تزخر الجزائر بالعديد من المقومات التراثية المادية والمعنوية عبر مختلف مناطقها الشاسعة بحكم التنوّع الحضاري والثقافي الذي ساد الجزائر قديما وحديثا، وقد خلّفت الشعوب الوافدة إلينا مسالمة كانت أو مستعمرة معالم عظيمة القيمة، منها الآثار المعمارية التي ما زالت تصارع الزمن وعنفوان الطبيعية، وإهمال البشر أحيانا..
إن هذه الآثار المنتشرة عبر كثير من المناطق، ما هي إلا ذاكرة حيّة للأمة، ومصدر إشعاع وتنوير للأجيال ولكل من أراد الاقتراب من تاريخ الأمة والتعرّف عليها، كما يمكن أن تصبح تلك الآثار مورداً سياحيا كبيرا يعود على الاقتصاد الوطني بعوائد كبيرة. ومن بين تلك المعالم الأثرية الكثيرة تحفة معمارية عريقة في قدمها، بديعة في مظهرها، جمعت بين الهندسة العثمانية النفيسة والروح الأندلسية الفاتنة، إنها “فيلاً عبد اللطيف”.
هي دار معروفة ومشهورة لدى بعض العامة في العاصمة، إلا أن تاريخها مجهول لدى الغالبية من الناس، والقليل من المثقفين من يعلم بمدى أهمية تلك الدار وتاريخها في العهد العثماني وأبان الاحتلال الفرنسي، حين أصبحت ورشة حقيقية للممارسات الفنية التشكيلية، إذ بعد الاقتراح الذي تضمّنه تقرير للناقد الفرنسي “أرسن الكسندر” Arsen Alexandre)
أمر الحاكم العام آنذاك برد الاعتبار لتلك الدار، وإعادة ترميمها ثم خصّصت كإقامة للفنانين التشكيلين وورشة لهم.
فيلا عبد اللطيف..
تقع هذه الدار وسط العاصمة الجزائر، غير بعيد عن حديقة التجارب بـ«الحامة”.. تعد دار عبد اللطيف واحدة من أجمل الدور في الجزائر العاصمة، بنيت وسط الغابة القريبة من مقام الشهيد الذي تمّ تدشينه في ثمانينات القرن الماضي، وغير بعيد عن “مغارة سيرفنتيس” حيث قضى الروائي الإسباني الشهير صاحب “دون كيشوت” فترة أسره التي دامت خمس سنوات قبل أن يعود إلى بلاده ويكتب تلك الرواية الشهيرة .. كل ذلك لنظارة المكان بداعته، ولا أحد يعرف متى بنيت دار عبد اللطيف ولا اسم مؤسسها، لكن لا أحد من الذين مروا منها في بداية القرن العشرين، تجرّأ على تجاهل إشعاعها الثقافي على الفنون التشكيلية الفرنسية آنذاك.. هكذا بدأ فوزي سعد الله حديثه عن هذه الدار التي استهوت كثيرين ممن مروا بها أو أتيحت لهم الفرصة للإقامة فيها.
ومن بين الذين تناولوا الحديث عن هذه الدار التحفة، الدكتور أبو القاسم سعد الله حيث تطرّق إليها في مؤلفه الكبير “تاريخ الجزائر الثقافي” في جزئه الثامن.. تنسب كما هو واضح من الاسم إلى عائلة عبد اللطيف التي اشتهرت في القرن الثامن عشر بالثروة والجاه والسياسة والأدب، وكان من هذه العائلة وزراء وقضاة. وقد خلّدها الشاعر أحمد بن عمار في قطعة نثرية نادرة وقصيدة فريدة، وبناءً على وصف ابن عمار، فإن الفيلا (القصر) كانت غارقة في الاخضرار الزمردي، وكانت آية في الجمال والرونق، وقد استقبلت ضيوفها من الأدباء والسياسيين، حيث قضوا سهرة من سهرات القصور البغدادية والأندلسية.
أقدم وثيقة تناولت هذا القصر الجزائري العتيق المحاط بالبساتين الخضراء، تعود إلى سنة 1715م. في تلك الفترة سكنها عدد من أثرياء وأعيان مدينة الجزائر أمثال علي أغا، محمد آغا، والحاج محمد خوجة وزير البحرية، كما تداول على الإقامة بها كل من زوجة أحد المسؤولين الساميين في السلطة بالإيالة، بالإضافة إلى السيد عبد اللطيف الذي اشتراها بألفي دينار ذهبي أي ما يعادل 80 ألف فرنك فرنسي في النصف الثاني من القرن 19م.
وإذا كانت أسماء الملاّك السابقين الذين تداولوا على هذه الدار قد دخلت طي النسيان، فإن اسم عبد اللطيف مازال حاضرا بقوة؛ لأنه تحوّل إلى بطاقة تعريف هذه التحفة المعمارية التاريخية، وقد يكون ذلك بسبب كون عبد اللطيف زيادة على ثرائه ورقيه الاجتماعي، شاعرا ومثقفا من نخبة العاصمة الجزائرية قبل قرنين جمع في داره زبده الشعر الجزائري آنذاك في مجالس أدبية وسهرات شعرية فائقة الجمال..
بعد الاحتلال الفرنسي لمدينة الجزائر، مرت الدار بمراحل جد صعبة إذ استغلت من طرف السلطة الاستعمارية لأغراض عسكرية، حيث استغلها العسكر وحوّلوها إلى مستشفى عسكري ومركز نقاهة لجنود الاحتلال، إلا أن مالكها الشرعي آنذاك السيد محمود بن عبد اللطيف تمكّن من استرجاعها سنة 1834م بعد جهود جبارة استدعت تدخل الوزارة الحربية في باريس، بعد ذلك استأجرها يهودي اسمه شيرس أو (شبلي) أبو قية لمدة ستة سنوات مقابل 1000 فرنك سنويا، وأعاد كراءها بدوره إلى السلطات الفرنسية، بعد ذلك اشترتها السلطات الفرنسية وتحوّلت إلى ملكيتها نهائيا بعد أن دفعت فيها 75000 فرنك وأصبحت تابعة لـ«الشركة الفلاحية التي كانت تدير حديقة التجارب.
الاستغلال الثقافي الفرنسي للدار
أثارت تلك الدار انتباه النخبة الفرنسية آنذاك، ولعلّ أهمهم الباحث المعروف أرسن الكسندر، وهو محافظ متحف اللكسمبرغ آنذاك، وكان ناقدا في الفن التشكيلي، قدّم تقريرا في مجلة الأخبار (Actualite) سنة 1906م، تحت عنوان “خواطر عن الفنون والصناعات الفنية في الجزائر” (Reflexions sur les arts et métiers traditionnels en Algérie ) وفيه كتب هذا المقطع: “إن دار عبد اللطيف الواقعة في أسفل المشتل الزراعي هي قصر فخم مشرف على الانهيار وهو رائع رغم حالته المزرية، كما أنه يقع في مكان يسمح بالاستفادة من الشمس والطبيعة، فيما إذا قيض له أن يكون مقرا للفنانين يستفيدون من سطحه وأعمدته وساحته الداخلية المزينة بالقيشاني الرائع والحدائق المحيطة به بلونها الأخضر الزمردي”.
لقد كان لهذا التقرير دورا وأهمية كبيرة في تغيير وضعية تلك الدار، وكان السبب المباشر في استغلالها وتحويلها إلى إقامة للفنانين التشكيليين الفرنسيين لتكون بذلك اللبنة الأولى لمدرسة الفنون الجميلة، فقد وجد تقرير أرسن الكسندر وما قدمه من اقتراح تجاوبا من طرف الحاكم العام، وباشر في تنفيذه، حيث استرجعها ورمّمها، وهو يقوم بذلك من منطلقات استعمارية بحتة مفادها أن الجزائر امتداد لفرنسا وقد آن الأوان لأن تصبح الجزائر امتدادا لصورة فرنسا وتوجهاتها، فبعد أن كانت تلك الدار قصرا عربيا استغل كإقامة للعديد من القادة الأتراك، أصبحت بعد العام 1907م مؤسسة فنية تشكيلية تستقبل كل عام ولمدة سنتين اثنين من الفنانين التشكيليين الفرنسيين بعد مسابقة تجرى في باريس.
من المؤكد أن ممارسة الفن التشكيلي بدأت منذ 1881م، إلا أن ترسيم دار عبد اللطيف كورشة وإقامة للنخبة من الفنانين التشكيليين الفرنسيين كانت بداية من العام 1907 م، فأصبحت بذلك مهدا حقيقيا للفن التشكيلي بالجزائر.. نقول هذا ونحن ندرك ونعلم أن القليل من الجزائريين من كان يعرف ذلك، أما الفرنسيين فكان علمهم واهتمامهم بها أكبر، سواء في الجزائر أو في فرنسا، وهذا لا ينفي ولا يقزم أهمية هذا النشاط الراقي حتى وإن كانت ملامسة الجزائريين له جد محدودة، فوجوده في أرض الجزائر لابد وأن تترك تأثيرا ما، ولابد أن يأتي اليوم الذي يزور فيه موهوب جزائري تلك الدار الورشة وسيأتي اليوم الذي ينخرط فيه الفنانون الجزائريون في ذلك النشاط الذي افتقرت إليه الدول العربية جميعا آنذاك.
أشهر الفنانين الذين ارتادوا الدار
في العام 1819م أطلق “غوتة” أشعاره التي يقول فيها:
الخراب يعم الشّمال والغرب والجنوب
هوت العروش، وسقطت الممالك
فامض إلى الشرق البعيد
واستنشق الأنسام الطيبة.
إلى أصقاع الخمر والعشق والغناء
ولتبعث هناك حياة جديدة.
إن مثل هاته الدعوات هي التي دفعت بالعديد من الفنانين التشكيليين على غرار باقي المثقفين آنذاك للسفر إلى بلاد الشرق، وكانت الجزائر مستهدفة من أشهر وأكبر الفنانين التشكيليين الفرنسيين آنذاك، ممن كانوا خلال تلك الفترة يمثلون رواد الفن الحديث في أوروبا منهم اوجان دولاكروا واوجان فرومانتان واتيان دينيه وغيرهم، إلا أن تأسيس فيلا عبد اللطيف كدار للفنانين التشكيليين الفرنسيين، سهل تلك العملية على الفنانين وأصبحت قبلة للفن من مختلف أنحاء العالم، وتبلورت بفضل هذه الدار التحفة التي أصبحت تشبه في الأربعينيات والخمسينيات كبريات الورشات الفنية في حوض البحر الأبيض المتوسط، مثل الفيلا “ميديسيس” La villaMédicis
الإيطالية، ودار فيلاسكيز Casa Velasquez الإسبانية، وتحوّلت إلى سوق الجزائر للوحات والتحف الفنية، قائمة بذاتها، يتنافس فيها الأثرياء الكولون والسياح الأنجلو ساكسونيون على اقتناء أجملها وأشهرها، خاصة إذا كانت تحاكي أزقة القصبة وسطوحها أو مقبرة القطار ومنظر خليج الجزائر الساحر، وقد ذكر عفيف بهنسي من الفنانين الذين أقاموا في فيلا عبد اللطيف من أمثال ماكسيم نواره M.Noire الملقب بالفنان الجزائري في لوحته (ولادة في الصحراء) و(أغنية الناي) و(ياسمين الساحل)، ومن أمثال ليون كوفي L CAUVY الذي أصبح التصوير الجزائري على يديه أكثر نزقا وأكثر نهجية، وليون كاري L.Care الذي اكتشف الأناقة والدقة في الطبيعة الجزائرية.. شارل دوفران (Charles Dufresne) 1872 – 1938 ، أحد كبار الفن التكعيبي الفرنسيين تخرج من دار عبد اللطيف هو الآخر. بول دوبوا P.E.Dubois من أبرز الفنانين الموفدين إلى الفيلا تحصل عام 1927م على
الجائزة الكبرى.. جان لونوا j Launois، توفي عام 1942 في وهران، وكان قد أوفد عام 1920م إلى فيلا عبد اللطيف، وكذلك الأمر بالنسبة لأدولف بوفرار، واوغستان، فيراندو، ولويس بيرتوم.. الذين ألهموا بأعمالهم الرائعة حول قصبة الجزائر..
هؤلاء وغيرهم كثير ممن زاروا تلك الدار أو أقاموا بها، ونحن لا نعرف كثيرين منهم، فإذا كنا نعلم بعضا ممن أقاموا بها بعد 1907 فإن الفنانين الذين زاروها أو أقاموا بها قبل ذلك أي منذ 1881م، حين كانت ورشة غير رسمية للفن التشكيلي، غير معروفين ولم يؤرخ لهم؛ لأن تلك الإقامات والزيارات كانت غير منظمة أو مبرمجة، ولم تكن هناك دوافع أو عوامل للتأريخ لها.
الدار بعد الاستقلال..
لم تتوفّر لدينا المعلومات الكافية التي تبيّـن حال الدار بعد الاستقلال، إلا أن المؤكد أنها بقيت في طي النسيان والإهمال كباقي الآثار والمعالم المنتشرة بالجزائر، إلى أن حظيت بين عامي 2006 و2008 بعملية ترميم أشرفت عليها وزارة الثقافة، واستعادت في الوقت الحاضر كل جمالها ورونقها، وصارت تجسّد مرة أخرى اختصاصها التراثي ومصيرها الجديد كإقامة للإبداع وفضاء ثقافي، ومقر للوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي، كما قد اكتشف مؤخرا بفيلا عبد اللطيف بالعاصمة، معلم أثري يتمثل في نظام للسقي يشبه نظام الفوقارة بالجنوب، يرجع إلى القرن الـ17 من العهد العثماني، حيث تمّ الاكتشاف صدفة خلال عمليات الترميم وإعادة التأهيل بالفيلا، وذلك في إطار تأهيلها وتحويلها إلى إقامة الفنانين وهذا جاء بعد رفع أطنان من التراب التي تعمد الاستعمار الفرنسي أن يردم بها كثيرا من أجزاء الفيلا، سيما تلك التي تكشف تميز المجتمع الجزائري كالحمامات والحوض الذي قاد المختصين للوصول إلى قنوات السقي التي تشبه المشط وتعمل على تزود مختلف الحدائق المحيطة بالفيلا بالماء، وقد كان هدف الاستعمار طمس الشخصية والهوية الجزائرية ومحو أي تميز من شأنه أن يبرز خصوصية وأصالة الشعب الجزائري.
تستغل الدار حاليا كمقر للوكالة الوطنية للإشعاع الثقافي، وقد حاول القائمون عليها إعادة بعث الدور الثقافي لهذه الدار حيث شُرع في استضافة العديد من الشخصيات الفكرية والأدبية من مختلف الدول، وذلك في إطار مشروع للوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي، ومن بين الذين استضافتهم الدار، الروائي نمرود من تشاد، ليغي غارنييري من إيطاليا، أندري غولاسيموف روسيا، وماتياس إينارد من فرنسا وفاروق مردام بيك من سوريا ومينة تران هوي من فيتنام، وإيمانويل لاندون من أستراليا وتيم باركس من إنجلترا وبريتن بريتن باشا من جنوب إفريقيا، والرواني جبور دويهي من لبنان وباهيه ناخجافاني من الهند وخوسيه كارلوس سوموزا من كوبا، إضافة إلى الروائي واسيني الأعرج، وخالد الخميسي من مصر، إلا أن كل تلك النشاطات لم تلق الاهتمام ولا العناية الكافية وربما كانت الشخصيات المدعوة قد نالت الاهتمام على حساب أهمية المكان أو أنه لم يشر إلى ما يوحي بأهمية الحدث، من خلال مكانة الشخصيات الفنية المدعوة التي لا يستهان بها، بالإضافة إلى المكان الذي هو شامخ في تاريخه وعراقته وقيمه المتعدّدة.