كما أدخل على طرازها المعماري المحلي تغييرات أبرزها الطراز “الحمادي”، بحكم قربها من قلعة بني حماد بالمسيلة، وما يزال بها لحد اليوم عديد الآثار الحمادية خصوصا الأواني الفخارية، وقد عرفت القرية عديد الأحداث التاريخية المهمة خلال الفترة العثمانية والفترة الاستعمارية الفرنسية، لكن أشهرها اجتماع 03 سبتمبر 1956م بين قادة الولاية الثالثة برئاسة العقيد عميروش وقادة الولاية الأولى برئاسة بن بولعيد.
منارة للإشعاع الدّيني والثّقافي منذ قرون
عن دور المنطقة في الإشعاع الديني والثقافي على مرّ العصور، يقول الدكتور بن سالم إن منطقة القصور تحتوى على زاويتين عامرتين، الأولى وهي الزاوية الأم وتقع بقرية تازروت، وتسمى زاوية سيدي علي الطيار، شيّدت في حدود 1785م، وتخرّج منها عديد الأعلام لعل من أبرزهم الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي (1824-1897م)، مؤسّس زاوية الهامل ببوسعادة، والثانية تقع بقرية العقاقين، وهي زاوية الشيخ أحمد بن مليك الطايري، وتعتبر فرعا من الزاوية الأم، تمّ الشروع في عملية تشييدها سنة 1902م من قبل العلاّمة أحمد بن محمد بن عبد المالك بن المبارك بن علي الطيار الأزهري (1870 ـ 1914)، وقد استعان في عملية البناء بمهندس إيطالي وأشهر البنائين في المنطقة، وفّر لهم كل ما يحتاجونه من مواد البناء، حيث تمّ الانتهاء من عملية التشييد سنة 1905م، وفتحت أبوابها للطلبة.
زادت شهرة هذه الزاوية – حسب محدّثنا – بحكم أنّ مؤسّسها درس بكل من: الزيتونة (تونس) والأزهر (مصر)، وحصل من هذا الأخير على شهادة العالمية، وقد كانت الزاوية تحوز على خزانة ثرية جدا بالكتب والمخطوطات النادرة، إذ تذكر الرّوايات الشفوية المتوارثة في المنطقة، بأنّ الشيخ عاد من مصر بحمولة 20 بغلا من أنفس المؤلفات والمخطوطات في شتى العلوم، لكن للأسف بعد وفاة الشيخ سنة 1914م ضاعت مؤلفاتها ومخطوطاتها الثمينة، ولم يبق بها حاليا إلا النزر القليل من المخطوطات.
يقول بن سالم: “حاول الشيخ أحمد بن مليك الطيار أن ينقل لزاويته مختلف المناهج المعتمدة في أشهر المدارس الإسلامية في ذلك الوقت التي زارها ودرس بها، لكن بمرجعية دينية جزائرية، ولذلك استقطبت هذه الزاوية الطلبة من مختلف المناطق، ولعل من أبرز تلامذتها العلاّمة موسى الأحمدي نويوات، أحد مشايخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد زادت شهرة الزاوية بعد زيارة الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس لها في حدود 1913-1914م بدعوة من صديقه الشيخ أحمد بن مليك ورفيقه في الدراسة بالزيتونة سنة 1908م”، كما أشار إلى أن الإمام عبد الحميد بن باديس قد أوصى بجعل هذه الزاوية منارة للتعليم الديني واللغوي بالمنطقة.
وقد عرفت الزاوية بعد وفاة مؤسّسها أحمد بن مليك الطيار تذبذبا في التسيير بعدما خلّف ولدا وحيدا اسمه (الزهار بسة) وعمره لا يزيد عن 4 سنوات، وبعدما شبّ هذا الولد تمكّن من إعادة النشاط لهذه الزاوية، كما انخرط في الحركة الوطنية من بوابة حزب الشعب، ثم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبعد اندلاع الثورة التحريرية كان من السباقين للانخراط فيها إلى أن ارتقى شهيدا سنة 1957م رحمه الله، وانتقاما من دور هذه الزاوية في الثورة التحريرية، قامت فرنسا بوضعها تحت الرقابة قبل أن تغلقها نهائيا، ودام هذا الغلق لعقود طويلة، إذ تحوّلت بعد الاستقلال إلى سكن عائلي لغاية 2011 حين قام أحد أحفاد مؤسسي الزاوية، ويدعى عبد الحق بسة بإعادة افتتاحها، لتصبح في ظرف وجيز منارة للتعليم القرآني يقصدها الطلبة من مختلف المناطق داخل وخارج ولاية برج بوعريريج، كما يسعى لجمع تراثها المخطوط.
قبلة الإنتاج الفني التّراثي
تشكّل طبيعة الأبنية ذات النمط المعماري المتميز والتي تحاكي بيوتها وأزقتها القديمة، الموروث التاريخي للمنطقة والجزائر، وهو ما جعل كثيرا من المخرجين ومنتجي الأفلام التاريخية والثورية، يسعون إلى إنتاج أفلام مرتبطة بعادات وتاريخ المنطقة، حيث أكد رئيس جمعية الثقافة والتراث لبلدية القصور، عن تصوير مسلسل “باب الدشرة”، الذي تم تسجيله في سنة 2018 وبثه التلفزيون الجزائري العمومي في شهر رمضان، واستطاع كسب قلوب الجزائريين نظرا لمحتواه المتناغم مع الواقع الذي عالج يوميات سكان إحدى القرى والمداشر بإحدى ولايات الجزائر العميقة، ونتيجة كذلك للكادر الإخراجي الذي قدّم هذه “الدشرة” في أبهى حلّة، عاكسا بها مدى ثراء وتنوّع الجغرافيا الجزائرية، إلى جانب جمال تراثها العمراني العتيق، ناهيك أيضا عن فيلم “سلطان الماء” من إخراج بلقاسم واحدي، والذي تم إنتاجه في إطار تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية، وتمّ تصوير جميع حلقاته ومشاهده السينمائية ببلدية “القصور”، المعروفة بحفاظها على الطابع العمراني القديم والنشاط الفلاحي المتمثل في زراعة القمح والشعير، إلى جانب أفلام ومسلسلات أخرى يتم تسجيلها بين الفينة والأخرى، آخرها فيلم ثوري انتهت به أشغال التصوير منذ أزيد من شهر.
وأضاف أنّ المنطقة أضحت قبلة للسياح وهواة السياحة الجبلية، تقصدها مجموعات ووكالات سياحية من الولايات الداخلية من أجل الاكتشاف والتعرف على طبيعة المنطقة، خاصة أنّه تمّ إدراجها من طرف مديرية السياحة لولاية برج بوعريريج، ضمن المسالك السياحية السبعة لمنطقة برج بوعريريج، خاصة بعد فوزها بالمرتبة الثالثة كأحسن قرية بولاية برج بوعريريج لاحتوائها على آثار تعود للحقبة الرومانية ومساجد ما زالت مشيدة إلى الآن بالقرية، وكلّها عوامل جعلت من القرية قبلة لمختلف الزوار ومنتجي الأفلام، خاصة بعد اكتشافها من طرف الجزائريين مؤخرا في الأفلام والمسلسلات.
في انتظار التّصنيف..
يناشد رئيس جمعية الثقافة والسياحة لبلدية القصور، وعدد من أعضاء المجتمع المدني بالمنطقة، السلطات المحلية والوصاية، بضرورة الالتفات إلى هذا المعلم الأثري وحفظه من الزوال والاندثار، من خلال رصد مبالغ مالية لترميمه، ومساعدة جمعية التراث الثقافي والسياحي لمنطقة القصور في الحفاظ عليه، وتصنيفه ضمن التراث المحلي للمنطقة، وحتى الوطني والعالمي من أجل الترويج له، وتنشيط السياحة الداخلية عبر هذا المكان، الذي تعود منافعه على سكان المنطقة بالدرجة الأولى، وإلى المعلم التاريخي بالدرجة الثانية، خصوصا بعد بداية اندثار بعض الأبنية بفعل العوامل الطبيعية.
كما يطمح سكان المنطقة إلى مساعدتهم في الحفاظ على عراقة وأصالة هذه القصبة، من خلال تقديم يد المساعدة فيما يتعلق بترميم وتعميم عملية الترميم على مجمل المعالم الأثرية، التي احتوتها قصبة القصور من معالم أثرية ودينية، وحماية الأدوات التي احتوتها المنطقة تعود للحقبة الرومانية والعصر الحجري، ظلت محمية بفضل جهود أهالي المنطقة، لذا فإن مطلب الإسراع في تصنيف القرية ضمن التراث المادي، أضحى مطلبا ملحا من أجل الحفاظ على القبة، وإبراز الموروث الثقافي الذي تركه الأجداد.
وفي السياق ذاته، أكّدت مديرية السياحة والصناعات التقليدية بالولاية، أنّ القصبة تمّ تصنيفها ضمن المسالك السياحية للولاية لتشجيع السياحة الداخلية، كما تسعى السلطات المحلية من أجل ترقية القرية وتصنيفها ضمن التراث المادي واللامادي، حتى تكون قبلة للسياح وكذا الراغبين في استكشاف التراث، خاصة بعد إدراجها ضمن المسالك السياحية لولاية البرج.