“لدي أكثر من سبعة دواوين شعرية، مخطوطات جاهزة للنشر، لكنني مازلت أتردد في النشر”.. عندما تسمع هذا الكلام من صاحب “ألفية الجزائر”، تقول في نفسك إن ليس من المتسرعين في النشر، وأنه متفرغ الآن للتأليف، بعدما كان منشغلا بالصحافة، التي قتلت فيه الشعر الى حين..
ابراهيم قار علي الشاعر، يقول في هذا الحوار ما لم يقله من قبل، عن كيف جاءته فكرة تأليف ألفية للجزائر، فيها شعر وتاريخ وهوية، وما ارتبط بها من خوف وحذر في “التأليف”، قبل القرض الشعري، وأشياء أخرى نتركها للقارئ يكتشفها وهو يتابع إجابات الشاعر-الصحفي الذي كان يوقع باسمه زمن الإرهاب الأعمى..
الشعب: كيف جاءتك فكرة “ألفية الجزائر”؟
إبراهيم قارعلي: كانت الجزائر على موعد مع الذكرى الستين لعيد الاستقلال والحرية، فوجدت نفسي أتفاعل مع هذه الذكرى المجيدة، فكان المخاض قصيدة طويلة هي أشبه بالمعلقات وكانت تتألف من ستين بيتا من الشعر، وقد أطلقت عليها يومئذ عنوان ستينية الجزائر، وذلك تيمنا بالذكرى الستين للاستقلال، خاصة وأن الرقم ستين يحمل دلالة رمزية، ومن الناحية الشكلية فالقصيدة الستينية كانت تتألف من ستة مقاطع شعرية أو من ست لوحات فنية، وكانت تلك المقاطع الشعرية من الناحية الزمنية تتوقف فقط عند مراحل الثورية التحريرية المباركة والاستقلال الوطني المجيد.
“ألفية الجزائر” مخاض قصيدة طويلة هي أشبه بالمعلقات”
ولم أكن أتوقع ذلك التفاعل والتجاوب مع قصيدة ستينية الجزائر، فلقد كان أشبه بالطوفان سواء من طرف القراء أو من طرف النقاد، في مختلف وسائل الإعلام إذاعية وتلفزيونية وورقية وإلكترونية، وخاصة على مستوى صفحات التواصل الاجتماعي، حتى أن الكثير منهم قد راح ينجز هذه القصيدة الستينية في فيديوهات أو أشرطة مصورة.
ولم يكن يخطر بالبال أن هذه الستينية سوف تتحول إلى ألفية، أي من ستين بيتا إلى ألف بيت وبيت، فلقد طلب مني الكثير من القراء وحتى النقاد والأدباء والشعراء أن أواصل الكتابة الشعرية من أجل أن تتحول الستينية إلى ملحمة شعرية طويلة، وبالفعل فإنني عندما أنهيت كتابة ستينية الجزائر، أحسست أنني مازلت لم أقل كل شيء عن الجزائر بجلالها التاريخي وجمالها الطبيعي، أي كنت أشعر بزخم كبير لم يتفجر بعد، وتبقى الجزائر أكبر منا وأكبر من اللغة، فمهما نكتب من نثر أو من شعر فإننا لم نعطها حقها الذي تستحق.
“لم يكن يخطر بالبال أن هذه الستينية سوف تتحول إلى ألفية، أي من ستين بيتا إلى ألف بيت وبيت”
أعترف بالنسبة إلى أن ألفية الجزائر قد كانت مغامرة محفوفة بالكثير من الخوف والخطر، خاصة وقد كان علي أن أغوص في التاريخ الجزائري من ما قبل التاريخ إلى يومنا المشهود، مرورا بالاحتلال الروماني إلى الفتح العربي الإسلامي، إلى قيام بعض الدويلات في الجزائر وإلى الاحتلال الإسباني والعهد العثماني وقيام الدولة الجزائرية الحديثة، ثم سقوط هذه الدولة الوطنية من طرف الاحتلال الفرنسي، وما تبع ذلك من مقاومة وطنية وشعبية، إضافة إلى المقاومة السياسية مثل الحركة الوطنية والحركة الإصلاحية والتي انتهت إلى الثورة التحريرية المباركة التي تمخض عنها الاستقلال الوطني.
كان لابد لي أن أقف عند كل ذلك، سواء تعلق الأمر بالمعارك والحروب وبالشخصيات العسكرية والثورية والثقافية، مثلما كان علي أن أتوقف عند أهم المدن الجزائرية من حيث الوصف الطبيعي أو ما قدمته للتاريخ.
الشعب: كم استغرقت ألفية الجزائر من الوقت؟.
بكل تأكيد، فإن الوقت أو الزمن عنصر أساسي وإن كنت أرى أن العمل الأدبي أو الإبداعي خارج الزمان وخارج المكان، يعني ذلك أنني لم أكن أكتب تحت الطلب، حتى ولو كانت المناسبة هي التي تفجر فينا العملية الإبداعية، ولقد لاحظ الدكتور محي الدين عميمور الذي كتب مقدمة ألفية الجزائر أنني لم أكتب الألفية بطلب من جهة رسمية ولكنها قد كانت مبادرة فردية.
ألفية الجزائر استغرقت مني ثلاثة أشهر وعشرة أيام أي مائة يوم.
وبالعودة إلى الزمن، فإنني قد انطلقت في كتابة ألفية الجزائر والتي كانت في البداية ستينية الجزائر عشية ذكرى عيد الاستقلال، وكنت أراهن أن أنهيها في ذكرى عيد الثورة أي من الخامس جويلية إلى أول نوفمبر، لتكون هذه الألفية هديتي إلى الجزائر في عيد الثورة، مثلما كانت الستينية هديتي إلى الشعب الجزائر في عيد الاستقلال والحرية.
لكن ولله الحمد فإنني قد أكملت ذلك قبل الوقت المعلوم، أي في السابع من أكتوبر والذي كان يوافق بالتقويم الهجري، ليلة المولد النبوي الشريف، فكان لابد أن أنهي الألفية بمقطع شعري في مدح الرسول الكريم.
وبعملية حسابية فإن ألفية الجزائر قد استغرقت مني ثلاثة أشهر وعشرة أيام أي مائة يوم.
وهنا لابد لي أن أثني على السيد وزير المجاهدين وذوي الحقوق العيد ربيقة الذي استقبلني في مكتبه، وتعهد بطبع الألفية، وذلك ما تم، حيث أنه من النادر أن تجد وزارة ما عدا وزارة الثقافة تطبع الكتب فما بالك إذا ما كان هذا المطبوع ديوان شعري !!!…
الشعب: يبدو أن المعرض الدولي للكتاب في طبعته السادسة والعشرين كان بردا وسلاما على هذه الباكورة الشعرية؟
إبراهيم قارعلي: بالفعل، فإن المعرض الدولي للكتاب مناسبة للكُتَّاب لكي تكون لهم فرصة الالتقاء بالقراء على المباشر، ولكنني أقول أنني من خلال ألفية الجزائر قد التقيت بالقراء وعلى المباشر في الكثير من اللقاء الثقافية، أو من خلال التكريمات الشعبية والرسمية وذلك في مختلف جهات الوطن.
ومهما يكن فإن المعرض الدولي للكتاب قد زاد من رواج ألفية الجزائر مثلما زاد من ترويحها.
وما يؤسفني أن ألفية الجزائر قد كادت تغيب أن تتغيب عن المعرض الدولي للكتاب لأسباب بيروقراطية، لكن لله الحمد فقد تم تجاوز ذلك في آخر لحظة، فكان ذلك بردا وسلاما على إبراهيم.
الشعب: لماذا قمع إبراهيم قارعلي قريحته الشعرية طوال 30 سنة، ظهر فيها الصحفي والكاتب وغاب الشاعر؟.
تكاد تجربتي الشعرية تقترب من الأربعين سنة، أي أنها بدأت تزحف نحو الخمسين أو نصف القرن، والذي يسمى اليوبيل الفضي أو اليوبيل الأدبي، ويا ليتني أبلغ من العمر الأدبي هذا اليوبيل الفضي أو اليوبيل الذهبي، بل اليوبيل الأدبي.
والله تعبير صحيح في هذا السؤال، وهو أنني أكون قد قمعت قريحتي الشعرية، وللأسف هذا ما يكون قد حدث لي بالضبط، ولا أدري كيف حدث لي ذلك.
في البداية، وأنا تلميذ في الثانوية قد كنت أنشر قصائدي الشعرية في مختلف الجرائد الوطنية العريقة وفي مقدمتها عميدة الصحف الجزائرية جريدة “الشعب”، ومن النادر جدا أن ينشر تلميذ في ذلك الوقت كلمة فما بالك إذا ما كانت قصيدة، هذا التلميذ الثانوي ينشر القصائد أمام كبار الشعراء في الوطن.
عندما انتقلت إلى الجامعة وتخرجت في معهد الإعلام والاتصال أو كلية الصحافة، وجدت نفسي صحفيا إلى جانب كبار الصحفيين من أمثال المرحوم الأستاذ بشير حمادي، الذي يعد عميد الصحفيين الجزائريين أو إلى جانب شيخ الصحفيين الجزائريين الأستاذ سعد بوعقبة، والقائمة طويلة جدا، وكان لي الشرف أن أتحول من قارئ لهؤلاء إلى صحفي يكتب إلى جانبهم، ولم يطل الوقت كثيرا أي بعد سنتين أتقلد منصب رئيس التحرير لأكون وقتها أصغر رئيس تحرير في الجرائد الإخبارية اليومية، ولقد حافظت عللا هذا المنصب إلى غاية أن غادرت قاعات التحرير.
وعلى ما أعتقد أن الجريدة تكون قد قتلت فيَّ القصيدة، ومن المعروف أن الصحافة تقتل في الصحفي ذلك المبدع الذي يختفي وراء الصحفي، بل إن المبدع هو الصورة الحقيقية أو الوجه الحقيقي للصحفي.
وربما أيضا أن ظروفي المهنية والتزامي بالمسؤولية جعلني لا أظهر بمظهر الشاعر.
وللتاريخ الأدبي أقول إنني قد كنت خلال هذه الفترة الزمنية أكتب القصائد الشعرية، ولكنني لم أكن أنشرها في الجرائد الوطنية.
وللعلم أو للتذكير أقول لدي أكثر من سبعة دواوين شعرية، وهي مازالت مخطوطات جاهزة للنشر ولكنني مازلت أتردد في النشر.
الشعب: وزراء سابقون يوقعون مؤلفات، ونواب سابقون يتنافسون على من يكتُب أكثر، ويكون حاضرا في الصالون الدولي للكتاب في السنوات الأخيرة، ما تعليقك؟.
إبراهيم قارعلي: إن المعرض الدولي للكتاب هو بمثابة سوق عكاظ وكثيرا ما أصفه بموسم الحج الثقافي خاصة أن معرض الكتاب يأخذ طابعا دوليا.
إن النواب والوزراء يمضون، ولكن الذي يبقى هو ذلك الأثر الذي يتركه هذا الوزير أو ذلك النائب، وما أعظم أن يكون هذا الأثر الخالد من الإنتاج الأدبي أو الفكري أو العلمي أو المعرفي.
لدي أكثر من سبعة دواوين شعرية، وهي مازالت مخطوطات جاهزة للنشر ولكنني مازلت أتردد في النشر
إن صفة الوزير أو النائب تزول ويصبح صاحبها في حكم السابق، ولكن من المستحيل أن تسلب منهما صفة الكاتب، ولكم سرني أن إلتقيت في المعرض الدولي للكتاب الوزير لسابق الكاتب الصحفي الدكتور محيي الدين عميمور، إلى جانب الوزير السابق الشاعر عز الدين ميهوبي يوقعان كتبهما للقراء، وكان لي الشرف الكبير أنني كنت أوقع إلى جانبهما ألفية الجزائر ثاني كتبي المنشورة.
أعتقد أن هذه المنافسة جميلة جدا، أتمنى أن تتحول إلى تقليد ثقافي، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون بعدما كانوا يتنافسون على المناصب الرسمية الزائلة.
الشعب: برأيكم، ما الذي يحتاجه المشهد الثقافي في الجزائر حتى يعود كما كان مبهرا ومستقطبا؟.
أقول بكل أسف أنه من الصعب أن يعود المشهد الثقافي الجزائر إلى عصره الذهبي وخاصة في العهد السبعيني وحتى الثمانيني، ولكن على النخب الثقافية أن تناضل من أجل أن نعود إلى ذلك الانبهار أو إلى ذلك الاستقطاب.
وعلى ما أعتقد أن ازدهار المشهد الثقافي في سابق عهده يعود إلى أننا قد كنا حديثي عهد بالاستقلال والدولة الوطنية المستقلة كانت في بداياتها الأولى، فكان على الجزائر أن ترفع ذلك التحدي، ولعل الجزائر تكون قد نجدت في هذا التحدي لأن المشهد الثقافي قد كان يستند إلى سياسة ثقافية، وعندما صرنا نفتقر إلى هذه السياسة الثقافية وصل المشهد الثقافي الجزائري إلى هذه الردة وهذه الرداءة التي أصبحنا عليها، وعلى الرغم من أن إدارة الشأن الثقافي في مختلف المراحل السياسية تتحمل المسؤولية.
“كنت أوقع مقالاتي الصحفية باسمي الحقيقي في وقت كان فيه الصحفيون يختفون وراء الأسماء المستعارة”
وعلى العكس من ذلك أقول أن المثقف يتحمل جانبا كبيرا في هذا التردي الثقافي، فالمثقف، الكاتب أو الشاعر أو الأديب هو الذي كان يدير الشأن الثقافي على المستوى الوطني أو على المستوى المحلي، ومع ذلك فإنني أرى بصيصا من الأمل قد بدأ يلوح في الأفق إذا عدنا إلى رسم سياسة ثقافية وطنية من شأنها أن تحقق المشروع الثقافي المأمول الذي من شأنه أن يعيد للمشهد الثقافي بريقه مثلما كان من قبل، ولا شك سوف يصبح كذلك من بعد إذا توفرت الإرادة التي تجعل الإدارة في خدمة الثقافة وليس الثقافة في خدمة الإدارة !!!…
الشعب: ما قصة الشيخ إبراهيم قاسم الذي كنت تتخفى وراء اسمه وأنت في بداياتك؟.
عندما كنت تلميذا في الثانوية، كنت في البداية أوقع قصائدي الشعرية بل خربشاتي باسم الأدبي الحاج إبراهيم قاسم وليس ذلك أنني أختفي من وراء اسم مستعار، بل إن ذلك لحاجة في نفسي، وقد بقيت على هذا التوقيع الأدبي، ولكن عندما اقتحمت الصحافة أصبحا أوقع باسمي الحقيقي أو باسم العائلي الذي يعرفني به الجميع، نعم لقد كنت أوقع مقالاتي الصحفية النارية باسمي الحقيقي في الوقت الذي كان فيه الصحفيون يختفون وراء الأسماء المستعارة، بسبب الأوضاع الأمنية المتهورة والمتدهورة في مطلع العشرية الحمراء أو عشرية التسعينيات حيث كانت الأسماء الصحفية تمثل الصيد الإعلامي الثمين للجماعات الإرهابية في ذلك الزمن القاتل !!!..
” المعرض الدولي للكتاب زاد من رواج ألفية الجزائر مثلما زاد من ترويجها”