عاد الوضع في الساحل الإفريقي ليحتل صدارة المشهد الإعلامي العالمي بفعل ما يعرفه من مستجدات وأحداث باتت تثير الكثير من المخاوف خشية انزلاق الوضع بهذه المنطقة المكدّسة بالأزمات نحو مزيد من عدم الاستقرار الأمني وربّما التدخلات العسكرية والمواجهة المسلّحة التي يعلم الجميع آثارها الإنسانية المريعة.
لا يمكن لمن يتتبّع الوضع في الساحل الافريقي إلاّ وأن يضيق صدره من حجم ما يحمله من مخاوف وتساؤلات حول المسار الذي تمضي إليه هذه المنطقة الساخنة التي تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى نقطة جذب للجماعات الارهابية، وباتت حلبة صراع على النفوذ والثروة بين مجموعة كبيرة من الدول المقتدرة التي تسعى وراء تحقيق مصالحها دون أن تلتفت إلى ما تتركه وراءها من مآسي وما تتسبّب فيه من توتّرات.
الأحداث تتسارع في الساحل الإفريقي، إنقلابات عسكرية متتالية تنتقل من دولة إلى أخرى كالنار في الهشيم -والمفارقة أنّها تلقى التأييد والدعم الشعبيين -، تصعيد إرهابي غير مسبوق، خاصة في شمال مالي الذي مازال يتطلّع لتنفيذ اتّفاق السلم والمصالحة بعد ثمانية أعوام من توقيعه، نذر حرب باردة قد تتحوّل إلى حرب ساخنة بالوكالة بين فرنسا والنيجر، شعوب منتفضة تريد التخلّص من عباءة المستعمر القديم وكسر أغلاله، وأنظمة تسعى لتحقيق التغيير وبناء شراكات جديدة تريدها عادلة وغير مبنية على التعالي والغطرسة واللصوصية.
العنف يطلّ برأسه في مالي
لنبدأ بالتصعيد الأمني الذي تعرفه هذه الأيام دولة مالي، فالوضع بشمال هذه الدولة بات بالفعل خطير جدّا، والتهديد لم يعد مصدره المجموعات الارهابية المستقرّة في المنطقة فقط، بل بعض المسلحين من تنسيقية حركات أزواد التي كانت أحد الأطراف الموقعة على اتفاق السلم والمصالحة عام 2015 مع حكومة باماكو، حيث أعلن هؤلاء المسلّحين الحرب على الجيش المالي وشنّوا هجمات على عدّة مدن أسفرت عن خسائر مادية وبشرية كبيرة في صفوف القوات النظامية.
والأسبوع الماضي أعلن مسلّحون من تنسيقية حركات أزواد في شمال مالي، أنهم في “زمن حرب” مع المجلس العسكري، ودعوا إلى تعبئة السكان ضد الجيش المالي، وشنوا عملية عسكرية على بلدة بوريم الرئيسية الواقعة بين غاو وتمبكتو، لكن الجيش أفشل الهجوم وفرّ المسلّحون الذين ينشطون في إطار تحالف جديد يسمّى “ الاطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية “والذي يسعى الى الاستحواذ على قواعد “مينوسما” بعد انتهاء انسحاب القوات الأممية منها. وتعارض الجماعات المسلّحة في الشمال نقل معسكرات البعثة الأممية إلى الجيش المالي، وسط تنافس على السيطرة، في حين جعل المجلس العسكري من استعادة السيادة أحد أهدافه.
وأنهى مجلس الأمن الدولي في 30 جوان الماضي مهمة بعثة “مينوسما” المنتشرة في مالي منذ 2013 استجابة لرغبة باماكو، وأمامها مهلة حتى 31 ديسمبر المقبل لإنهاء الانسحاب.
وفي بداية هذا الأسبوع، شنّ مسلّحو التنسيقية هجومات خاطفة على معسكر للجيش الماليفي منطقة “ليرى” بدائرة نيافونكي بولاية تومبكتو، قبل الانسحاب منه بعد سيطرة مؤقتة اثر الردّ القوي للجيش المالي.
ومع هذه المستجدات الأمنية الخطيرة، يشدّد العديد من المراقبين السياسيين على حتمية الجنوح إلى الخيار السلمي وإجراء مفاوضات لتجاوز الخلافات والتباينات التي تعرقل تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة، محذّرين من خطورة انزلاق الوضع إلى مواجهة مفتوحة تعيد الاقليم إلى مربّع العنف والاقتتال، والذي سوف تستغلّه المجموعات الارهابية لارتكاب مزيد من العمليات الدموية، بل والذي ستستغلّه بعض الجهات المتكالبة على المنطقة لتحقيق أجنداتها المرتبطة ببسط النفوذ ونهب الثروات.
الأكيد أن باماكو بحاجة إلى من يتوسّط بينها وبين مسلّحي الشمال لوأد الفتنة وبلوغ اتفاق يحمي البلاد من انتكاسة أمنية هي في غنى عنها، وحتما ستكون الجزائر كعادتها في المقدّمة للقيام بهذه المهمّة، فأمنها من أمن جارتها الجنوبية. وبرغم العراقيل التي تعترضها، فإن الجزائر ستكون الاقدر على تحريك عجلة السلام بشمال مالي.
مشكلـة الارهاب تستفحل
ولأنّ الأزمات لا تأتي فرادى، فإن التحدّي الأمني الذي تواجهه دولة مالي، لا يأتي من الحركات الشمالية المسلّحة فقط، بل وبصفة أخطر من المجموعات الارهابية التي رفعت من وتيرة عملياتها الدموية وكثّفت هجماتها، حيث شنّ إرهابيون قبل أيام، هجوما استهدف زورقاً في نهر النيجر، ما أدى لمقتل عشرات المدنيين. كما شنوا هجوماً آخر على معسكر للجيش في غاو، غداة الهجوم في النهر المذكور وقتلوا العديد من العسكريين.
وكشفت تقرير لمجلس الامن الدولي صدر في أوت الماضي، أنّه في أقل من عام، ضاعفت المجموعات الارهابية المنضوية تحت لواء تنظيمي “داعش” والقاعدة” الدمويين مساحة الاراضي التي تسيطر عليها في مالي. كما أكّد المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، بأن الوضع الأمني في مالي يتدهور.
وإذا كان البعض يصرّ على تحميل المجلس العسكري الحاكم في باماكو مسؤولية الانتكاسة الأمنية التي تعيشها البلاد، ويربطها أساسا بسحب تعاونه مع الشركاء الأمنيين العالميين، في إشارة واضحة إلى إخراج القوات الفرنسية ووقف التعاون العسكري مع باريس، وأيضا سحب القوات الأوروبية والأممية، أي أن مالي تخلت عن قوة قوامها أكثر من 20 ألف عسكري من فرنسا وأوروبا والأمم المتحدة، فإن البعض الآخر يذهب في اتّجاه مغاير، معتبرا أن التغيير السياسي الجذري الذي يتبناه المجلس العسكري في مالي، وخياره بإقامة علاقات شراكة مع أطراف دولية غير تقليدية، يكون قد أزعج البعض ودفعهم لتأجيج التوتّر من خلال استعمال ورقة الارهاب والانفصال.
قوة احتياط لردع المخاطر
يدرك المجلس العسكري في مالي حجم التحدّيات التي تعترضه، لهذا، واستعدادا للأسوأ، قرّر داخليا تبني خطوات دفاعية لمواجهة أيّ خطر داهم، حيث أعلن عن إنشاء قوة احتياط تساعد الجيش في وقت الحاجة، أمّا إقليميا، فقد أنشأ مع الجارتين النيجر وبوركينافاسو، تحالفا عسكريا للدفاع المشترك يقضي بمساعدة الدول الثلاث بعضها بعضا إذا تعرض أي منها لتمرد داخلي أو عدوان خارجي.
وجاء في تقرير لوزارة الدفاع المالية، أن مجلس الوزراء اعتمد مشروع مرسوم بـ«إنشاء الوضع الخاص لاحتياط القوات المسلحة والأمن للدفاع عن الوطن، والذي سيسمح بتعبئة تشمل جميع المواطنين الذين تبلغ أعمارهم 18 عامًا على الأقل إلى جانب القوات المسلحة وقوات الأمن للدفاع عن الوطن”.
وحسب المشروع: “يتكون الاحتياطي من أشخاص يطلق عليهم جنود الاحتياط الذين لا ينتمون إلى الجيش النشط ولكنهم مدربون على تعزيز أو تقديم المساعدة للقوات المسلحة المالية كجزء من الدفاع الوطني بهدف تشجيع الشباب على المساهمة في الدفاع عن الوطن”.
إطار للدفاع الجماعي
دولة مالي ليست الوحيدة التي تواجه تحدّيات أمنية وسياسية كبيرة، فمثلها بوركينافاسو وأيضا النيجر التي تعيش هي الأخرى وضعا صعبا بسبب الضغط والتهديد الذي تمارسه عليها فرنسا.
الدول الثلاث تجمعها حدود مشتركة وتحكمها جميعا مجالس عسكرية، كما أنّها جميعها قرّرت التخلّص من نفوذ فرنسا وقطعت علاقاتها العسكرية معها، ما فتح عليها أبواب جهنّم ووضعها في مواجهة تهديدات بدأت -كما شهدنا في مالي -تتحوّل إلى عنف متصاعد من طرف المسلحين الازواد والارهابيين في الشمال.
وإدراكا منها بجدّية التهديدات والتحديات التي تواجهها، قرّرت كلّ من باماكو وواغادوغو ونيامي إنشاء إطار للدفاع الجماعي والمساعدة المتبادلة في حال تعرضت إحداها لتمرد داخلي أو عدوان خارجي.
وفي السياق، وقّع قادة المجالس العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، السبت الماضي على ميثاق تحالف سياسي وعسكري جديد يحمل اسم “تحالف دول الساحل”، أو ميثاق” ليبتاكو-غورما” نسبة للمنطقة التي تلتقي فيها حدود الدول الثلاث.
وأوضح رئيس النظام الانتقالي المالي عاصيمي غويتا “أن هدف هذا التحالف هو القيادة بصورة مشتركة بهيكلة الدفاع الجماعي للدول الثلاث، والمساعدة المتبادلة لصالح شعوب الدول الموقعة على تأسيسه”.
واعتبر رئيس بوركينا فاسو الانتقالي النقيب إبراهيم تراوري من جهته، أن “إنشاء تحالف دول الساحل خطوة حاسمة في التعاون بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر، كما رحب رئيس المجلس العسكري الحاكم في النيجر عبد الرحمن تياني بما سماه “التوقيع التاريخي على ميثاق ليبتاكو-غورما الذي يؤسس لتحالف دول الساحل”، مردفاً: “سنبني منطقة ساحل سلمية ومزدهرة وموحدة”.
وينص ميثاق “ليبتاكو – غورما” على أن تساعد البلدان الأعضاء بعضها بعضاً “بما في ذلك المساعدة العسكرية، في حال وقوع هجوم على أي منها مهما كان مصدره”.
كما ينص الميثاق، على أن “أي اعتداء على سيادة ووحدة أراضي إحدى هذه الدول يعتبر عدواناً عليها جمعاء، وينشأ عنه بصورة تلقائية، واجب تقديم المساعدة، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لاستعادة الأمن وضمانه”.
وكانت نقطة الانطلاق لهذا التحالف، إعلان مالي وبوركينا فاسو، نهاية جويلية الماضي، التضامن مع المجلس العسكري في النيجر لمواجهة تهديد المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” ومن ورائها فرنسا، بالتدخل المسلّح لإعادة الرئيس المطاح به محمّد بازوم إلى السلطة، وقالت الدولتان حينها “إن الحرب على النيجر ستعني الحرب عليهما أيضا، وبأنّ أي حرب مستقبلية لن تكون مسألة مواجهات فردية، بل شأنا إقليميا”.
من هذا المنطلق، يبدو جلياّ، بأن الرسالة الأكثر وضوحًا لتحالف “ ليبتاكو-غورما” تستهدف فرنسا في المقام الأول، وذلك في ضوء المناوشات والسجال غير المتوقف بين باريس وعواصم دول التحالف الثلاث خلال الآونة الأخيرة، خاصة بعد انقلاب النيجر.
من الواضح جدّا أن منطقة الساحل الافريقي التي كانت على الدوام منطقة توتر وأزمات وصراع على النفوذ، مرشّحة لتشهد مزيدا من التصعيد والتحديات، خاصة على المستوى الأمني كما نسجّله في مالي، لهذا فإن اللجوء إلى إقامة تحالفات عسكرية، قد تكون وسيلة دفاعية هامّة لمواجهة الخطر الارهابي والتهديد الخارجي، كما يحدث حاليا بين فرنسا والنيجر.
ويرى الكثير من الخبراء، أن التحالف بين مالي والنيجر وبوركينافاسو يحمل العديد من عناصر القوّة، بينها التقارب الجغرافي الذي يسهّل عملية فتح الحدود ومرور القوات والمساعدات الاقتصادية والعسكرية، كما أنّ التداخل القبلي والاجتماعي بين سكان تلك الدول، يقوّي من التحالف حيث ينقله من مربع الموقف السياسي إلى كونه تحالفاً شعبياً ضخماً وفاعلا.
وتبقى الأهمّية العظمى لهذا التحالف العسكري، أنّه يعزز من فرص استبعاد خيار التدخل العسكري في النيجر الذي تتبناه فرنسا وتحاول دفع (إيكواس) باتجاهه.