تعتبر سوق الفن حالة خاصة في المشهد الاقتصادي العالمي، فهي التي تجمع بين المال والإبداع، وتتشكّل من سلسلة طويلة من الفاعلين. ويصعب تصنيف هذه السوق ضمن الأسواق التقليدية بالمعنى التجاري، نظرا لخصوصية العمل الفني المعاصر. لذلك، اعتُمدت معايير وتصنيفات خاصة للمساعدة على تسعير الأعمال الفنية، والمفاضلة فيما بينها. وتثبت التقارير مواصلة سوق الفن نموّها المطّرد، ما يجعلها رافدا اقتصاديا صانعا للثروة.
سوق الفن.. حينما يصنع الإبداع الثّروة
يمكن تعريف سوق الفن “Art Market” بأنّها “جميع المعاملات المتعلقة بالتحف والأعمال الفنية التي تتم بين مختلف الفاعلين” في هذه التجارة، التي ظهرت في بداية القرن 16، وما فتئت تتطور.
سوق الفن العالمية..بالأرقام
تتعدّد مصادر المعلومات بشأن سوق الفن في العالم، على سبيل المثال، يذكر التقرير السنوي 26 لقسم “آرت برايس” (التابع لشركة “آرت ماركت”)، بالتعاون مع “آرترون” الصينية، أن حصة الولايات المتحدة الأمريكية من سوق الفن العالمي بلغت 44.31 % (أكثر من 7.3 مليار دولار من المبيعات)، وحلّت الصين ثانية بحصة 23.63 % من السوق العالمية (أكثر من 3.9 مليار دولار من المبيعات، مقابل 5.9 مليار دولار في 2021)، ما يعني أن هاتين الدولتين تسيطران على ما يفوق ثلثي السوق العالمي (67.94 %). وحسب التقرير الذي حمل عنوان “سوق الفن في عام 2022”، فقد بلغ إجمالي مبيعات سوق المزادات الفنية العالمية 16.56 مليار دولار مقابل 17.08 مليار دولار عام 2021، ما يمثل انخفاضًا بنسبة 3.1 %. وأرجع التقرير ذلك إلى الانخفاض الحاد في مبيعات الصين (-34 %) نتيجة لسياسة “صفر كوفيد”. ونشير هنا إلى أن هذا التقرير يخص مبيعات المزادات العلنية فقط.
بالمقابل، إذا اعتمدنا تقرير “آرت بازل” و«يو بي إس” عن سوق الفن العالمي لنفس الفترة، والذي أنجزته الاقتصادية الثقافية الإيرلندية “كلير ماك أندرو”، فسنجد من نتائجه الرئيسية استمرار مبيعات الأعمال الفنية العالمية في مسار تصاعدي، حيث شهد عام 2022 زيادة بنسبة 3 % على أساس سنوي إلى ما يعادل 67.8 مليار دولار، ما رفع السوق إلى مستوى أعلى من مستواه قبل الوباء في عام 2019. وحسب المصدر ذاته، فقد احتفظت الولايات المتحدة بمكانتها الرائدة مع زيادة حصتها من المبيعات القيمة بنسبة 2 % على أساس سنوي لتصل إلى 45 %، بينما تفوّقت المملكة المتحدة على الصين لتعود إلى المركز الثاني بنسبة 18 % من المبيعات، فيما انخفضت حصة الصين بنسبة 3 % لتبلغ 17 %، وتأتي فرنسا رابعة بحصة 7 %.
وبالعودة إلى تقرير “آرت برايس”، فقد وصل حجم المعاملات إلى مستوى تاريخي جديد، إذ بيعت 705 آلاف قطعة مقارنة بـ 672 ألف قطعة في 2021، فيما ارتفعت نسبة القِطَع غير المباعة من 31 % في 2021 إلى 35 % في 2022، ما يشير إلى أن السوق صارت أكثر انتقائية نوعًا ما.
واستحوذ الفن المعاصر على نسبة 16 % من سوق الفن مقارنة بـ 20 % في 2021 و3 % فقط عام 2000. كما تجاوزت ستة أعمال فنية العتبة السعرية الرمزية البالغة 100 مليون دولار، وكلها في نيويورك، مقارنةً بعملٍ فني واحد فقط في 2021.
كيف تعمل سوق الفن؟
تنقسم سوق الفن إلى سوقين فرعيين: السوق الأولى تتوافق مع جميع الأعمال التي يتم بيعها لأول مرة، غالبًا في صالات العرض أو في المعارض الفنية. هذه الأعمال تدرج فيما بعد في السوق الثانية عند إعادة بيعها، غالبا في دور المزادات أو بالبيع الخاص بالتراضي.
وفيما يخص الفاعلين المختلفين في هذا السوق، يمكن أن نذكر: الفنانين، جامعي التحف، دور العرض، شركات البيع والمزادات، النقاد، الإعلام المتخصّص، الخبراء، المرمّمين، حرفيّي الفنون، الرعاة، صناديق الاستثمار، البنوك الخاصة، وغيرهم.
ويمكن تقسيم الفنانين إلى فئتين: فئة الفنانين المصنفين أو الذين لهم قيمة تسويقية (Cotés)، وهم الذين باعوا أعمالهم في المزادات العامة، والفنانين غير المصنفين أي الذين لم يشاركوا مطلقًا في المبيعات. ويتم احتساب التصنيف بناءً على سعر كل عملية بيع عامة، وغالبًا ما يتطور هذا السعر مع سمعة الفنان: إذا عرض أعماله في مكان مرموق، وكانت أعماله قد تم اقتناؤها من قبل جامع تحف مشهور، وكانت مؤسسة ما قد كرّمته. وسنفصّل لاحقا في طريقة ومعايير تقييم العمل الفني.
ثم نجد الوسطاء، وتتمثل مهمة الأروقة والمعارض الفنية أو الباعة أولا في بيع أعمال الفنانين، ولكن مهمتهم أيضًا الترويج للفنان لدى المشترين. ثم تأتي دُور البيع (“كريستيز” مثلا) لتنظّم المزادات. كما يوجد وسطاء آخرون، كالسماسرة، الخبراء ومستشاري إدارة التراث الفني.
وفي نهاية السلسلة نجد المشترين، سواءً من محبي الفن البسطاء الذين يشترون غالبا في صالات العرض أو المعارض الفنية المحلية، أو جامعي التحف والأعمال الفنية، وهؤلاء يفضّلون المزادات والبيع بالتراضي، كما يحبّذون المعارض الدولية الكبرى.
كيف نقيّم عملا فنيا معاصرا؟
يتم قياس جودة عمل الفنان المعاصر بشكل موضوعي من خلال سمعة الفنان التي تعتمد على ظهوره وشرعيته في عالم الفن المعاصر: ما إذا عُرضت أعمال الفنان في أحداث تاريخية صغيرة مثل المعارض في المتاحف الكبيرة أو صالات العرض، وبيعت في دور المزادات الكبيرة، وإذا كان موضوع مقالات كتبها نقّاد الفن، وإذا حصل على جائزة في البيناليات وما إلى ذلك، فهذا يشكّل العديد من القرائن الفنية لجودة الفنان وأعماله. وتحدّد هذه العناصر القيمة الفنية للعمل الفني.
مثلا، يمنح مؤشر “كونست كومباس kunst kompass” النقاط بناءً على تمثيل أعمال الفنان في المتاحف والمعارض الكبرى، ما يسمح بتقدير القيمة الفنية للعمل. وتسمّى المنظمات القادرة على تقديم مؤشرات فنية موثوقة حول جودة العمل “الهيئات المشرعِنة” (أي التي تمنح الشرعية) وهي: المتاحف، وشركات المزادات، والمعارض الفنية، وجامعو الأعمال الفنية، ونقاد الفن. وهكذا، فإن العمل الذي له قيمة فنية أكبر يكون سعره أعلى.
مع ذلك، يمكن أن نلاحظ أن السعر لا يتوافق بالضرورة مع القيمة الفنية التي حددتها جهات الشرعنة. مثلا، في 2015، نجد أن ثلاثة فنانين فقط من بين الفنانين المعاصرين العشرة الذين حققوا أعلى مبيعات تراكمية في المزاد، قد ظهروا في قائمة أفضل 100 فنان في تصنيف “كونست كومباس”.
كما نشير إلى بروز معايير فنية أخرى لقيمة العمل، كالأصالة والاختلاف، وأيضا معايير السوق (القيمة الاقتصادية) كزيادة الطلب الذي يدفع السعر لأعلى بسبب شعبية الفنان المروّج له.
ماذا عن سوق الفن بالجزائر؟
ممّا سبق، يتّضح لنا أنّ سوق الفن سلسلة متشابكة، تتشكّل من عديد الفاعلين، ولكلّ دوره وأهميته. كما تتأثّر هذه السوق بالتغيرات الاقتصادية والسياسية في العالم، إلى جانب عدم الاتفاق حول “القيمة المضافة” (بمفهوم الاقتصاد السياسي) للعمل الفني. بل ويعتبر أكاديميون سوق الفن “مفارقة اقتصادية”، لأن الأعمال الفنية المعاصرة “جديدة”، ما يتعارض مع نظرية المزادات.
كلّ هذه المعطيات تحيلنا إلى اعتبار سوق الفن مسألة غاية في الجدّية، وعلى قدر من التعقيد، ليس فقط لأنها تجمع بين الاقتصاد والثقافة، أو لأنها تجمع العديد من الفاعلين، بل أيضا لأنها سيرورة وعملية تتطلب وقتا، وصبرا.
وبخصوص سوق الفن بالجزائر، نستأنس بما سبق لصاحب “ديوانية الفن”، الفنان التشكيلي حمزة بونوة، التصريح به لـ “الشعب”، حينما أكّد أنّ القيمة السوقية للعمل الفني لا يحدّدها الفنان بل عوامل كثيرة (سبق ذكرها). وتأسّف بونوة لكون “الفنان المحلّي لا يملك قيمة سوقية”، داعيا الفنانين إلى الاشتغال على هذا الجانب وتحسينه، كما دعا رجال الأعمال إلى دعم الفنانين والمبدعين، وخلص إلى ضرورة “بعث القطاع الخاص في الثقافة، مع تسهيل بعض المسائل الإدارية، ثم ترك الأمور تتطور منطقيا”.
بسمة سادات: الفن التّشكيلي بالجزائر.. إبداع بلا سوق
قالت الفنانة التشكيلية بسمة سادات، إن الفن التشكيلي في الجزائر يعاني من التهميش بين العرض والسوق، لاسيما عدم الاهتمام اللازم به وحتى التغييب الإعلامي، كما أضافت بأن الفنان الجزائري تائه يصارع بقوة من أجل البقاء في الساحة الفنية، ويأمل أن يجد ملاذا لتسويق لوحاته الفنية وإبداعاته.
تحدّثت بسمة سادات بأسف لعدم وجود سوق حقيقية للفن التشكيلي بالجزائر، قياسا بالدول الأخرى، وقالت إنّ الفنانين قرعوا منذ زمن أجراس الاستغاثة، ولكنها لم تجد آذانا صاغية رغم تهاطل المناسبات والفعاليات للاحتفاء بأعمالهم التي سجّلت في أروقة المعارض، وما زالت تسجّل هالة من الإشادة والإطراء، وهي جديرة بأن تكون أرضية لاستحداث سوق الفن التي لم تعرف إلى غاية اليوم مبادرة ملموسة، وبالتالي بقي السؤال مطروحا: متى يتمكن الفنان الجزائري من تسويق إبداعاته داخل وخارج الوطن؟
وفي سياق الحديث عن مصير جهود الفنانين السابقين والحاليين، أوضحت المتحدّثة أن الجزائر تستحق أن تكون لها سوق للفن في مقام الأسماء الفنية الكبيرة البارزة التي تركت بصمتها في التشكيل العالمي، وقالت: “الحديث عن سوق الفن التشكيلي كفكرة وكموضوع جميل جدا ومفيد للفنان، إذ يحمل آمالا لواقع الفنان وللفن أيضا، لأن المراد به ترقية جهود الفنان من أجل الارتقاء به في عالم الإبداع، وبتحفيزه عند البيع ومنحه فرصة الحصول على حقوقه الاجتماعية، وكذا ما يحفظ مكانته اجتماعيا ومهنيا، والتأسيس لسوق الفن التشكيلي بالجزائر لمساعدة الفنان على أداء عمله الابداعي في بيئة وظروف تلائمه”.
واعتبرت محدّثتنا أنّ سوق الفن تعتبر جسرا يجمع بين منتوج الفنان الذي أخذ من شخصيته وذاته الفنية، وما يساعد على التعريف بلوحاته، والجمهور الذي يعد العنصر الفاعل والمهم في السلسلة التسويقية للفن، فالسوق فضاء للارتباط المباشر بالفنان ومحبيه وعشاقه المقتنيين للوحات الفنية وللأعمال الإبداعية بشكل عام، كما أكّدت بأنّ هذه العملية التفاعلية تؤثر بشكل كبير على حركية هذا الفن، وتسهم في الترويج والتسويق وتوسيع دائرة الانتشار، وبناء قاعدة صلبة ومتينة للفنان، لاسيما المشاركات الدائمة في العروض داخل وخارج الوطن.
تقول سادات إنّ سوق الفن هي السبب الرئيسي في حركة الترويج للفن، وكل الأعمال الإبداعية التي ينتجها الفنان ويسعى إلى عرضها والتعريف بها على المستوى المحلي والوطني والدولي، كما أرجعت وجود صرح لسوق الفن التشكيلي الجزائري يساهم في الحفاظ على الهوية الوطنية والتراث الوطني والحضارة والعادات والتقاليد الأصيلة، وما يعوّل عليه في المبادرات الثقافية القائمة على التبادل الفني والثقافي بين دول العالم، وما يسهل كذلك انتقاء الأعمال وبعث جو لخلق المنافسة المشجّعة والمحفّزة على الاستمرار، إضافة لذلك تقول “تعزيز حركية السوق الفنية وعرض الإبداعات، ودفعها نحو فتح طريق واسع في العرض والتسويق والترويج المستمر داخل وخارج الوطن”.
جهيدة هوادف: سوق الفن لا تتجسّد بـ“عصا سحرية”
أكّدت الفنّانة التّشكيلية جهيدة هوادف أنّ سوق الفن هي القلب الذي يحافظ على الديناميكية الفنية والثقافية حية في بلدنا، وبدون هذا القلب الحيوي سيبقى التشكيل مجرّد آلة ميكانيكية يعمل بلا رؤية، بلا انفتاح، بلا إشباع للحواس!
ذكرت جهيدة هوادف أن فضائل الفن لا عد ولا حصر لها، فهي تجلب كثيرا من الخير للفرد وللبناء الروحي للمجتمع، وهي رصيد ضروري ضد جميع الآفات الاجتماعية.
واعتبرت المتحدّثة أنّ تحدي السياسة الثقافية يتطلب تكاثف الجهود من أجل القيام بأعمال استراتيجية وفعالة لتطوير الفن بشكل عام، وجعله أكثر حضورا في المجتمع، وغرس ممارساته لدى جميع المواطنين، من سن الطفل إلى سن الكبار، مشيرة إلى أن تشريب الفن يسمح بتبنيه، وبذلك يصبح انتماءً وهوية. وهكذا ستولد فكرة حيازتها والحفاظ عليها.
وقالت هوادف إنّ “التقدم التدريجي للفن، فكرة مستمرّة ما تزال قائمة، نراها مجسدة في مشروع جاد قد يصير حقيقة لا مناص منها. تحتاج سوق الفن إلى آلية كاملة للمضي قدماً، ولا يتحقّق تجسيدها بعصا سحرية، فهي مبنية على أركان ثابتة والتي سرعان ما تتبنّاها أعراف المجتمع، ومكانة الفنان تسمح بإثبات وجودها وتحفيز طريقة عمله ومستقبل إنجازاته، وهناك آليات أخرى تتبع ميلاد أعماله، كاستوديوهات الفنانين، والمعارض الفنية، ووسائل الإعلام المختلفة، لإمكانية ظهورها، ونقلها، وإبراز وظيفتها الاقتصادية ورمزيتها التراثية”.
نبيل رحموني: الفنون تشكيلية.. والسّوق إشكالية
يرى الفنان والرسام التشكيلي نبيل رحموني، بأن سوق الفن التشكيلي في الجزائر، حاليا مجهولة الملامح، نظرا لعدم توفير منصات للفنانين، ما يسمح بمرافقة مشاريعهم لاسيما عرض وتبادل أعمالهم، كما أكد بأن دور سوق الفن (الغائبة على أرض الواقع)، يسهم بالدرجة الأولى في الاقتصاد الوطني، وذلك باعتبارها محطة إبداعية وإنسانية من شأنها أن تكون قاعدة جماهيرية لبناء علاقات مع مختلف دول العالم.
وقال نبيل رحموني في تصريح لـ«الشعب”: “نظريا، يمكننا القول بأن سوق الفن تلعب دورا كبيرا في تعزيز حركية الفن التشكيلي على عدة أصعدة، منها تشجيع الابداع من خلال توفير منصات للفنانين لعرض أعمالهم وبيعها وكذا تمويل مشاريعهم، ما يشجّعهم على تطوير وتجسيد أفكار جديدة، إلى جانب تعزيز التبادل الثقافي من خلال التواصل بين الفنانين والجمهور”، وأضاف أنه يمكن للجمهور التفاعل مع الأعمال الفنية واكتشاف وجهات نظر فنانين، وحماية التراث الثقافي من خلال دعم الفنانين الذين يعملون على توثيق الموروث الثقافي والحفاظ على تقاليد المجتمع، عن طريق الأعمال الفنية، وبالتالي، المساهمة في الحفاظ على الهوية الثقافية، ولكن للأسف ـ يقول رحموني – كل ما سبق ذكره غير مطروح على أرض الواقع.
وتطرّق رحموني إلى تحديد معالم سوق الفن التي مازالت أهميتها مجهولة ودون اعتبار لدى كثيرين، فسوق الفن ليست مناسبة لعرض الأعمال أو لبيعها فقط، وإنما تلعب دروا هاما في تسويق الأعمال الفنية خارج الحدود عبر عدة قنوات للاتصال، قال: “تُمكِّن تلك القنوات الفنانين من المشاركة في عرض الأعمال الفنية في “غاليريهات” دولية من خلال علاقات المعارض العالمية بهواة جمع التحف داخل الوطن، إلى جانب دعم الاقتصاد الوطني، حيث يمكن للمشترين من دول أخرى دفع أسعار معتبرة للأعمال الفنية، وبالتالي تأثير اقتصادي ايجابي على الفنانين، كما يمكن أن تكون سوق الفن وسيلة لبناء قاعدة جماهيرية، من خلال الوصول للسوق الدولية، حيث يمكن للفنان توسيع قاعدة الجماهير وبناء شبكة علاقات في مختلف الدول.
حبيب عمري: سوق الفن تحتاج جهود قطاعات عديدة
يرى الفنان التشكيلي حبيب عمري، أنه لا وجود لسوق الفن في الجزائر بالمعنى المتعارف عليه في البلدان التي لديها تقاليد راسخة في الشأن الفني، وذلك لأسباب كثيرة، رغم أن الجزائر شهدت في السبعينيات والثمانينيات معطيات كان من شأنها أن تؤسس لسوق فنية واعدة.
أوضح الفنان حبيب عمري في تصريح لـ«الشعب” أن من بين الأسباب التي تحول دون إنشاء سوق للفن التشكيلي هو البنية السوسيولوجية للجزائر التي تفتقد إلى ثقافة “البرجوازية”، وهي الفئة من المثقفين التي يفترض أنها من أهم مقتني الأعمال الفنية، موضحا أن هذه الثقافة لم تتشكّل في المجتمع الجزائري لظروف موضوعية.
وذكر المتحدث أسبابا أخرى، نظرا لاعتقادات وتراكمات كثيرة، خاصة مع عزوف المؤسسات الفنية العمومية عن اقتناء الأعمال الفنية، نظرا للتعقيدات القانونية والبيروقراطية كالمتاحف والمراكز الفنية.
وقال حبيب عمري: “الأمر لا يتعلق بوزارة الثقافة وحدها؛ لأن سوق الفن تتداخل فيها العديد من القطاعات كوزارة السياحة ووزارة التجارة والمالية والجمارك وغيرها، وسأكتفي ببعض الاقتراحات الواقعية والممكنة التطبيق في آجال قصيرة الأمد أولها؛ إعادة النظر في المنظومة القانونية الخاصة باقتناء الأعمال الفنية من طرف المتاحف العمومية والمراكز الفنية وجعلها أكثر ليونة، إقامة صالونات وملتقيات دولية وفق معايير صارمة ورؤية استشرافية، تشجيع الخواص أصحاب القاعات الفنية الخاصة ووضع حزمة من القوانين في هذا الشأن كالإعفاءات الضريبية لرجال الأعمال الذين يقتنون الأعمال الفنية”.
فايزة طهراوي جفال: فنانون يقترحون أسعارا دون مرجع نقدي أو مهني
تقول الفنانة التشكيلية فايزة طهراوي، إن “سوق الفن le marché de l’art عندنا في حالة بدائية جدا.. حيث إن السوق تتطلّب أولا وجود تأطير خاص من قبل مهنيين مختصين كنقاد الفن مثلا، وهذا مفقود عندنا.. لا يوجد مثلا قائمة للنقاد كما هي الحال في بلدان أخرى”، مضيفة أن الناقد، زيادة على درايته بخبايا الفن وتاريخه، ومعرفته بالفنانين، يساهم في تصنيف وترتيب القيم الفنية للإبداعات في سائر ربوع الوطن، هذا التصنيف من شأنه أن ينتج مراجع قيميةcotation” يعبر عنها بقيمة نقدية… هناك مستويات قيمية متفاوتة، من الفنان المتواضع إلى الفنان عالي المستوى أو من يسمى أستاذ “Maître” وهذه المستويات تبدأ من الأسفل أي من 10 آلاف دج إلى 100 ألف.. وهكذا حتى الوصول إلى الذروة..
وتؤكد المتحدثة، أن هذا التصنيف معدوم في بلادنا، حيث إن أغلب الفنانين يقترحون أسعار أعمالهم من دون أي مرجع نقدي أو مهني.. بل إن كثيرين يقترحون أسعارا في معرض وإذا لم يتم بيعها يراجعونها بغية ضمان مدخول ولو كان قليلا.. مشيرة إلى أن ذلك يخلّ بالمصداقية وقيمة الأعمال “هناك أيضا غياب لمهنة مهمة وأساسية في سوق الفن، وهي وظيفة المحافظ المزايد “Commissaire Priseur” الذي يدلي برأيه في تسعيرة الأعمال الفنية بكل احترافية ومهنية، في غياب هذه الأطر الضرورية أظن أننا لا نستطيع الكلام عن سوق الفن بجدية في الجزائر.
سليمة مقدود: الحاجة ماسّة إلى فضاء لتسويق الأعمال الإبداعية
أكّدت الفنانة التشكيلية سليمة مقدود، أن الفنون التشكيلية في الجزائر تميز وعطاء وحركة إبداعية تعود جذورها إلى آلاف السنين، مشيرة إلى أن هذا الفن إلى جانب تخصصات فنية أخرى، موجود منذ وجود الإنسان في العصر القديم، حيث عبّر عن محيطه وما يفعله في حياته اليومية من خلال النقش والرسم على الصخور والجبال باستعمال مواد طبيعية، أو بما يعرف بالرسومات الصخرية المتواجدة في صحراء الجزائر وبالأخص في جبال الطاسيلي ناجر، حيث توجد مجموعة من الرسومات والنقوش تمثل الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد والمعتقدات الدينية في تلك الفترة الزمنية..
وترى الفنانة مقدود، أن الانسان القديم عبّر بطريقته الخاصة عما يفكر ويشعر به، حيث أضاف لمسة فنية للمكان المتواجد فيه، قائلة إن “هذا الموقع (ناجر) يعتبر حاليا أكبر متحف طبيعي مفتوح في العالم ومصنف من طرف منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي، وعليه فإن الفن التشكيلي بالجزائر متجذر منذ القدم، ولقد لعبت الرحلات الاستكشافية والبعثات العلمية دورا هاما في تعزيز ثقافة الجزائر وإخراجها للعالم كنموذج فني مميز”.
وأضافت: “من خلال هذا الاندماج عرفت الجزائر حركة واسعة في المجال الفني، وبقيت في تطوّر مستمر إلى غاية الفترة المعاصرة والحالية من خلال اتساع دائرة الفن التشكيلي وأصبحت الجزائر تزخر بالعديد من الفنانين التشكيليين على اختلاف تخصصاتهم، هذا التميز والعطاء والتنوع في الفنون أضفى نوعا من الجمال على المعارض الفنية التي تنظمها وزارة الثقافة”.
وأشارت الفنانة – في سياق حديثها – إلى أن الفنان التشكيلي يسعى دائما إلى إنتاج أعمال جديدة مميزة عن سابقتها، ويتشجّع أكثر بوجود سوق للفن تعرض فيها أعماله للتسويق، سواء داخل الوطن أو خارجه، مضيفة أن وجود سوق يعمل على تعزيز حركية هذا الفن، وقالت: “شيء جميل جدا أن تكون الجزائر الوجهة الفنية التي تجمع مختلف الولايات في مكان فني راقي لعرض إبداعات فنانين، وربما في المستقبل، تتحوّل هذه الفضاءات إلى سوق فنية دولية بالجزائر، تجمع العديد من الدول بهدف تبادل الثقافات المختلفة بين الشعوب، فمثلا مشاركة فنانين من خارج الوطن يسمح بالتعرّف على ثقافة الجزائر وجمالها، وهو ما يدفع إلى تصوير ذلك الجمال في لوحات فنية وعرضها، وبذلك يكون التعريف بالجزائر وطبيعتها في الخارج من خلال هذا الفن، وبالتالي تجسيد التبادل الثقافي بين الشعوب”.
عبد الرزاق بوزيد: غياب النّقاد أسهم في صعوبة تسويق اللوحات الفنية
يرى الفنان التشكيلي عبد الرزاق بوزيد، أن إشكالية تسويق الفن التشكيلي بشكل عام في الجزائر، راجع بالأساس إلى إشكالية غياب تخصّص نقدي مرتبط بتقييم العمل التشكيلي بشكل عام، وهو ما ساهم في غياب سوق خاصة بهذا النمط الفني..
أكد الفنان بوزيد، أن الفنان التشكيلي أضحى يتولى مهمة الترويج، والتسويق والبائع والباحث عن المشتري في نفس الوقت، وهي طريقة خاطئة نهائيا – على حدّ وصفه – كما أن غياب ناقد يتولى مهمة تقييم الأعمال والنظر في الجوانب الجمالية التي تميز أي عمل فني، فتح الباب أمام الدخلاء على هذا الفن البسيط، حيث تمّ طرح هذا الإشكال، واقترح ترسيم يوم يسمى “ربيع الفن التشكيلي” على شكل سوق للفن والذي علقت عليه آمال كثيرة من طرف أصحاب الفن والفن التشكيلي كونه سيمثل سوقا لبيع المنتجات الفنية.
وقال محدثنا، إن التسرّع والارتجالية التي توّجت هذا المشروع، أدت إلى فشل المعرض، ما فتح الباب على مصراعيه لنشاط السوق السوداء للفن، ما أجبر الفنان في ظلّ عدم توفر الأسواق ولا جهات مختصة لتقييم الأعمال إلى البيع بأسعار زهيدة قد لا تصل في بعض الأحيان حدّ تسديد مبلغ المواد الأولية، ناهيك عن الإحباط الذي يصيب الفنان جراء هذه الانتكاسة وخيبة الأمل، على اعتبار أن هذا الفن هو الوحيد الذي يتمّ فيه صرف المبالغ قبل العمل، خلافا للأنماط الفنية الأخرى كالمسرح والموسيقى التي ترتبط فيها الأعمال بإعانة الدولة التي تقوم بالتكفل بجميع المصاريف..
ويرى المتحدث، أن الفن التشكيلي هو العمل الوحيد الذي يقدّم شيئا ملموسا، تجسّده الألواح الفنية والجداريات وغيرها، حيث يصدم الفنان التشكيلي في كل مرة بعدم وجود صيغة قانونية تحدد إجراء الدفع بالنسبة للفنان التشكيلي لقاء كل عرض وعمل فني.
واقترح بوزيد عبد الرزاق حلولا تتمثل في إدراج تخصّص على مستوى الجامعات ومعاهد الفن التشكيلي، يشمل النقد الفني ونقد الأعمال والألواح التشكيلية، تتولى مهمة تقييم ووضع الضوابط لكل عمل فني تشكيلي، إلى جانب فتح أروقة وفضاءات خاصة تابعة للقطاع العمومي، تتولى مهمة توفير الأروقة بمبالغ مدروسة ورمزية، وإيجاد صيغة قانونية يتمّ بموجبها تمويل وتدعيم الأعمال الخاصة بالفنان التشكيلي لقاء كل عمل على مستوى مراكز ودور الثقافة المحلية، فضلا عن إيجاد صيغة لتسويق المنتجات الفنية التشكيلية إلى جانب ربط المستثمرين وأصحاب المؤسسات العمومية والخاصة بتدعيم هذه الفئة.
المختص في فن الاسترجاع عبد الكريم قاسة: الفن التشكيلي بحاجة إلى خارطة طريق
دعا الفنان التشكيلي والمختص في فن الاسترجاع، عبد الكريم قاسة، إلى ضرورة ضبط المعايير والميكانيزمات المتعلّقة بسوق الفن التشكيلي، من خلال إعداد خارطة طريق حول سوق الفن وطريقة تسويق منتوج الفن التشكيلي، يتمّ فيها الأخذ بعين الاعتبار آراء المختصين والباحثين على مستوى معاهد الفنون الجميلة والتشكيلية، مع طرح الآليات والضوابط المتعلقة بتقييم ونقد الألواح الفنية، مثل تقييم السعر، توفير الرواق المخصّص لعرض المنتجات، مع الاقتداء بالتجارب الأجنبية في مجال التسويق للفن التشكيلي، على غرار دول أوروبية، من خلال ربط منتجات هذا الفن بأسواق عرض عالمية تتولى الدولة مهمة الترويج لها للجمهور المتعطش لهذا الفن..
يؤكد الفنان قاسة في حديث مع “الشعب” على ضرورة التفكير في حلول مرتبطة بتسويق المنتوج الفني من خلال ربطه بالجانب الصناعي والسياحي لكل منطقة، مشيرا إلى منطقة برج بوعريريج التي تعتبر عاصمة الصناعة الإلكترونية بامتياز، ومن خلال ذلك، يمكن ربط الإنتاج الفني التشكيلي مع المستثمرين والزوار الأجانب القادمين من أوروبا وآسيا، بإعطائهم الفرصة للاطلاع على تاريخ المنطقة والجزائر عبر اللوحات الفنية التي أبدع في رسمها فنانون تشكيليون، وتعبّر عن بصمة المنطقة وماضيها العريق، كلوحات الطاسيلي وبرج المقراني، والدولة الزيانية بتلمسان وغيرها..
وقال محدثنا: “الإنتاج الفني يمثل بصمة وخصوصية تعبر عن تاريخ الأمة الجزائرية، ناهيك عن أنها تمثل جسرا ثقافيا بين الدول والثقافات العالمية”، ويراهن قاسة على أن المواطن الجزائري ذواق لهذا الفن التشكيلي، من خلال تلك المبادرة التي طرحت قبل وباء كورونا بالجزائر العاصمة، أين لاحظنا إقبالا كبيرا من طرف المواطنين على الفن التشكيلي، مؤكدا بأن الجمهور سيتجاوب إذا ما تمّ حل الإشكالية وتوفير فضاءات خاصة بهذا الفن، كما دعا الفنانين في كل ولاية إلى تقديم مبادرات محلية ترعاها دور الثقافة ومختلف المراكز الثقافية عبر جلسات نقاشية، تتوّج في النهاية بمبادرة وطنية تكون حجر أساس لقيام سوق للفن التشكيلي والنهوض بهذا الفن.
ملف: أسامة إفراح وأمينة جابالله وفاطمة الوحش ورابح سلطاني ومحمد أمين سعيدي