مرّ ما يقرب من ثلاثة أسابيع على إطلاق كتائب القسام عمليتها العسكرية الأولى من نوعها، والمخترقة للطوق الأمني للكيان الصهيوني الذي طالما نظّر له بأنه حصن منيع يحمي مستوطنات غلاف غزة بتقنيات أمنية متناهية الدقة، لكن سرعان ما كان مصير هذا الخط نفس مصير سابقه “خط بارليف” سنة 1973.
حين تتحوّل نقاط القوة إلى أسباب انهيار..
كشفت هجومات السابع من أكتوبر 2023 ، عن حجم الاختلالات الهيكلية التي تعرفها المنظومة الصهيونية السياسية والأمنية، فقد تمّ قتل أكثر من ألف صهيوني وأسر أكثر من مائتي أسير في الساعات الأولى من الهجوم السريع أغلبهم عساكر من مختلف الرتب، رافق ذلك رد فعل بطيء للجيش الصهيوني الذي استغرق يوما كاملا للانطلاق في عملية سد الثغرات الأمنية واسترجاع ما يقارب، أو أكثر من 20 مستوطنة سيطرت عليها المقاومة الفلسطينية بشكل كامل لساعات طويلة، دون نسيان الفشل الاستخباراتي للأجهزة الصهيونية بفرعيها “الشاباك” و«الموساد” في توقع الهجوم، وهي التي تخضع قطاع غزة والمقاومة للرقابة على مدار 24 ساعة بمختلف الأساليب التكنولوجية والتجسسية.. هذه الإخفاقات والاختلالات ليست الوحيدة، فلطالما نُفخ الكيان الصهيوني إعلاميا بأنه كيان رائد في الشرق الأوسط والفاعل النموذجي المتفوق، ولوهلة كانت هناك محاور كبرى لطالما بنى الكيان تفوقه عليها، لكن في الأصل أصبحت هذه النقاط تشكل ثغرات وجوانب ضعف وإخفاق ذات أبعاد إقليمية ودولية، ففيما تتمثل هذه المحاور؟
تصدّع نظرية الأمن الصهيونية
يعتبر الكيان الصهيوني من بين الفواعل القليلة في العالم الذي يخصص لنفسه نظرية أمنية خاصة به، يسير وفقها لتحقيق أغراضه الأمنية والتي تعطي للعالم صورة الجيش الأسطوري الذي لا يقهر، تقوم هذه النظرية على عدة مرتكزات أهمها، الحرب الخاطفة القصيرة المدة؛ ونقل المعركة إلى أرض العدو، والحرب الاستباقية، والاعتماد على شريك قوي يمده بالدعم المالي واللوجيستي، كل هذه المرتكزات عبثت بها عملية طوفان الأقصى يوم 07 أكتوبر، فقد جرى استدراج الكيان إلى حرب، وهي الآن تدخل أسبوعها الثالث دون حساب المدة التي سيستغرقها التدخل البري، وبالتالي هي في حرب طويلة المدة يمكن أن تتحوّل إلى حرب استنزاف طويلة الأمد وبالتالي تلغى القاعدة الأولى، كما أنه لأول مرة يتعرض الكيان إلى حرب داخل الأراضي المحتلة حين نجحت المقاومة في اختراق خطوطه الأمنية، وقتاله داخل مستوطناته، والسيطرة التامة على ما يقارب العشرين مستوطنة بشكل كامل.
أما بخصوص الحرب الاستباقية، فهذه المرة قامت المقاومة بالاستباق في الهجوم، ما أربك الصهاينة وجعلهم يستغرقون ساعات طويلة لاتخاذ قرار تجاه ما حصل واستيعابه، وبالتالي تعطلت قاعدة أخرى من قواعد الأمن الصهيوني، عطفا على الدعم الأمريكي وهو الذي يعتمد عليه الكيان بشكل رئيس في تحقيق أمنه بالمنطقة، فإن هذا الدعم وإن كان مطلقا، فإنه يخضع في الوقت ذاته إلى مستويات تسير الولايات المتحدة في دعمها إلى بلوغها بفعل التدخل العسكري المزمع أن يبدأه الكيان، وهو ما سنفصل فيه في نقطة لاحقة من هذا المقال.
الحرب وورطة الاقتصاد الصهيوني
كما جرت العادة، فإن الاقتصاد الصهيوني لا يتحمل حربا طويلة نظرا لحالة التعقد والتشبيك وتداخله مع الجانب العسكري والسياسي، لذلك يوصف بأنه اقتصاد حرب، فبسبب طوفان الأقصى تكون العملة المحلية للكيان الصهيوني، قد سجلت سقوطا بقيمة 3% أمام الدولار في أول يوم للعملية، وتراجعت أسهم الكيان في البورصة بنسبة 8 بالمائة، أما نسبة خسائر التداول فقد بلغت 8.7%، وقد اضطر البنك المركزي الصهيوني لضخّ ما قوامه 11 مليار دولار لحماية عملته من تذبذب سوق الصرف، إضافة إلى تلقي 1200 بلاغ بالضرر كانت قد تلقته الضرائب ناجم عن هجمات المقاومة، إضافة إلى شلل تام في حركة الطيران وعزوف الشركات العالمية للنقل عن تنظيم رحلاتها إلى الكيان، ناهيك عن نفور الاستثمارات الأجنبية من الاستثمار في الأراضي المحتلة والخوف على منشآتها، ونذكر مثلا شركة “مايكروسوفت “و”غوغل” و«آبل” و«أوراكل” التي لديها نقاط إنتاج مهمة في الكيان الصهيوني والتي تبدي تخوفا على مشاريعها هناك بفعل الخروقات الأمنية، إضافة إلى شركة “إنتل” التي كانت ستقيم استثمارا لها بقيمة 25 مليار دولار لصناعة الرقاقات الإلكترونية، وكان من المقرر أن يقام المشروع في منطقة تبعد نصف ساعة فقط على المناطق التي هاجمتها المقاومة الفلسطينية، هذا دون احتساب الخسائر التي تعرض لها الصهاينة فيما يوصف بأنه (مملتكاتهم) وقدرت في الساعات الأولى من العملية بـ30 مليون دولار أمريكي، مع الأخذ في الحسبان التكلفة العسكرية للحرب التي ترهق خزينة المحتل، فمثلا تعبئة واستدعاء الاحتياط الذي بلغ عددهم أكثر من 300 ألف عسكري، يتطلب غلافا ماليا يستنزف الاقتصاد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن قطاع الأعمال واليد العاملة داخل المجتمع الصهيوني قد خسر 300 ألف عامل تركوا مناصبهم للالتحاق بالحرب، وهذا أيضا يشكّل خسائر مالية ضخمة، دون نسيان الرصيد الأكبر من النزيف الاقتصادي في الشقّ العسكري، وهو منظومة القبة الحديدة، التي تبلغ القذيفة الواحدة منها ما بين 50 ألف إلى 60 ألف دولار أمريكي يعادلها في العدد صواريخ المقاومة المحلية الصنع التي لا تتعدى مئات الدولارات فقط، كتكاليف لصنعها، وبالتالي يخسر الكيان لاعتراض الرشقات الصاروخية ملايين الدولارات في الرشقة الواحدة المنطلقة من داخل غزة، مع الإشارة إلى أنه حتى الصاروخ الذي لا يصيب أهدافا مباشرة داخل الكيان الصهيوني، فإنه – على الأغلب – سيكلف الخزينة الصهيونية أكثر من الخسائر التي كان سيسببها لو أصاب هدفا مباشرا ناجحا، هذا دون إغفال حقل “تامار” للغاز في شرق المتوسّط والذي تمّ توقيف إنتاج الغاز فيه مع انطلاق الطوفان، وبالتالي تعطل الكيان وتكبّده خسائر فادحة، مع إيلاء الأهمية لقطاع السياحة الذي يعتبر من أهم المداخيل التي يعتمد عليها الاقتصاد الصهيوني والتي عصفت بها عملية “طوفان الأقصى”، وهذا يتطلّب سنوات لإعادة رسم صورة الكيان الآمن.
مأزق “الكابينيت” المصغر السياسي
الكابينيت الأمني المصغر أو حكومة الطوارئ، هي الأخرى لم تكن في وضع أفضل من وضع الاستخبارات والجيش والاقتصاد، فنتنياهو هذه المرة يعرف أنه قد انتهى سياسيا بسبب تعزز موقف معارضيه بفشل حكومته في توقع الهجوم وحتى إدارته بعد وقوعه، وبالتالي يجد نفسه أمام خيار افتكاك نصر يغطي به على إخفاقاته، فجرى الاتفاق مع فريق عمله بأن تكون الحرب على غزة هذه المرة مختلفة في أهدافها، بحيث لا يجب هذه المرة ضرب القطاع فقط، بل يجب إنهاء حكم وسيطرة حماس فيه، وهذا لن يكون إلا باحتلاله من جديد أو على الأقل احتلال أجزاء منه، وتهجير الفلسطينيين منه إلى الجنوب مع فرض أوضاع معيشية مزرية تهيج أهالي القطاع على مقاتلي حماس، بأنهم السبب في الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يعيشونها، وهذا لن يكون إلا بالاجتياح البري، وهو ما يفسر القصف العنيف للقطاع قبل التأكد من اتخاذ قرار الدخول الذي يعتبر محفوفا بالمخاطر لعدة اعتبارات، كون أن رجال المقاومة متدربين جيدا على قتال الشوارع، وحتى البيوت والشوارع المحطمة يمكن أن تكون مناسبة استراتيجيا للقتال، إضافة الى أن هناك أكثر من مائتي أسير داخل القطاع قد تتعرض حياتهم للخطر، علاوة على الأسلحة المتطوّرة التي تمتلكها المقاومة، دون نسيان أن الولايات المتحدة لا تنظر للاجتياح بعين القناعة وتناور بضغطها على الأقل أن يكون بعد تحرير الأسرى، وهو ما يرى المحتل عكسه، وبالتالي يمكن القول بأن الكابينيت الصهيوني وضع نفسه بين المطرقة والسندان، مطرقة الظروف الميدانية المذكورة والموقف الأمريكي الذي يرى أولوية تحرير الأسرى على الحرب والتدخل بريا، وسندان عدم الدخول والتراجع، ولو حصل ذلك، فإنه إعلان نصر للمقاومة على الكيان والولايات المتحدة، ما يعني أنه في كلتا الحالتين ستنتهي الحكومة الصهيونية المتطرفة الحالية بفضيحة مدوية ستبقى نكسة في تاريخ الكيان الصهيوني لم تحدث منذ حرب أكتوبر 1973.
نحو توتر العلاقات الأمريكية ـ الصهيونية
لا يختلف اثنان على الدعم الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني، والذي ظهر أكثر إبان الحرب الحالية، وتوّج بزيارة الرئيس الأمريكي شخصيا إلى تل أبيب للإعلان عن دعمه الكامل للكيان في حربه على الشعب الفلسطيني، واصفا ما يقوم به من مجازر “حق رد” وعمل مشروع للدفاع عن النفس، إضافة الى إرسال حاملات طائرات إلى شرق المتوسط وإرسال تعزيزات لتدعيم الجيش الصهيوني، لكن هذا الدعم مع فرضية الاجتياح البري، تراه الولايات المتحدة تصعيدا غير مناسب في الوقت الحالي.
إن إصرار الكيان على التصعيد سيورط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ويفتح عليها جبهة قديمة، إضافة إلى الجبهات المفتوحة حاليا في شرق آسيا (الصين وروسيا كوريا الشمالية تايوان) وفي أوروبا الشرقية (أوكرانيا)، وبعد الجهد الذي بذله الرؤساء السابقون لبايدن؛ أوباما وترامب واللذان عملا على تصفية قضايا الشرق الأوسط، وتحرير الولايات المتحدة من التزاماتها المادية والأيديولوجية تجاهه، تجد نفسها تغرق أكثر بسبب الكيان الصهيوني الذي أعاد بعض الأدوار الممانعة للواجهة بسبب سياساته الاحتلالية المستفزة وخرقه للقانون الدولي متناسيا ثبات الشعب الفلسطيني وصموده، هذا الوضع جعل من بايدن وحكومته المنحازة داخليا والتي تضم 11 وزيرا يهوديا أمام رأي عام أمريكي يوجّه له اتهامات جهوية وعنصرية للحكومة الامريكية التي تعتني باليهود دون سواهم وتتحمل مصاريف حروب الكيان، بعيدا عن الأراضي الأمريكية، وهو الرأي العام الذي ضغط سابقا على التواجد الأمريكي في أفغانستان والعراق، بمعنى أن بايدن لديه سقف دعم يتوقف عنده، والواضح أن الاجتياح البري يخرق هذا السقف، فمثلا منذ بداية عملية الطوفان، قفز النفط بخمسة دولارات، وهو مرشح للارتفاع في حال اندلاع حرب برية ودخول أطراف أخرى ستؤجج الصراع وتمدّده، ما يؤثر على ممرات النفط ويهدّد الأمن الطاقوي الأمريكي وحلفاءه، والذي هو في الأصل أولوية في الاستراتيجية الأمريكية، بمعنى أن الكيان الصهيوني يتوجه نحو إثقال كاهل الأمريكيين وإنفاذ رصيد تحملهم مشاكله الإقليمية. وبالعودة للحظر النفطي الذي حدث سنة 1973، يتوقع أن يتكرّر هذه المرة لكن بطريقة أخرى وهي اندلاع حرب إقليمية يكون الوصول فيها لمصادر الطاقة أمرا صعبا وربما مستحيلا.
الهجرة المعاكسة
لطالما بنى الكيان نفسه على تدعيم كتلته الديمغرافية باستقطاب اليهود من كل أقطار العالم، وتسويق فكرة “الأرض الموعودة المقدسة” كإغراء لهم. إن نقطة الهجرة للكيان الصهيوني متغير لا يمكن النقاش حول أهميته بتاتا على مستوى صناع القرار الصهاينة، لكن ما حصل في عملية “طوفان الأقصى”، عصف بمخطط الهجرة، فبعد أن كان الكيان يواجه مشكلة عزوف المهاجرين إليه، أصبح في مشكل الهروب منه، وذلك لأن المواطن الصهيوني أصبح يرى حكومته فاشلة وعاجزة عن حمايته، إضافة إلى سياستها في مواصلة القصف والأسرى الصهاينة داخل القطاع الذين مات منهم أكثر من عشرة أفراد بسبب القصف الصهيوني، ما جعل الحكومة تظهر بمظهر غير المهتم بسلامة مواطنيها، وبالتالي ستواجه شبح النزيف الديمغرافي.
مراجعة هيكلية للتطبيع
لم تكن عملية “طوفان الأقصى “عملية عسكرية بحتة واختراقا للخطوط الأمنية الصهيونية فحسب، بل كانت عملية دبلوماسية أيضا، ومثلما عرضت المنظومة الصهيونية الاقتصادية للخطر، وكذلك علاقاتها بالولايات المتحدة، وتجر المنطقة نحو خطر الحرب الإقليمية، أيضا كان لها تأثير على مسار التطبيع، فالسنوات الاخيرة شهدت هرولة عدة دول عربية للتطبيع، وجاءت عملية “طوفان الأقصى” وقطعت مساعي تطبيع دول أخرى، هذه الدول سواء التي طبعت أو التي لم تطبع أعطت في السابق مبررات لشرعنة تطبيعها بحجة أن التطبيع يأتي للحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني ووقف عمليات التهجير والاستيطان والعدوان الصهيوني في حقه، لكن لا الاستيطان ولا التهجير ولا العدوان توقف، وبالتالي هذه الأنظمة الآن تعرت تماما ولم تعد تمتلك حلا لوضعيتها، فهل تتراجع أم تستمر؟!، وفي كل الحالات، تبقى علاقات الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط علاقات سلام هشّ، لم تنجح عمليات السلام فيها، في النزول إلى طبقات الشعوب، وبالتالي سلامها كان سلام حكومات لا سلام أنظمة.
تبقى هذه الإخفاقات نقاط استراتيجية حققها الشعب الفلسطيني، وتورط فيها الجانب الصهيوني الذي لا يريد التنازل والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في تأسيس دولته على أرضه ومقدساته، لكن في الوقت نفسه، لم تنته المعركة الحالية ولم تنته الحرب بشكل عام، ويمكن في أي لحظة أن تنقلب نقاط القوة المحرزة الى نقاط فشل، فعلى الفلسطينيين القراءة الجيدة للمشهد الحالي، واختيار الحلفاء بشكل دقيق والمراهنة على الطرف الصحيح، كي لا تكون الضريبة باهضة، مع الأخذ في الحسبان أن التصعيد الصهيوني سيزداد في غطرسته، ويبقى النصر حليف الطرف الذي يمتلك الصبر ولديه رصيد أكبر من المخزون الاستراتيجي.
بقلم الدكتور محمد بلعيشة
أستاذ علوم سياسية جامعة حسيبة بن بوعلي
الشلف