لم تعد إفريقيا كسابق عهدها، تلك القارة المغلوبة على أمرها التي ظلّت على مرّ القرون، والعهود راضخة مستسلمة لمصير أغبر أمعنت في صنعه قوى خارجية، كلّ همّها أن تضع يدها على خيرات الشعب الإفريقي، الذي يجد نفسه اليوم وبعد عشرات السّنين من الاستقلال، مجبرا على تسوّل لقمة عيشه وهو الذي ينام على ثروات لا تنضب.
أخيرا أصبح لإفريقيا صوت يصدح في كلّ مكان من أجل الحرية والانعتاق من الهيمنة الأجنبية، وذلك بفضل نخبة من القيادات الشابة التي قرّرت مرفوقة بدعم شعبي كبير، الوقوف في وجه سياسات الغرب اللصوصية الاستبدادية، وتصحيح الاختلالات التي جعلت السمراء أسيرة الفقر والتخلف والخضوع.
«الإنتفاضة” الإفريقية التي تثير انتباه الجميع، تجلّت بوضوح خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 78، حيث فاجأت خطابات القيادات الافريقية الجديدة – وبعضها جاء عن طريق انقلابات عسكرية – الحضور بجرأتها وشجاعتها ودفوعاتها المنطقية. فهذه القيادات، حوّلت الجمعية الأممية في الأيام الماضية، إلى منبر لمحاكمة وإدانة الدول الغربية عنقرون العبودية والنّهب والاستغلال، وطالبتها بالتعويض عما لحقها من أذى، وأمرتها برفع هيمنتها وتركها تسيّر شؤونها بنفسها.
نهاية عهد الوصاية والاستغلال
وكان خطاب رئيس غانا “نانا أدو دانكو أكوفو أدو” أكثر الخطابات جرأة وقوّة بما تضمّن من رسائل مباشرة وجّهها كالسّهام الحارقة للغرب المتعالي المتعجرف، حيث ذكّره بخطاياه وانتهاكاته المريعة، قائلا” إنّ العالم لا يمكن أن يتظاهر بأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية للقارة ليست مرتبطة بالمظالم التاريخية”، مشدّدا على “أن الوقت قد حان للاعتراف علنا بأنّ جزءا كبيرا من أوروبا والولايات المتحدة، تمّ بناؤه من الثروة الهائلة التي تم حصادها، من العرق والدموع والدم والأهوال التي سببتها تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي”.
وطالب “أكوفو أدو” الغرب بتعويض أفريقيا عن الأضرار التي سببتها تجارة العبيد قائلا: “لقد حان الوقت لكي تعترف أوروبا والولايات المتحدة بأن الثروة الكبيرة التي اكتنزتها، قد تمّ الحصول عليها من تجارة الرقيق وقرون من الانتهاكات الاستعمارية”، ووصفها بأنّها “شكّلت رعبا كبيرا على الأفارقة الذين واجهوا العديد من التحديات في تلك الحقب”.
من جهته، دعا حاكم غينيا “مامادي دمبويا “في كلمته إلى التوقّف عن معاملة الافارقة باستعلاء، قائلا “إفريقيا نضجت وديمقراطيتكم لا تصلح لنا”، وأضاف “أفريقيا تعاني من نموذج حكم فُرض عليها، نموذج جيد وفعال بالنسبة للغرب، ولكن من الصعب أن يلائم واقعنا وعاداتنا وبيئتنا”.
ودعا إلى “الكفّ عن إلقاء المحاضرات علي الافارقة والتوقف عن معاملتهم باستعلاء مثل الأطفال، فالأفارقة – كما أردف – “ناضجون بما فيه الكفاية لتصميم نماذجهم الخاصة للحكم”. وأشار إلى “أنّ الدول الأفريقية باتت توضع بشكل غير منصف في صناديق، وتجبر على الانحياز لأطراف بعينها في معركة أيديولوجية من حقبة الحرب الباردة”، في تلميح إلى تجاذب أطراف الحرب الأوكرانية وتنافسها على ضمّ الدول الافريقية إليها. وقال إنّ “الأفارقة ليسوا مؤيّدين أو مناهضين للأمريكيّين أو الصينيين أو الفرنسيّين أو الروس أو الأتراك، وإنما ببساطة مؤيّدون لأفريقيا”.
وختم دمبويا، الذي أطاح بالرئيس ألفا كوندي في سبتمبر 2021، خطابه مؤكّدا بأنّ النموذج الغربي للديمقراطية لا يصلح لأفريقيا، واصفا ردود الفعل المستنكرة للانقلابات في القارة السمراء بأنها عنصرية. فحسبه وحسب كثيرين من الأفارقة ومن غيرهم، التغييرات غير الدستورية للسلطة – والتي يشجبها القانون والشرعية – قد تكون مخرجا لابدّ منه لاجتثاث الفساد وتصحيح الاختلالات، وتحرير الثروات من قبضة اللصوص والسرّاق.
لهذا دافعت الكثير من شعوب الساحل الافريقي عن القيادات التي اعتلت السلطة بصفة غير دستورية، وخرجت إلى الشوارع مبدية تضامنها مع ما وصفته بـ “العمليات التصحيحية “ التي يعوّل عليها لإنتاج أنظمة حرّة تنهي عهد الوصاية والاستغلال.
قارّة غنية وشعوب فقيرة
اليوم، لم تعد أفريقيا تخشى المواجهة أو تهاب المطالبة بحقوقها كما كانت من قبل، فبعد مرور أزيد من ستّة عقود على الاستقلال الذي لم تتذوّق الشعوب السمراء طعم ثماره إلى حدّ الآن، قرّرت هذه القارة إحداث التغيير المطلوب عبر إنهاء التبعية للخارج سياسيا واقتصاديا وحتى ثقافيا، وسدّ الأبواب أمام الاستغلال الوحشي لثرواتها، والذي جعل دولها تملأ دوما قائمة البلدان الأكثر فقرا في العالم، في حين أنها تنام على موارد لا تنضب.
فهذه القارة التي تصوّر على أنّها مفرخة للفقر والفقراء، هي في حقيقة الأمر أغنى قارات العالم من حيث الثروات، حيث تزخر بأكثر من 50 % من الثروات النفطية والمعدنية في العالم، بمعنى أن نصف موارد المعمورة موجودة في إفريقيا التي تتصدّر سوق الماس العالمي، حيث تنتج 95 % من الماس على مستوى العالم، و50 % من الذهب الذي تنتج نصفه جنوب أفريقيا بالإضافة لدول أخرى مثل غانا، وغينيا، ومالي، وتنزانيا، و90 % من البلاتينيوم.
كما تنتج القارة كميات كبيرة من إجمالي الغاز الطبيعي حول العالم، وأيضا من اليورانيوم الهام في الصناعات النووية، وأبرز الدول المنتجة لهذا المعدن هي: النيجر، ناميبيا وجنوب أفريقيا. كما يوجد بالقارة السمراء حوالي 12 % من إجمالي احتياطي النفط العالمي.
وتعتبر الزراعة أحد أهم الأنشطة الاقتصادية في إفريقيا بسبب تنوع المناخ وكثرة الأنهار، ويعمل ثلثا سكان القارة تقريبًا بالزراعة، والتي تساهم بحوالي 20 إلى 60 % من إجمالي الناتج القومي لكل دولة من دول السمراء.
كما تتميز القارة بطول سواحلها على المحيطين الهندي والأطلسي والبحر المتوسط. هذا بالإضافة إلى توافر مصادر للصيد بالمياه العذبة، مثل نهر النيل، والبحيرات الكبرى بوسط القارة، ويساعد قطاع الثروة السمكية بتوفير المدخول لملايين يعملون بمهنة صيد الأسماك.
إفريقيا أدركت بأنّ الثروات التي تملكها قد تحوّلت إلى نقمة عليها، حيث تعتبر السبب الرئيس في تكالب القوى الخارجية عليها، ووضعها بشكل دائم تحت وصاية الهيمنة الغربية، لهذا أعلنت الانتفاضة لأجل استعادة سلطتها على مواردها الطبيعية، وتوجيهها إلى مستحقيها، فأكثر من نصف مليون طفل إفريقي يموتون سنويا تحت سن الخامسة بسبب سوء التغذية، وتقف 14 دولة على الأقل على بعد أشهر قليلة من المجاعة، طبقاً لبرنامج الغذاء العالمي، في حين تعاني 30 دولة أخرى من نقص الغذاء والجوع المزمن. وأفقر 10 دول في العالم أفريقية، وهي بوروندي ودولة جنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية والصومال وموزمبيق وملاوي وتشاد ومدغشقر والنيجر التي يعيش 78 في المائة من شعبها تحت خطّ الفقر.
لا بدّ من تصحيح الخلل
عكست خطابات الساسة الأفارقة في اجتماعات الأمم المتحدة مؤخّرا، أنّ ما باشرته بعض الدول في القارة السمراء من لفض للاستعمار القديم قصد التخلّص من إرثه الأسود ووصايته البغيضة، والجنوح نحو عقد علاقات وشراكات جديدة تقوم على التعاون المتبادل، هو مقدمة لعهد جديد تمضي اليه إفريقيا قصد تحقيق سيادتها الحقيقية، وإنهاء حقبة الاستغلال المستمر لثرواتها منذ أكثر من ستة عقود.
ولا مجال للتشكيك في جدوى “الثورة” التي أعلنتها بعض الدول الافريقية على الاستعمار القديم الجديد، ولا في حتميتها، ففرنسا مثلا التي لم تستطع الصمود أمام الشعور الشعبي المعادي لها في مستعمراتها السابقة بالساحل وخرجت تجرّ أذيال الخيبة، ظلّت المهيمن الرئيسي على ثروات هذا الاقليم، خاصة اليورانيوم، إذ تضخّ النيجر ومالي وتشاد 25 % من احتياجات المفاعلات النووية التي تعتمدها فرنسا للتزود بالكهرباء، في حين أن هذه الدول في أغلب أجزائها تعيش في ظلام دامس.
وإضافة ليورانيوم النيجر، تسيطر فرنسا على مناجم الذهب في مالي وحقول النفط في السنغال عن طريق الشركات الفرنسية العملاقة، التي امتد نفوذها إلى دول غرب وجنوب أفريقيا، من أوغندا إلى كينيا، ومن أنغولا إلى موزمبيق ثم جنوب أفريقيا.
وفي الكونغو تضع فرنسا يدها على معدن الكولتان، الذي يعتبر أساسيا في تطوير الرقاقات الإلكترونية التي تعتمدها جميع التكنولوجيات.
والمثير للانتباه أنّ 80 % من كل ما يتم استخراجه من الموارد والثروات المعدنية في أفريقيا يصدّر بإشراف فرنسي نحو القارات الأخرى.
ولا تتوقّف الهيمنة الفرنسية عند هذا الحدّ، بل تمتدّ إلى الجانب المالي عبر فرض تعامل بلدان القارة السمراء بعملة “الفرنك الأفريقي”، الذي تتحكّم باريس في طباعته، وتحديد قيمة تداوله وقوته الشرائية.
وفرضت فرنسا الفرنك الأفريقي على 12 دولة أفريقية كانت سابقا مستعمرات تابعة لها، بالإضافة إلى غينيا بيساو (مستعمرة برتغالية سابقة) وغينيا الاستوائية (مستعمرة إسبانية سابقة)، وينقسم الفرنك المتداول إلى صنفين، فرنك وسط أفريقيا، وفرنك غرب أفريقيا.
وأجبرت باريس البنوك المركزية لهذه الدول، بحكم سياسة الأمر الواقع، على الاحتفاظ بنسبة 85 % على الأقل من احتياطياتها من العملة الصعبة في البنك المركزي الفرنسي، وخفّضت النسبة إلى 50 بالمائة في 2005.
كما فرضت فرنسا شروطا قاسية للوصول إلى هذه الأموال، إذ لا تسمح للدول الافريقية بالوصول إلى أكثر من 15 % من الأموال المودعة سنويا، وفي حال احتياج المزيد تجبرهم على اقتراض أموال إضافية من الخزانة الفرنسية بنسب فوائد تصل إلى 20 %، كما تحتفظ باريس بحق رفض إقراض هذه الدول، أو تستخدم القروض في ابتزاز أنظمتها المغلوبة على أمرها أو، للضغط عليها.
وإجمالا، منذ سنة 1961، احتفظت فرنسا بالاحتياطات الوطنية لـ 14 دولة أفريقية، وبذلك حقّقت خزانتها ما يعادل 500 مليار دولار من الأرباح والعوائد السنوية من أفريقيا.
وقد بدأت الدول الإفريقية تمرّدها على هذا الاستغلال الوحشي لأموالها، وباشرت تصحيح الخلل، حيث أعلنت كوت ديفوار في نهاية العام 2019، أن ثماني دول من غرب إفريقيا شكّلت “الاتحاد النقدي والاقتصادي لغرب إفريقيا”، وقرّرت التوقّف عن تداول الفرنك الإفريقي واستخدام عملة بديلة جديدة تسمّى “إيكو”.
ثم في 2021 وخلال مؤتمر مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أعلن الرئيس الإيفواري عن تغيير اسم العملة الخاصة بدول اتحاد غرب إفريقيا الاقتصادي والنقدي، من “الفرنك غرب الإفريقي” إلى “إيكو”، إضافة إلى توقف باريس عن الاحتفاظ بـ 50 بالمائة من احتياطيات هذه الدول في الخزانة الفرنسية، وانسحاب فرنسا من التحكم في العملة وإدارتها.
عهد جديد..
ممّا سبق يمكننا أن ندرك حجم الاستغلال البشع الذي تتعرّض له إفريقيا ليس من طرف فرنسا فحسب، بل من طرف قوى كثيرة، بنت رفاهيتها من “لحم أكتاف” الأفارقة التعساء، الذين قرّروا “الثورة” على هذا الوضع المختلّ وتصحيحه.
اليوم، ها هي الشعوب الافريقية التي باتت على درجةٍ عاليةٍ من الوعي، تنتفض لاستكمال استقلالها، وطبعا لا يمكن لأحد أن يتصوّر بأن طريق الحرية والتخلّص من الهيمنة الأجنبية ستكون مفروشة بالورود، بل على العكس تماما، فنحن نتصوّر بأنّ معركة استعادة السيادة الكاملة ستكون صعبة، وملامح الصّعوبة بدأت تتجلّى في المتاعب الأمنية المتصاعدة بمالي والنيجر وبوركينافاسو، مع تحرّك الجماعات الإرهابية والإنفصالية لفرض منطقها الدموي، الذي يتقاطع دوما مع مخططات لصوص الثروات وقنّاصي مناطق النفوذ.
إنّ الشّعوب الافريقية التي باشرت عملية التغيير تدرك حجم التحدّي الذي تواجهه، لكنّها تدرك أيضا بأنّ الحرية والسيادة تحتاج دائما إلى تضحية، وهي مستعدّة لذلك.