لم يتردّد الشّاعر الجزائري عبر حقب متعاقبة من تاريخه المعاصر لإبراز تلاحمه وتعاطفه ومعايشته لقلب قضية الأمة العربية والإسلامية فلسطين، أولى القبلتين وثالث الحرمين من خلال خطابه الشعري بكل قيمه التاريخية والاجتماعية والروحية والفنية، التي رصعت حسّه وهاجسه الشعري في لوحات تليق بشهامة المقاومة ضد الجرثومة الإسرائيلية التي ما زالت تعيث فسادا وجرائم يندى لها الجبين.
حضور القضية الفلسطينية في القاموس الشعري للمبدعين الجزائريين على اختلاف مدارسهم واتجاهاتهم الفنية والفكرية ومنازلهم الأدبية، رسم بحق وشائج حميمية وإنسانية من جهة وروحية تتجلى بقيمها الحاملة لجذور الانتماء للدين والعروبة من ناحية أخرى.
هذا التّجاوب الذي أفرزه هؤلاء الشعراء على سبيل الحصر في ذكر حضورهم ومواقفهم، يعكسه الشاعر المدني رحمون البسكري، من خلال تصوير مجازر “دير ياسين” لسنة 1948 التي عرفت أنداك دعم أمريكا لمدلّلتها إسرائيل للتنكيل بأبناء فلسطين، وكأن تكرار المشهد لما يقع حاليا قد جسّده شاعرنا بقوله:
أهل القرية عن أخيرهم مذبوحين نساء وشيوخ عزج وصبيان
هي الصّورة المؤلمة التي تجرّعها أبناء دير ياسين، ويكابدها قاطنو غزة وفلسطين في صمود شامخ، كان قد رصّعه الشاعر بملامح النصر بإذن الله، الذي كان عربون محبته لهذا الشعب حين يهتف قائلا:
النّصر بإذن الله محقّقين ثقتنا بالله بالنّصر والإيمان
فقداسة القضية في قاموس الشعراء محفورة ومضرجة بدماء الشهداء من أطفال فلسطين، الذين يصنعون الاستثناء والبطولة، التي باركها شاعرنا الدكتور محمد صالح باوية حين تصرخ حنجرته الثائرة:
تموت الطّفولة في عزّة فتحيا البطولة لا تُهزم
إلى أن يظهر هذا الإكبار في تناغم عاطفي جياش يزفه سلام معبقا لمن يبرح المهد في قوله:
سلام على الطفل في مهدهم ومن كفه حجر يبصم
هي خلجات الشاعر الملتزم بقضايا أمته ضمن مذهب فني احتضنه الشعراء الجزائريون في قصائدهم ودواوينهم الشعرية، التي تميزت بهذا الالتحام والحب الأبدي، الذي ما زال بكل يد مضرجة يدق بخفقان اللواعج التي يجسدها الشاعر صالح باوية في أيقونة قصيدته رافعا سقف الحب لفلسطين من جهة، والكشف عن جراح دامية مثخنة بالألم، صارخا بضمير الجمع للمتكلم:
فلسطين يا حبّنا وهوانا إلى الله أشكو هو الأعلم
فالحضن الشعوري والذوبان في قضية العالم العربي والإسلامي كان نبع شعراء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذين تغنّوا بالثورة الجزائرية مهد الشجعان والبطولة والفدى، على حد قول محمد العيد آل خليفة:
نحن جند التحرير جند النضال نحن أسد الفدى نمور النزال
دمدم الطبل للنفير فثرنا وهززنا البلاد كالزلزال
هذه الشّحنة التي أرسلها شاعرنا لقوات المستعمر لا تقل قوة وعنفوانا عما اعتقده بنو صهيون بجبروتهم الذي كسرته سواعد صمود المقاومة التي ثارت في وجه المغتر حينما خاطب محمد العيد خليفة العدو:
قل لابن صهيون اغتررت فلا تجر إن ابن يعرب ناهض للثأر
لأن ما يلاحظه شاعرنا وبقية المحبين للسلم والعدل والحرية والانعتاق يعتقدون بالجزم واليقين أن العدو قد داس كل القوانين والقيم الإنسانية، رفض المرور على جسر السلام والاعتراف بالحقوق المشروعة التي ما فتئ يذكر بها الشعب الجزائري أحرار العالم والقوى الأجنبية للجنوح للسلم والاعتراف بحقوق الفلسطينيين، حيث أقرّ محمد العيد آل خليفة حينما خاطب العدو قائلا:
أعرضت عن خطط السّلام موليا فوقعت منها في خطوط النار
هذا المآل الذي تجسده روح المقاومة الفلسطينية دفاعا عن مقدساتها وشعبنا من تخوم غزة وجنين والضفة الغربية وخان يونس..وغيرها من الأراضي المقدسة التي تقصف بالحديد والنار بعدما انكسرت شوكة الجلاد فوق قدسية مهبط الأنبياء فلسطين.
فلسطين..يا مهبط الأنبياء ويا قبلة العرب الثانية
تذكير يريد به شاعرنا جمع الضمير العربي والالتفاف حول قضيتهم المركزية التي لا تقبل التنازل ولا المساومة، بعدما سقطت الأقنعة وتعرت الأنظمة العميلة، التي لم تلق إلا الشجب والتنديد بصوت من مواقف لشعراء آخرين من الجيل المعاصر، من الأصوات الرائعة التي عاشت الزخم وتفاعلت مع القضية بكل لواعجها وأحزانها وآلامها وانتصاراتها عبر صراع مرير حتى عادت الفرحة ناقصة بعد كفاح أليم، ويشير شاعرنا أبو القاسم خمار في إحدى روائعه التي جسدت الشعور بنقص فرحة النصر والاستقلال بعد ثورة مظفرة ضد المستعمر الفرنسي الغاشم سنة 1962، والذي فشل في سياسة التهجير، وهو المشهد نفسه التي تفرضه قوات الاحتلال على ساكني غزة الجريحة التي أعطت درسا في المقاومة والتصدي والصبرّ، والتي برهنت على الحضور الشعوري لخمار حينما صرخ قائلا:
أيّها النّازحون في الليل صبرا إنّ آلامكم ستبدع فجرا
ما فلسطين للعروبة إلاّ أمل يلهب الجوانب جمرا
أي نصر كسبته في بلادي ليس نصرا ما دمت أحمل ثأرا
هذه المواقف وغيرها من تفاعل وتجاوب الشاعر الجزائري مع القضية الفلسطينية، هي في الحقيقة اتجاه ومذهب ينسجم كليا مع مواقف الجزائر التي لم تتحور وتتغير أو التراجع قيد أنملة على عهد قطعه الشهداء والمجاهدون والمثقفون والشعراء والمبدعون والكتاب وأطياف المجتمع والسياسيون على اختلاف مشاربهم وأحزابهم، فلسطين كانت ولا زالت هاجسا لدى الدم الجزائري ذكرا أو أنثى على مر التاريخ. هي عقيدة راسخة في أبجديات الحس الشعري الجزائري، وقيمه الإنسانية والفنية على وجه الخصوص.
و – ي – أعرايبي