يعود الدكتور صالح الشقباوي، الأكاديمي والمحلّل السياسي الفلسطيني، في حوار مع “الشعب”، إلى أبرز حدث ميّز القضية الفلسطينية هذا العام، ألا وهو عملية “طوفان الأقصى”، التي استطاعت المقاومة الفلسطينية من خلالها أن تعيد للقضية مكانتها في المشهد الدولي، خاصة في ظل غياب أي بادرة للتسوية السياسية، داعياً الأنظمة العربية المطبعة مع الكيان الصهيوني إلى مراجعة حساباتها بعد كل هذه الأحداث التي عاشها الشعب الفلسطيني الأعزل.
مجزرة مستشفى المعمداني أحدثت شرخاً عميقاً في الجبهة المساندة للصّهاينة
الجزائـر لها حضورها في الوجدان الفلسطيني والشّكر الخـالص للرّئيـس تبون
نثق في جهود الدّبلوماسية الجزائرية كي تحصل فلسطين على عضوية كاملة بالأمم المتّحدة
علـى الأمـة العربية والإسلامية أن تكون فـي مستوى الحدث
المقاومة الفلسطينيـة أسقطت الأسطورة الصّهيونيـة ولا عزاء للمطبّعين
أدعو كل الدّول العربية المطبّعة إلى إعادة النّظر في علاقاتها مـع الصّهاينة
الوضع الرّاهن غيّر موازيـن الصّراع والجـبروت الصّهيوني صار اسما باهتا
الشعب: بداية كيف تعبّر عن ما حدث في مجزرة مستشفى المعمداني؟
الدكتور صالح الشقباوي: ما حدث في مستشفى المعمداني، مساء يوم الثلاثاء، هو مجزرة غير مسبوقة في تاريخ النزاع الفلسطيني الصهيوني، بعد أن غيّر جيش الاحتلال وقيادته السياسية من أدوات الصراع بالتكثيف من عمليات القتل والتدمير التي لم تستثن المساجد ولا المستشفيات والمدارس، متجاوزين بذلك كل الخطوط الحمراء، ظنّا منهم أن هذه الحاضنة الفلسطينية للمقاومة ستتراجع عن دعمها بعد إيقاع خسائر كبيرة وسطها، ولكن هيهات..هيهات، فالشعب الفلسطيني ملتف حول مقاومته، ولن يتخلى عنها ما دام الدم يجري في العروق.
لقد أحدثت مجزرة مستشفى المعمداني شرخاً عميقاً في الجبهة الدولية المساندة للكيان الصهيوني، من الغرب إلى العرب المطبّعين، ووضعتها في مأزق إنساني وأخلاقي وسياسي بعد فظاعة وهول من حدث، لأنّ ما حدث أمر لا يصدق، لقد تجاوز الكيان الصهيوني بقصفه لمستشفى آهل بالمرضى والمصابين والناس العزل، كل حدود الوحشية التي لم يشهدها العالم لا في الحرب العالمية الأولى ولا الثانية، ولا أية حرب تلتها. لقد تركت هذه المجزرة الجبهة الداعمة للكيان الصهيوني، اليوم تحاول لملمة الصورة، لكن لا مجال لذلك، خاصة بعد انسحاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس من اجتماع عمان، ومعه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورفض الأردن استقبال الرئيس الأمريكي جو بايدن.
كيف تصف ما عاشه الكيان الصّهيوني منذ بداية عملية “طوفان الأقصى”؟
الحالة الصهيونية كانت منهارة كليا بعد عملية “طوفان الأقصى”، التي أعتبرها حلقة مهمة من حلقات الصراع التاريخي الطويل الذي عمره 75 سنة، فالعملية لم تكن مسبوقة البتة، والرد كذلك، لأنها كانت مفعمة بالمخاطرة، ونعلم أنّ عواقبها كانت ستكون شديدة العنف، حتى أنّ الفلسطيني لما فكر في هذا العمل المقاوم التاريخي والضخم، كان يؤمن أنه يقوم برد بطولي على ما اقترفته العصابات الصهيونية والمستوطنون بحق أهلنا ونسائنا ومقدساتنا في المسجد الأقصى بالقدس، وفي مدينة “حوّارة”. قد يبدو للعالم أنّه عمل غير عقلاني وغير رشيد، خصوصاً ونحن ندرك حجم القوة التدميرية الصهيونية، ولكن في النهاية، نحن أصحاب قضية ولنا حقوق تمّ تجاهلها بعدما جرّبنا كل الوسائل الدبلوماسية، وقدمنا تنازلات لم تكن تحلم بها دولة الاحتلال، لكن لغة الحوار تجعلها تزداد عنجهية يوما بعد يوم..لقد خضنا حربا غير متماثلة، حرب بين جيش نظامي يعتبر من أقوى الجيوش في العالم، ورجال فدائيين، لكن ميزان القوة بين الاحتلال والمحتل يأخذ في التصحيح شيئا فشيئاً من خلال عامل الإيمان والدقة، والتخطيط المسبق والمنظم الذي اعتمدته المقاومة.
هذه المعركة تأتي بعدما تمادى الصهاينة في استباحة مقدّساتنا، ووصولهم إلى حد التفكير في تقسيم المسجد الأقصى زمنياً ومكانياً، ولقد تمكن إخواننا المقاومون من عبور الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإدارة المعارك عليها لأول مرة منذ 75 سنة، وبالتالي، يمكنني أن أصف ما حدث بـ “نوفمبر فلسطيني” جديد، يحاكي نوفمبر الجزائر المنتصرة والعتيدة، هي بداية لتغيير وجهة التاريخ وتغيير مفاهيم الصراع، بهذا التسونامي الفلسطيني الذي قام به مقاومون فلسطينيون دفاعاً عن أرضهم ومقدساتهم، ومنعاً لتهجير إخوانهم من الضفة الغربية إلى الأردن، ومن غزة إلى مصر. وعليه، فأنا أعتبر “طوفان الأقصى” معركة تاريخية ستدرسها أعظم الأكاديميات العسكرية مستقبلاً، فيها أثبتنا للعالم أنّنا شعب يستحق الحياة، ويستحق أن يكون له دولة ونشيد وعلم، لسنا وجوداً مرقاً ولا وجوداً زائداً في هذه المنطقة، فنحن أسيادها وملاّكها وأصحابها.
طبيعة العمل العسكري تقضي بإلحاق أضرار بقواعد العدو الصهيوني..ما هي الرّسالة التي أرادت المقاومة تبليغها من خلال عملية “طوفان الأقصى”؟
لقد استطاعت العملية المباغتة تضليل كل الأجهزة الأمنية والعسكرية في وزارة الدفاع الصهيونية، بما فيها الموساد والشين بيت ووكالة الاستخبارات الأمريكية، التي لم تستطع هي الأخرى التنبؤ بها، ولقد استطاع الفلسطيني من خلالها إعادة زمام المبادرة لقضيته وثورته، وأثبت للعالم أنّه الطليعة في الاستشهاد دفاعاً عن أولى القبلتين وثالث الحرمين، وأنّه قادر على الاعتماد على نفسه وعلى شعبه في إعادة الصراع، وأن التحرير يبدأ من فلسطين ومن أراضيها المحتلة.
أود الإشارة هنا إلى أنّ القوة دوما لا تصنع الحق، بل هي تخضع لعوامل الزمن، فالصهاينة اليوم يعيشون مأزقاً وجودياً وقلقاً مستمراً بعد هذا الطوفان، والزلزال الذي ضرب كيانهم المتعجرف، وهنا تحضرني مقولة “جدعون ليفي”، الصحفي الصهيوني الذي قال إنّ “طوفان الأقصى مزّق عباءة الصلف الصهيوني”..ليس هذا فحسب، بل تسبّب في تراجع وتقوقع الروح الاندفاعية الصهيونية المتعالية، المتكبّرة والمغرورة والمتغطرسة، والتي تنظر إلى البشر كحيوانات، كما جاء على لسان وزير الدفاع الصهيوني العنصري والحاقد، والذي لا يعرف معنى الإنسانية والروح البشرية..نحن اليوم نحاول فعلاً أن نعيد إبراز القضية الفلسطينية بعدما انشغل العالم بالحرب الروسية الأوكرانية، وكاد رئيس وزراء دولة الاحتلال أن ينجح في تقسيم المسجد الأقصى زمنيا ومكانيا، وفصل الضفة وتهجير أهلنا في غزة إلى سيناء، ولهذا، فقد تمّ تنفيذ هذه العملية الاستباقية التي انتصر فيها الحق على الباطل، وما نطالب به اليوم الأمة العربية والإسلامية هو أن تكون في مستوى الحدث والتاريخ والوعي الذي أحدثه الفلسطيني في معركته هذه.
كيف ترى التّجاوب العربي مع ما يحدث في غزة؟
أقولها بمرارة وبكل أسف..إن التجاوب العربي كان بطيئا جداً كحركة السلحفاة، ولكن أعتقد أن العرب والمسلمين ما يزال فيهم خير كبير، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم “الخير باق فيّ وفي أمّتي إلى يوم الدين”، وبالتالي، فنحن ننتظر من هذه الأمة الكثير؛ لأننا ندافع عن مقدساتها الإسلامية في هذه الأرض المباركة، والمعركة ضد اليمين الصهيوني المتطرف بقيادة رئيس وزرائه وبقية طاقمه المتوحش، الذين لفظهم التاريخ ورمى بهم إلى مزبلته. هي معركة مقدّسة، على الأمة العربية والإسلامية مساندتها ودعمها، تماماً كما هبّ الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، إلى دعم الكيان الصهيوني بحاملات الطائرات والقنابل والصواريخ لقتلنا وتدمير مدننا ورفع منسوب دمنا، وهنا تحضرني مقولة للزعيم الراحل هواري بومدين الذي قال: “إن تحرر الجزائر لا يكتمل إلاّ بتحرير فلسطين”.
لا شك في أنّ حرب الفلسطينيين بالأمس واليوم هي حرب ضد غزاة قتلة، جاؤوا كما جاء الغزاة الفرنسيون إلى الجزائر، وارتكبوا نفس الجرائم التي ارتكبت فيها، لكن آباءكم الجزائريين كانوا لهم بالمرصاد وطردوهم شرّ طردة، فجرجروا ذيول هزيمتهم إلى ما وراء البحار، ونحن على يقين أننا نسير على نفس الدرب، ونفس خطى الثورة التحريرية النوفمبرية المباركة التي أثبتت للعالم أن الحق لا يقهر، وأنّ القوة لا يمكنها أن تصنع من الباطل حقاً.
كيف تقرأ موقف الجزائر إزاء ما يحدث في غزة، في وقت دعت فيه بلدان إلى ضبط النفس وما إلى ذلك من عبارات لا تساير الواقع؟
للتاريخ، يجب التأكيد على نقطة هامة، وهي أن موقف الجزائر كان متقدّماً وسابقاً لكل ما بدر من البلدان العربية والإسلامية بسنوات وأميال وكيلومترات، كيف لا؟! وهي من حمت القضية الفلسطينية من التشرد والتشتيت والذوبان والانصهار، وفتحت أبوابها للشعب الفلسطيني وقيادته، وهي من أعادت اللحمة الوطنية بإشرافها على حوار وطني مثمر. دعني أقولها بوضوح..إن الجزائر سندنا وأمّنا الحنون، وحاضننا الدافئ في سرائنا وضرائنا، في فرحنا وفي قرحنا. ولطالما كانت الجزائر الصخرة العتيدة التي تحطمت عليها المؤامرات الصهيونية، فهي من وقفت في وجه الربيع العبري، وهي من قالت لا للتطبيع، وهي من طردت الكيان من الاتحاد الإفريقي وحرمته صفة المراقب، وبهذه المناسبة أود باسمي وباسم الشعب الفلسطيني في الشتات والقدس وفي غزة ورام الله أن أقدّم تحية إجلال وإكبار لرئيس هذه الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، الذي يسير على خطى القائد والزعيم الراحل، هواري بومدين، وأنا أسمي خطاه “بومدينية معاصرة” تواكب روح الزمان، وتحافظ على ثوابت ورسالة الشهداء. نحن نكنّ له كل المحبّة والاحترام، ومن هذا المنبر أود أن أوجه له شكري الخالص على مواقفه وعطائه للقضية الفلسطينية، في الوقت الذي أدارت فيه بلدان أخرى ظهرها لنا، مهرولة نحو التطبيع مع الكيان.
للجزائر مكانة خاصة في الوجدان والذاكرة والتاريخ الفلسطيني، فنحن نكاد نكون، ومن دون خجل، ولاية من ولاياتها، فهي تخوض من أجلنا معركة حضارية كبيرة، رافعة فيها الراية العربية على أمل أن ترفع جسد هذه الأمة من الانحطاط والذل والهوان، تقذف بالأمة إلى ضفاف العزة والكرامة. نحن كفلسطينيين، كلّنا فخر بمواقفها الثابتة، ووقوفها الدائم إلى جانبنا، ولعل أحدث مسعى دبلوماسي تعمل على التحضير له، هو المعركة التي ستخوضها في مجلس الأمن ابتداء من العام القادم من أجل حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وذلك بعد التصويت عليها كعضو غير دائم فيه، وكلنا ثقة في مساعي الدبلوماسية الجزائرية لما لها من ثقل وحضور دولي.
كيف تحلّل ما ورد في بيان اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري الطارئ حول الوضع في فلسطين، في دورته غير العادية الذي انعقد بالعاصمة المصرية القاهرة، والذي طالب “بالوقف الفوري للحرب الصهيونية على قطاع غزة”، وأدان “قتل المدنيّين من الجانبين”؟
بيان اجتماع مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري لا يرتقي فعلا إلى ثمن الورق الذي كتب عليه، فهو هافت وخافت، لقد تفاجأنا حقيقة من هذا الموقف المخجل والظالم للحقوق الوطنية الفلسطينية ولعدالة قضيتنا، وهو يُظهر، في الوقت نفسه، الانقسام الحاصل في الجامعة العربية جلياً، فهناك قسم مطبّع وآخر غير مطبع تقوده الجزائر والكويت..وللمطبّعين الذين ما يزالون يقارنون ويساوون الضحية بالجلاد نقول: ها قد استطاعت المقاومة الفلسطينية أن ترد شيئا من الكرامة إليكم، وترفع عنكم غطاء الاستعباد والذل، وفي هذا المقام نذكّر هذه الأنظمة الصهيونية العربية التي برزت برأسها وأطلت به بعد انتهاء ما يسمى بالربيع العبري، أنّنا لسنا ضد السلام ونحن كذلك لسنا طلاب سلام بأي ثمن، وأطالبها بمراجعة موقفها من القضية الفلسطينية وأن تقف مع العدل والحق، والعودة للتركيز على ما جاء في فحوى المبادرة العربية لسنة 2002، التي ربطت السلام مقابل الأرض.
بالمقابل نحن نتساءل اليوم، ماذا استفاد هؤلاء المطبّعون الذين باعوا أنفسهم للشيطان الصهيوني؟! ماذا كسبوا من كيان لم يستطع حماية نفسه، فكيف له أن يحميهم؟! هذه هرطقة سياسية عربية غير منطقية، ومن هذا المنطلق أدعو كل الدول العربية المطبعة إلى إعادة النظر في علاقاتها مع دولة الاحتلال، وأن تعود إلى جادة الصواب بدعم ومساندة أبناء جلدتها الذين يذبحون يومياً بأياد صهيونية إجرامية وحشية.
هل تعتقد أنّ عملية “طوفان الأقصى” ستزعزع قناعات السلام الزائفة التي تساوم الأراضي الفلسطينية بسلام وهمي؟
نعم، لقد زعزعت الأسس الاستسلامية والقناعات الزائفة، وأطاحت بهذه المنظومة الفكرية ومناهجها الصهيونية، مؤكدة للعالم أنه لا سلام ولا أمن ولا استقرار في المنطقة دون إحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والمتمثلة في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وهذا ما جاء على لسان إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية، الذي قال إن معركة “طوفان الأقصى” تهدف إلى إقامة الدولة الفلسطينية، وتكريس حق العودة وإبطال التفكير الصهيوني بوجود حل ثان للقضية، لأن الفلسطيني لا يبحث عن مأكل أو مشرب بقدر ما يبحث عن دولة وعلم ونشيد وأرض تأويه من الشمس، تماما كما كتب رئيس حكومة الاحتلال في كتابه حيث ذكر أن لليهود الحق في أرض تحت الشمس على أرض فلسطين، وعليه، فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نساوي حقوقنا بمزاعمهم الباطلة التي يريدون فرضها بمنطق القوة.
لقد أعاد “طوفان الأقصى” المجد والكرامة، ليس فقط للفلسطينيين ولكن أيضا لكل الأمة العربية والإسلامية بتسطيره لأروع سطور التاريخ، لقد استطاع أن يعود بالقضية من بعيد إلى هرم اهتمامات المجتمع الدولي الذي اعتقد أنها انتهت، بهيمنة الكيان الصهيوني على المنطقة، فغض البصر عن حقوقنا الوطنية الشرعية، ظاناً أن مقولة “غولدا مايير” قد تحققت حينما قالت “إن الكبار يموتون والصغار ينسون”، لكن بعد أن وطأت أقدام رجال المقاومة أرض فلسطين المحتلة، متغلبين بذلك على كل إمكانات الكيان التكنولوجية والعسكرية الاستخباراتية، تغيرت طبيعة وجدلية الصراع، معلنة عن عدم جدوى استظلال المطبعين بهذه القوة التي فشلت في صد هجمات “أسود القسام”، الذين أسروا ما يزيد عن 200 شخص من بينهم عسكريون برتب عالية، وأنا أتوقع أنهم أصيبوا بصدمة نفسية كبيرة تماماً كما أصيبت بها أوروبا وأمريكا.
كيف تصف ردود الفعل المجتمع الدولي المتضامن مع الكيان الصهيوني مقابل ما يحدث من إبادة جماعية لأهالي قطاع غزة؟
المجتمع الدولي مقسوم إلى دائرتين، أولاً دائرة التيار اليميني الصهيوني الأمريكي الغربي الذي يدعم الكيان دعماً مطلقاً وغير محدود، بل ويبارك كل ما تقوم به قوات الاحتلال من قتل وتدمير وتهجير للفلسطينيين، ويعتبرها دفاعاً عن النفس وارتدادات انعكاسية على ما قامت به المقاومة الفلسطينية، ويتّضح ذلك من خلال كل التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي جو بايدن، مانحاً بذلك ناتنياهو الضوء الأخضر من أجل سفك دماء أبرياء غزة الذين يعتبرونهم مجرمين؛ لأنهم احتضنوا المقاومة وحركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى، علاوة على ذلك، فتصريحات وزير خارجيته أنتوني بلينكن، تبرز مدى التحيز والكره الذي تكنّه الإدارة الأمريكية للقضية الفلسطينية، فالأخير قال خلال جولته الأخيرة إلى دولة الاحتلال، إنه جاء كيهودي وليس كوزير خارجية. يضاف إلى هذا، إرسال الرئيس الأمريكي حاملة الطائرات الأمريكية “جيرالد فورد”، فيما ستلحقها حاملة أخرى، هذا ما يجعل أمريكا طرفاً فاعلاً في الصراع الفلسطيني ضد الصهيونية البروتستنتية الممثلة في الغرب “المتحضر”، بما فيه فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من الدول المسيطر عليها صهيونياً، والتي تدار بعقل يهودي مزج بين العهد القديم والجديد، ليخرج بكتاب سمي “الكتاب المقدس” الذي يعتبر أن المسيحية جاءت لتكمل اليهودية، وأن المسيح ولد يهودياً، وبالتالي فدعم دولة الاحتلال من أجل بقائها واستمرارها يعتبر واجباً مسيحياً مقدساً، ومنه نرى أنّ للجانب الديني حضور كبير عند الغرب في مسار دعمهم للاحتلال، وليس فقط الجانب البراغماتي، لكن ما يحز في أنفسنا هو ذاك الدعم العربي الذي يساهم في إبادتنا وتشريدنا، دعم ما زال يتعالى صوته رغم استعمال الكيان لأسلحة محرمة دولياً، مثل الفسفور الأبيض، وإلقاء ما يزيد عن 6000 طن من القنابل على قطاع غزة، ما يعادل نصف قنبلة نووية.
وعليه أكرّر أنه ليس علينا كفلسطينيين سوى الدفاع عن بقائنا وحريتنا رغم منسوب دمنا الذي سيكون عالياً، لكننا جميعا في الشتات وفي غزة والضفة والقدس و48 مشاريع شهداء..هكذا علّمنا القائد المؤسّس “ياسر عرفات” رحمة الله عليه، والذي قال ذات يوم “إن الفلسطينيين مشاريع شهادة من صغيرهم إلى كبيرهم”. نحن ندافع عن فكرة تحرر، والفكرة خالدة لا تموت حتى وإن دمّروا قرانا ومدننا وقتلوا شعبنا فستبقى الفكرة حية، ولنا في الثورة الجزائرية والشعب الجزائري وشهدائه أسوة حسنة، ونحن على دربهم سائرون حتى النصر.
ماذا بعد عملية “طوفان الأقصى”؟ ما هي التّطوّرات التي ينتظر أن تعرفها القضية الفلسطينية على مستواها المحلي والدولي؟
في تصوري، ستدفع عملية طوفان الأقصى بالقضية الفلسطينية دفعاً إلى الأمام، بعدما أدّبت الكيان الصهيوني ومرغت أنفه على رمال الأراضي الفلسطينية المحتلة وبأحذية رجاله البواسل، أتوقع أن كل هذه الأحداث ستدفع بقضيتنا لتأخذ الصدارة والاهتمام على المستوى الدولي، ونأمل أن تعود كقضية مركزية للأمة العربية أيضاً. لابد على كل الفاعلين الدوليين أن يقتنعوا بأنه لا حل ولا استقرار إلاّ بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، ومن بينهم تلك الأنظمة العربية المطبعة التي يستوجب عليها بعد كل هذه المجازر التي ارتكبها الكيان أن تراجع نفسها، كما فعلت السعودية التي قرّرت تجميد كل خططها الهادفة إلى تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، ممّا يشير إلى سعيها لإعادة التفكير في أولويات سياستها الخارجية في ظل تصاعد العدوان على قطاع غزة.
أضيف هنا أنّنا ماضون لتسطير تاريخ جديد بدمائنا وعزيمة مقاتلينا، سنواصل عبور خطوط الدفاعات الصهيونية، تماماً كما حدث في حرب أكتوبر، لما عبر الجيش المصري خط قناة السويس والجيش السوري هضبة الجولان، مع فارق أن من عبروا آنذاك كانوا جيوشاً نظامية، وأنّ من عبروا في طوفان الأقصى هم شجعان وفدائيو مقاومة مدعومة بقوة الإيمان.
يظن العدو المجرم أنه بارتكابه لجرائم حرب مروعة في حق مدنيين وعزَّل ونازحين وقصف المستشفيات أنه سيدفع شعبنا ومقاومتنا إلى الاستسلام، هذا الشعب لا يعرف الانكسار، مزيد من القتل يعني مزيد من الصمود، ومزيد من الالتفاف حول المقاومة.
ما هو التّحوّل الذي ستحدثه التطورات الأخيرة في تاريخ القضية الفلسطينية على صعيد المقاومة العسكرية؟
لقد أحدثت العملية “تسونامي” في المؤسسة العسكرية الصهيونية، واستطاعت هزيمة أسطورة الجيش الذي “لا يقهر” بحسب ما روّج له، وجيش المستحيل، وجعلت منه يغير منظوره المتعالي نحونا، لقد استطاعت المقاومة أن ترد له الصاع عشرة، وليس الصاع صاعين، وأثبتنا له أننا قادرون على مقارعة أكبر وأقوى جيش في المنطقة، والذي يتفاخر
بقوته العسكرية والتكنولوجية، ويمتلك أحدث ترسانة من الصواريخ والطائرات والدبابات وغيرها من الأسلحة الفتاكة، كلّها تحطّمت فوق صخور الإرادة والعزيمة والإيمان واليقين الفلسطيني، الذي جدد وتجدّد داخل الذات الفلسطينية التي لطالما دافعت عن وجودها وكينونتها.
أنا أعتقد أن الهزيمة السيكولوجية التي مني بها جيش الاحتلال الصهيوني ستلاحق أفراده ومستوطنيه وشعبه لفترة طويلة، فهي نكبة بالنسبة لهم ولدت في 7 أكتوبر 2023، في منظوري استطاعت المقاومة أن تحقق انتصارا تاريخياً سيكون له الكثير من الارتدادات والهزات داخل المنظومة العسكرية الصهيونية، وحتى داخل المؤسسة السياسية التي يقودها المتطرف والمجرم نتنياهو.
كيف ستؤثّر الحرب القائمة على ما يصطلح عليه بمسار التّسوية السياسية؟
الحرب القائمة حالياً ستؤثر على عملية السلام بشكل إيجابي، بحيث سيتغير مكان الفلسطينيين ليرتقي إلى الأعلى، وهنا لابد أن نذكر برد الكيان على مبادرة السلام العربية بقمة بيروت عام 2002، التي قدمها الملك عبد الله، والتي حققت توافقا وإجماعا عربيا، حينها كان الرد على لسان رئيس الوزراء آنذاك شارون، بتصريحات ساخرة مفادها أن هذه المبادرة مزحة لا تساوي الحبر الذي كتبت عليه، ليفرض حصار المقاطعة على الرئيس أبو عمار، ليغتال في نهاية المطاف أيضاً، ومعروف عند العالم أجمع أن من قتل الرئيس ياسر عرفات هم الصهاينة، هذا بشكل ملخص تذكيراً بمقترح المبادرة العربية، فمن الجيد التذكير أن حكومة الكيان المحتل، لا تريد سلاماً ولا تغييراً في الوضع، لكن هذا قبل 7 أكتوبر 2023، أما بعد هذا التاريخ فالأمور ستختلف تماماً، حيث كان يريد قبلها نتنياهو من العرب السلام دون إقامة دولة فلسطينية، ولا تلبية مطالب الشعب الفلسطيني المشروعة، في محاولة لإنهاء ربط السلام بالأرض، وهنا وجب علينا التساؤل عن كل عمليات السلام التي قمنا بها مع دولة الاحتلال الصهيوني، التي لم نستفد منها بأي شكل من الأشكال، وإنما كانت عبارة عن أوهام سياسية للعرب، حيث كانوا مجبرين رفقة الفلسطينيين على قبول ما يفرض عليهم من شروط دون أخذ ما يطرح من حقوق، وفي الوضع الراهن المعادلة اختلفت وتغيرت موازين الصراع وجدليات الأحداث والوقائع، تحولت بموجبها القوة والجبروت الصهيوني لمجرد اسم باهت، وأبطلت مفهوم الجيش الصهيوني الذي لا يقهر، في انتظار أبعادها على المدى القصير المتمثل في تفكيك الجبهة الداخلية للعدو، وضرب وحدته وتماسكه، ليسيروا في طريق الانقسام والإطاحة بحكومة اليمين المتطرف، وفي منظوري الحرب لن تطيح فقط بحكومة السفاح نتنياهو فقط، بل ستعصف باليمين المتطرف وتبعده عن الساحة لتكون الفرصة كبيرة للعلمانيين الذين سيمدون أيديهم مجبرين للفلسطينيين، رغما عنهم لتطبيق قرارات الشرعية الدولية، على رأسها القرار 42-42، وقرار 181 الذي يمنح الفلسطينيين الحق في تأسيس دولتهم، وعاصمتها القدس الشرقية.