كانت سانحة طيبة أتاحها لنا أستاذنا الدكتور عبد القادر بوزيدة، بدعوة كريمة إلى المشاركة في ندوة “الأدب الإفريقي والترجمة” التي نظمها المركز الوطني للكتاب أمس الأول، بجناح وزارة الثقافة والفنون، على هامش صالون الجزائر الدّولي للكتاب، ولقد كانت المداخلات قيّمة، والأسئلة حصيفة، والتشخيص دقيقا، ما يشجعنا على الدّعوة إلى مزيد من الاهتمام بالدراسات الإفريقية، وتفعيل أسباب التواصل الثقافي الإفريقي..
ولقد أبدع الدكتور مصطفى فاسي، وهو العارف بالمنتج السردي الإفريقي، في تقديم الأعمال الروائية والقصصية الإفريقية، فرسم صورة مجملة عمّا يضيف الأفارقة إلى مكتبة الآداب العالمية، تماما مثلما أبدع النيجيري الدكتور خضر عبد الباقي، في تشريح الخلفيات المعنوية والمادية لإشكاليات “الترجمة في الأدب الإفريقي”، وكانت إضافة الدكتور رشيد كوراد في الموضوع قيّمة، وكان من حظ كاتب السطور مداخلة حول ترجمة عملين للروائي التنزاني عبد الرزاق قرنح، الأول بعنوان “قريبا من البحر” (By The sea)، والثاني “ذاكرة الرحيل” (Memory Of Departure)، وإن لم يكتب لهما رؤية النور لأسباب لا نرى حاجة في ذكرها، فهي لا تضيف شيئا إلى ما نعتزم الخوض فيه..
التأسيس الإفريقي..
يجب أن نعترف أن أعناقنا جميعا – كأفارقة – ظلت مشرئبة إلى المنتج المعرفي الغربي، لأسباب تاريخية وثقافية، بل لأسباب حضارية معروفة، ونسينا أنفسنا (إن صحّ التعبير) في خضمّ الكم الهائل من المعارف الغربية، ولعل الأشقاء الأفارقة كانوا أحسن حظا منا في شمال القارة، لأننا وقعنا في فخّ الرّبط بين التراث الفلسفي العربي التليد، والتراث الفلسفي الغربي الرائد، بينما أفلتت الثقافات الإفريقية في الجنوب من الربط الاعتباطي بين “تراث الأجداد” و«الحداثة” من خلال مساءلة مفهوم “المثاقفة”، والنظر فيما ينجم عنها من آثار، ما سمح بالوقوف على خطأ ذريع يشوّش على الخطاب الفلسفي الإفريقي، ويسحب منه فعاليته، ويعطّل أداءه، ويحول دون استيعابه، وتبين أن مساءلة خطاب الفيلسوف الإفريقي لا ينبغي أن تكون من خلال إخضاعه إلى المعايير العالمية، قبل أن يستوعبه مواطنوه الذين يقاسمونه الواقع الثقافي نفسه، ليكون الأمر كما تصوّره كارل ماركس حين قال: «ليس وعي الناس هو ما يحدّد وجودهم، وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدّد وعيهم»، وهذا بالضبط ما يحدّد حصافة السؤال وفعاليته في الواقع، من خلال النظر في جدوى الخطاب الفلسفي على المستوى المحلّي، والنظر فيما يمكن أن يضيف هذا الخطاب إلى محيط الفيلسوف.
وقد يكون من حسن حظنا، أننا اكتشفنا هذا الخلل في أثناء دراسة الطبيعة الأجناسية لـ«الملحمة” في الحاضنة الحضارية الشفاهية، ووقفنا عند العودة الإفريقية إلى مساءلة الأصول المحلية في كتاب “نقد العقل الشفاهي” لصاحبه ماموسي دياني (Mamoussé Diagne)، ثم تعمّق السؤال مع دراسة “الانتقال” (Transition) من “الملحمة” إلى “الرواية”، وتبيّن لنا أن “المطابقة التاريخية” بين المسار العربي/ الإفريقي، والمسار الغربي، لا تصطنع شيئا عدا الأوهام. ولقد تبيّن الدّارسون الأفارقة، وعلى رأسهم إسياكا بروسبر لالايي (Issiaka-Prosper Lalèyê) أن إدراك التناقض الصارخ بين الحاجة المحلية والهيمنة العالمية، يمكّن الفيلسوف من تحديد المهام التي ينبغي أن يضطلع بها الاشتغال الفلسفي في إفريقيا، من خلال ثلاث مهام، أولها القراءة الشاملة للواقع المحلّي ومتغيراته التّاريخية، ثم السّعي إلى تيسير الخطاب وجعله واضحا يستوعبه الآخرون ممّن لا يشتغلون بالفلسفة، مع وجوب سعي الفيلسوف إلى فهم مواطنيه واستيعاب انشغالاتهم، أمّا المهمّة الثالثة، فتتمثل في الربط بين النمط الفلسفي للفكر الذي سيخدمه بما هو أداة مساءلة للحقائق الآنية، وبين تداعيات هذا النشاط الفكري، من خلال استقراء الإكراهات الممكنة، والنّظر في عواقبها الأكثر عمقا.
العودة إلى الأصول..
وقد يكون واضحا أن ما قدّمنا يشرح المشكلة المهيمنة على واقع الدراسات الإنسانية في شمال إفريقيا، والضفة العربية عموما، وما يعطل النشاط الفلسفي والنقدي بصفة خاصة، ولقد قلنا في مقال سابق إننا يمكن أن نلاحظ بسهولة أنّ الفلاسفة الأفارقة، أدركوا أن النشاط الفكري ينبغي أن يركّز على «المحلّي»، دون أن يهمل ما توصّل إليه العالم، بينما تفرّق العرب المشتغلون بالفكر، بين من يعتقد أن تفكيك الإشكاليات الآنية يقتضي “المطابقة” مع الإجراءات التي اتّخذها فلاسفة الغرب، ومن يرى أن تفكيكها لا يمكن أن يمرّ إلا عبر استحضار نموذجنا الحضاري التاريخي، وهذا ما اصطنع المفارقات في الخطاب العام، ليصبح النّشاط الفكريّ رهينة بين “حداثويين” لا يدركون طبيعة مجتمعاتهم وثوابتها، و«سلفويين” لا يهتمون بإكراهات المسار العام للتاريخ ومتغيّراته.
التركيز على المحلي إذن، والإفادة من الغربي وفق قراءة تفسيرية نقدية شاملة، هو ما تجاوز الأساطير التي تلصّقت بالعلاقة بين “الفلسفة وتعريفها”، ووضع حدا للخرافات التي تجعل من “التفلسف” فعلا يشبه “الدّروشة” وينتهي إلى “الجنون”، وهو نفسه كذلك ما بدأ يلقي بثمراته منذ سبعينيات القرن الماضي – على أقل تقدير – على مستوى الكتابة الأدبية والنقدية الإفريقية.
في رحـاب قرنح..
ونعتقد أن أعمال الروائي التنزاني عبد الرزاق قرنح، وهو الحاصل على نوبل الأدب عام 2021، يمكن أن تقدّم صورة ممتازة عما يجمع الأفارقة، ويمكن أن نتمثل هنا بمن يقرأ رواية “قريبا من البحر” من الجزائريين، فيحسّ بأن العمل يلامس شغاف قلبه، ذلك أن قرنح يقدّم مأساة العيش تحت نير الاستعمار الغاشم، تماما مثلما عاشها الجزائري، ويشرح طبيعة العلاقات في مجتمعه حتى يكاد القارئ يراه جزائريا في عاداته وتقاليده وطريقة تعامله، بل إن قرنح أظهر معرفة عميقة بمختلف الأفارقة وهو يسرد تفاصيل وجود شخصيته الرئيسية، رجب شعبان، في الحجز ببريطانيا.. يقول:
«استأنست بآلفونسو وفرحه الفوضويّ، بالإيثيوبيين وصمتهم الهشّ الذي يحصّن وفاقهم السّري.. آنسني الجزائريون بمجاملاتهم المهذبة، وسخرياتهم اللّطيفة فيما بينهم، وهمساتهم التي لا تنتهي.. السّودانيون الجادّون المخيفون (…) لم أحسّ بأنّني على استعداد كي ينقذوني من هذه الحيوات التي لا تكاد تُرى.. “..
وقد يبدو وصف المحجوزين لحظة بسيطة في البنية العامة للرواية، غير أنه غاية في الأهمية لتحليل الواقع المفروض على المهمشين والمقهورين الذين يجدون أنفسهم في مواجهة المصاعب دون ذنب اقترفوه.. وحتى إن لم يستوعب “رجب شعبان” مشاكسات المحجوزين، والجزائريين منهم بصفة خاصة، إلا أن آلفونسو أولى الجميع بثقته، وقدّم أمامهم عروضا كوميدية.. ولعل قرنح أراد أن يوضّح بأن المشكلة في الشخصية الرئيسية نفسها، وألمح إلى أنها مشكلة تواصل.. يقول:
«تزحزحوا جميعا كي يفسحوا لي مكانا أجلس فيه، وهم ينادون عليّ.. صاحبي.. آغا.. الشّيخ.. ميستر.. ما الذي ألقى بك إلى هذه الطريق البعيدة عن الله وعن أقاربك يا حبيبي؟ ألم تكن تعرف أن الجوّ الرّطب والبرد يمكن أن يهشّم من تكون عظامه قديمة كمثل عظامك؟! هذا ما تصوّرت أنهم يقولونه، فلم يكن فيهم من يتكلم الإنجليزية عدا آلفونسو، وآلفونسو لم يكن يبدي كثير اهتمام بمعرفة من يسمعه أو من يفهمه حين يلوّح بيديه وهو يؤدي مشاهده الكوميدية، متجاهلا ما يستفزني..”.
ولا يفوتنا أن نذكر بأن بيان مؤسسة نوبل الذي أعلن عن إجازة أعمال عبد الرزاق قرنح، سجل أن الفائز تحدث عن “الاستعمار” بـ«استبصار” و«دون مساومة”، وإذا كان ما يوصف بـ«الاستبصار” منطقيا في حق كل كاتب نوبلي، فإن الطبيعي في الأديب أنه “لا يساوم”، ولكنه يقيم الحجة على بطلان الفكر الكولونيالي المقيت، ويفضح النظرة الدّونية التي يختص بها الغربي الرجل الإفريقي، وهو ما جسّده قرنح في صورة كيفن إيدلمان، عامل الجمارك بالمطار، فقال على لسانه مخاطبا رجب شعبان:
«ماذا تظن أنّك ستجد هنا؟! دعني أقول لك شيئا.. والديّ جاءا لاجئين من رومانيا، سأحدّثك عنهما إن أتيح لنا متّسع من الوقت، لكنّني أريد أن أقول إنّني أعرف شيئا عمّن يقتلع نفسه من جذوره، ويذهب ليعيش بعيدا.. أعرف صعوبات العيش في الغربة والفقر، فهذا ما عاشه والديّ عندما جاءا إلى هنا.. أعرف كذلك محاسن العيش هنا، ولكن والديّ أوروبيّان، وهما أصحاب حق، إنهما من العائلة”..
الأدب الإفريقي..
كان الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك حازما في كتاب “نقد العقل الكلبي”، حين قال صراحة إن الفكر في أوروبا لم يتمكن من خدمة الإنسان، لأنه اختار الخط الخطأ، فقد تتبع آثار سقراط، بينما سار العالم الواقعي على خطى ديوجين الكلبي، ما تسبب في خلط كبير بين ما تصبو إليه الإنسانية على مستوى الفكر، وما تعيش على مستوى التطبيق، ونعتقد أننا ينبغي أن نتعامل بنفس الحزم مع واقعنا المعيش، فنعود إلى مساءلة “التفكير” و«طبيعته” و«مآلاته”، كي نؤسس للفعل الفلسفي وفق حاجاتنا الاجتماعية، ومشاكلنا والواقعية، وليس وفق الطروحات الغربية؛ ولهذا، نرى أن الحاجة ماسّة إلى ترجمة ذخائر الأعمال الأدبية والنقدية، والدراسات الفكرية الإفريقية، فهي وحدها التي تكفل حوارا بناء، ونقاشا نافعا حول مختلف الإشكاليات التي نواجهها في يومياتنا، بعيدا عن التأثيرات الغربية، والفخاخ التي تعدّها لنا أفكار أنتجتها تراكمات تاريخية لم تعرفها سيرورتنا المنطقية في التاريخ، حتى إن الواحد من “المفكرين” بحاضنتنا صار يبحث عما يمهّد الانتقال إلى “ما بعد الحداثة”، في واقع لم يبرح – في معظمه – آليات التفكير في الحاضنة الشفاهية..
ولقد سبق أن قلنا إن المهام التي حدّدها لالايي كي يضطلع بها الفيلسوف، هي ما يمكن أن يؤسّس فعلا لـ «النشاط الفلسفي» بالحاضنتين الإفريقية والعربية، بل يحدّد له منطلقاته التي لا يجب أن تكون بالضرورة نفس المنطلقات التي يتأسّس عليها بالحاضنة الغربية، بسبب الاختلافات الجذرية في طبيعة المسارين التاريخيين (الإفريقي والغربي)، ما يعني أن أوّل خطوة تقتضي الوعي بهذه الفوارق الجوهرية على جميع المستويات، من أجل طرح الأسئلة التي تتّسق مع الحاجة إلى تجاوز الإشكاليات الواقعية التي يطرحها المحيط المعيش، بعيدا عن التهويم في أسئلة لا تضيف شيئا إلى المجتمع المحلي.