يعتبر الاقتباس ظاهرة قديمة قدّم الإبداع، وهو يسمع بالتواصل بين الثقافات والحضارات، والنصوص والأفكار باختلاف أطرها الزمانية والمكانية. وقد رافق الاقتباس الخطوات الأولى للمسرح الجزائري، وكان نافذة للتمكّن من أصول الفن الرابع، ولكنه لم يتوقف عند البدايات، وتواصل اعتماد المسرحيين عليه إلى غاية اليوم، ما خلق إحساسا عند البعض بوجود أزمة في كتابة النص المسرحي، بينما اعتبر البعض الآخر الاقتباس ظاهرة عادية.
يشمل مفهوم الاقتباس المسرحي العمليات الساعية إلى نقل العمل الأدبي أو الفني إلى جنس المسرح، سواء على المستوى الشكلي، كنقل النص الروائي أو الشعري إلى المسرح، أو على المستوى الفكري بنقل فكرة نصّ ما إلى نصّ آخر.
وحسب كل من مريم عثمان وإدريس قرقوى (جامعة سيدي بلعباس) فالاقتباس تحويل بسيط للمحتوى الملحمي إلى محتوى درامي وتبقى الحكاية ونظام الفعل، والمتغير الوحيد هو فعالية المؤلف ونوعية التقنية الفنية. كما أنه “إعادة سبك عمل فني لكي يتفق مع وسيط فني آخر وذلك كتحويل المسرحية إلى فيلم أو القصة إلى مسرحية”.
أما كريمة منصور (جامعة مستغانم) فترى أن الاقتباس يندرج ضمن التناص “Intertextualité”، الذي ظهر كمصطلح لأول مرة على يد “جوليا كريستيفا” عام 1966، والتي تعتبر أن “كل نص هو عبارة عن فسيفساء من الاقتباسات، وكل نصّ هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى”، فالتناص إذن هو تشكيل نص جديد من نصوص سابقة.
وفي كتابه “حيرة النص المسرحي بين الترجمة والاقتباس والإعداد والتأليف”، يؤكد د.أبو الحسن سلام على وجود اختلاف بين الاقتباس والإعداد، فقد يتمّ الأول على نص أجنبي بحيث تعاد صياغة النص الأصلي ليقدّم عملا مسرحيا محلي الفكر والقيم والجو والعادات واللغة. أما إذا تغيّر عنصر أو أكثر وبقيت العناصر الأخرى على ما يوافق بيئة كتابتها وأحداثها وفكرها، يكون ذلك إعدادا مسرحيا وليس اقتباسا.
القيمة.. والأنواع
وللاقتباس قيمته ودوره في حركة النص المسرحي العربي، يقول سلام، فالاقتباس يعطي حرية التصرّف، إذ يحافظ المقتبس على البناء العام للنص مع أنه يغير في الحوار والشخصيات تغييرا يجعلنا أمام مسرحية محلية. مع ذلك، يشير الكاتب إلى وجود من انتقد الاقتباس باعتباره “دائماً عمل ضعيف لأنه تستر وراء إبداع الغير”. كما قد يكون الاقتباس بعيد عن المستوى الذي يصل إليه التأليف، لأن الذين يتصدون له غالبا ما كانوا غير أدباء من حيث مواهبهم الأصلية، ولكنهم ممارسون لفنون التمثيل أو الإخراج أو الحرفية أو الإنتاج.
ويلاحظ سلام أن الاقتباس يقف عند حدود الاستفادة بـ(ثيمة) واحدة من العمل الأصلي المقتبس عنه، أو بشخصية أو أكثر بحيث يقتبس صفاتها أو بعض صفاتها مع مسماها، أو اقتباس صفات دون المسمى. وعلى هذا الأساس، يقسم الكاتب الاقتباس إلى 11 نوعا:
1 ـ اقتباس فكرة، كفكرة الخلود أو الحساب والعقاب الأخروية في أسلوب موازنة (إذا كانت في نفس اللغة) أو أسلوب مقارنة (إذا كانت عن لغة أجنبية) مثل ضفادع أرستوفانيس عن أوديسيا هوميروس، أو الكوميديا الإلهية لدانتي عن الإلياذة والأوديسا. 2 ـ اقتباس صفة، أي صفة من صفات شخصية مسرحية دون مسماها. 3 ـ اقتباس ذات وهيئة، كاقتباس شخصية بأبعادها وظروفها وسلوكها ومسماها. 4 ـ اقتباس ذات، كاقتباس شخصية “أوديب” أو “دون كيشوت” أو “هاملت” دون مسماه. 5 ـ اقتباس هيكلي تام، مثل اقتباس أسلوب كتابة أو تجسيد فني. 6 ــ اقتباس هيكلي جزئي. 7 ـ اقتباس مغزی موضوعي، أي اقتباس الموضوع أو المغزى دون الهيكل. 8 ـ اقتباس ناقص. 9 ـ اقتباس معنى، وهو أخذ جملة أو عبارة معينة من حيث معناها، أو أخذ فقرة من فكرة أو من موضوع دون بقية الموضوع. 10 ـ اقتباس مبني، وهو أخذ جملة أو فقرة بلفظها وبنائها، أي بنصها المرسوم، أو أخذ حركة بعينها. 11 ـ اقتباس تفسير، وهو أخذ جملة أو فقرة أو بعض منهما أخذ فهم، مفسر، أي بتفسير ناتج عن فهم المفسر.
في البدء كان الاقتباس
تلاحظ إيمان هنشيري (جامعة عنابة) أن الاقتباس عن المسرح العالمي كان ومازال يشكل أكبر نسبة من مجمل إنتاج المسرح الوطني الجزائري، وباستعراض قائمة المسرحيات المقدمة بمختلف المواسم المسرحية نجد أن نسبة النصوص المأخوذة عن الآخر، سواء بالترجمة أو التعريب أو الاقتباس، تشكل أكبر نسبة من العروض المقدمة. وقد تزامن ظهور الاقتباس مع بدايات تبلور الظاهرة المسرحية في الجزائر، حيث كانت الريادة لمحمد رضا المنصالي، الذي اقتبس مسرحية “في سبيل الوطن” عن مسرحية لكاتب تركي مجهول عنوانها “في سبيل التاج”، وقدمتها فرقة “محمد رضا المنصالي” بتاريخ 22 ديسمبر 1922 بقاعة الكورسال بالجزائر العاصمة. وخلال نفس الفترة اقتبس علي سلالي الملقب بـ«علالو” مسرحية “جحا” عن “طبيب رغما عنه” لموليير، وقد قدمتها فرقة المطربية في شهر رمضان بتاريخ 12 أفريل 1926 بقاعة الكورسال بباب الواد بالعاصمة. والجدير بالذكر، تقول الباحثة، أن هذه المسرحية دونت تاريخ ميلاد المسرح الجزائري، باعتبارها بدايته الفعلية، لقيامها على مواصفات المسرح وفق شكله الأوروبي المتعارف عليه، وهو ما يذهب إليه محي الدين باشتارزي.
وعلى ذكر باشتارزي، فقد كان أحد المعتمدين على الاقتباس، وأثمرت تجربته مسرحيات ناجحة على غرار “المشحاح”، و«سليمان الملك”، و«المجرم”، و«الشرف”، و«عكاش”. وعن براعة باشتارزي يقول مصطفى كاتب: “إن عبقرية باشتارزي تكمن في الاقتباس، فهو بالنسبة إليه إبداع، لقد كان يأخذ الفكرة والبناء الفني للنص ويعالجهما بأسلوبه الخاص، انطلاقا من مواقف وعادات وتقاليد جزائرية عربية إسلامية”.
كما تجدر الإشارة إلى تجربة الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو، الذي قدم مسرحيات مقتبسة مثل “سي عاشور والتمدن”، و«البخيل”، و«ملكة غرناطة”، و«النائب المحترم”. ولا ننسى تجربة ولد عبد الرحمن كاكي ومسرحيتيه الشهيرتين “ديوان القراقوز” و«القراب والصالحين”. كما نذكر تجربة عبد القادر علولة ومسرحياته “الخبزة”، و«حمق سليم”، و«أرلوكان خادم السيدين”.
ومن خلال دراستهما للاقتباس في المسرح الجزائري، خلص كل من مريم عثمان وإدريس قرقوى (جامعة سيدي بلعباس) إلى أن هذه الظاهرة تطورت بتطوّر المسرح الجزائري، الذي أصبح يعنى أكثر بقضايا المجتمع وانشغالاته، فاتسمت المسرحيات المقتبسة في مطلع السبعينيات إلى ما بعدها بسمة فنية لها مميزاتها الخاصة، بحيث يخضع النص المسرحي إلى المد والبسط ليبعث روح الحداثة ويغير السياق الأصلي بما يخدم المتلقي، مع التحلي بالشخصية الجزائرية التي تغرس جذورها في لاوعي المقتبس المسرحي. كما ارتبطت المسرحيات، رغم أنها مقتبسة، بالمجتمع الجزائري وقضاياه وهمومه الراهنة.
أزمة نص وتأليف؟
قبل 20 سنة، نشرت فتيحة الزاوي بوزادي (جامعة وهران) مقالا علميا عنوانه “الترجمة/الاقتباس وتأسيس المسرح العربي”، قالت فيه إن تجربة المسرح الجزائري أبلغ دليل على ما لحركة الترجمة والاقتباس من أثر إيجابي وسلبي في نفـس الوقت على الحركة المسرحية وغياب النص المسرحي المبدع، “فسيادة مولير ثم بعد ذلك بريخت ظلت قائمة بل ومهيمنة على حركية وإبداعية المسـرح فـي الجزائر”، حسب الباحثة، التي أشارت إلى المرور الإجباري للمسرح العربي بحركة الترجمة والاقتباس، لكـنها مجرد مرحلة تاريخية لابد منها لتجاوز مرحلة التعلم والانبهار. ومن خلال المثاقفة استطاع المسرح العربي أن يحتوي أعمـالا مسـرحية رائدة ومبدعة، وثنائية الأصالة والمعاصرة هي الوجه الآخر لثنائية الترجمـة والاقتبـاس، بفضل رواد لا يجب إنكار فضلهم، “ولكن نأخذ عليهم التعامل المشوّه عبر نصوص اقتبست ولم تترجم، ولعلّ في ذلك مكمن الداء” حسب الباحثة.
من جهتها، أشارت زبيدة بوغواص (جامعة قسنطينة) إلى أن البحث في عمليتي الاقتباس والتأليف في المسرح يبرز بجلاء أزمة هذا الأخير، الواقع بين “ارتجال مخرج يريد الاستئثار بالعمل المسرحي، وبين النزوع نحو الاقتباس”. بالمقابل، تحدثت بوغواص عن وجود جانب مشرق، مستدلة بوجود عدد من النصوص المسرحية على المستوى المحلي في الجزائر، قد أعيد طبعها، على غرار نصوص عز الدين جلاوجي التي وجد بعضها طريقا إلى العرض، مثل مسرحية “البحث عن الشمس”، و«قلعة الكرامة”، و«غنائية أولاد عامر” في مسرح الكبار، ومسرحية “سالم والشيطان” في مسرح الطفل.
وبين التأليف والاقتباس، يبقى تقديم أعمال مسرحية ترقى إلى تطلعات الجمهور الهاجس الأهم الذي ينبغي أن ينشغل به مبدعو الفن الرابع.