شرّح البروفسور محفوظ كاوبي الخبير الاقتصادي، مشروع قانون المالية لعام 2024، وقدم تفصيلا شاملا لأهم نص تشريعي يهندس جميع العمليات المالية خاصة نلك الضابطة للإنفاق الحكومي، وأعطى قراءة معمقة لأهم مؤشرات الاقتصاد الكلي.
وسلط كاوبي الضوء على إجراءات دعم تاريخية لم تسجل من قبل، علما أنها إجراءات ذات طابع اجتماعي وأخرى تهدف لتسهيل وتحفيز الاستثمار، وتحدث بلغة متفائلة عن آفاق سريان قانون المالية مطلع العام المقبل، وأثره على مستقبل الاقتصاد الوطني وتشجيع ترقية المنتوج المحلي وتحسين معيشة الجزائريين، داعيا إلى أهمية الانتقال إلى إصلاحات الجيل الثاني.
الشعب: ما هي قراءتك لأهم ما جاء في مشروع قانون المالية 2024؟
البرفيسور محفوظ كاوبي: إذا أخذنا بعين الاعتبار مجموعة المؤشرات الميكرو اقتصادية التي جاء بها قانون المالية، فإنه يمكن تصنيف مؤشرات الاقتصاد الكلي في خانة “المؤشرات الحسنة”، بعد أن تحسنت خلال الثلاث سنوات الأخيرة، فإذ قارنا بالوضعية التي اتسمت بها في سنة 2019 و2020، والبداية دون شك مع احتياطي الصرف، لأنه شهد منحنى تصاعديا منذ 2020 نتيجة السياسة المنتهجة من طرف الحكومة وبتوجيهات من رئيس الجمهورية، والتي عملت أولا على التحكم في فاتورة الاستيراد وتشجيع عملية التصدير خارج المحروقات، علما أنها تحسنت بشكل ملحوظ، إذ مرت من مستوى أقل من 3 ملايير دولار إلى سقف 5.9 مليار دولار في ظرف 3 سنوات وهذه الخطوة بالغة الأهمية، وزيادة على ذلك، فإن تعافي أسعار المحروقات، أدى إلى زيادة جد محسوسة في المداخيل النفطية بالعملة الصعبة، وهذا أثر أيضا بشكل محسوس في الزيادة في احتياطي الصرف، علما أن رصيد الميزان التجاري تحسن بشكل مهم للغاية، إذ شهدت الفترة الماضية تقلصا واضحا للواردات نتيجة عملية الضبط التي انتهجتها الحكومة، وكان الهدف منها محاربة تضخيم الفواتير وتنظيم السوق والعمل على توفير الموارد من العملة الصعبة، مع وضع حد للنزيف الحاد الذي كان يشهده احتياطي الصرف نتيجة التزايد غير المبرر للواردات.
وبالنسبة لرصيد ميزان المدفوعات، فقد عرف أيضا تحسنا للعديد من العوامل التي تمت الإشارة إليها، بالإضافة إلى التحكم في فاتورة الخدمات التي كانت تشكل عبئا يثقل كاهل الدولة من العملة الصعبة نتيجة العديد من المخالفات التي كانت تلجأ إليها العديد من المؤسسات من أجل التحايل على الأنظمة والقوانين التي كانت تسير عملية الاستيراد في هذا المجال، ومن المؤشرات الأخرى والمهمة لعام 2024، نذكر التحكم في نسبة التضخم التي بقيت في مستوى 9 بالمائة بحسب الإحصائيات والأرقام التي قدمتها الحكومة في ظرف جد صعب، يتسم بواقع تضخمي على مستوى الأسواق العالمية، وأثر بشكل مباشر على التضخم في الجزائر، وعملت الحكومة على التحكم فيه قدر الإمكان، سواء بالعمل على مراجعة سعر الصرف ودعم القدرة الشرائية من جهة، وعلى تنظيم الأسواق والتحكم في سلسلة التوزيع، وهذا أمر مهم للغاية.
ومن المؤشرات التي تكتسي أهمية كبيرة، نشير إلى نسبة النمو، علما أن سقفه في تزايد مستمر خاصة خلال الثلاث سنوات الأخيرة، ومن المفروض أن يدعم ويحافظ عليها في عام 2024، وكذا المحافظة على الديناميكية في الزيادة في النمو، كما أنه يرتقب أن تسجل نسبة نمو 5.6 بالمائة، وهذا ما يبين أن العودة إلى سكة النمو ليست ظرفية بل عودة تدريجية وهيكلية، تندرج ضمن إطار زمني متوسط وبعيد المدى ويعد ذلك أداءً إيجابيا للغاية، ولا يخفى أنه في الوقت الحالي، في نسب النمو المحققة، جزء معتبر يدفعها قطاع المحروقات، غير أن قطاعات أخرى سجلت نسبة نمو مهمة سواء القطاع الفلاحي أو الخدمات أو قطاع الأشغال العمومية والبناء.
وتعمل الحكومة على المحافظة على هذه الديناميكية خاصة من خلال الزيادة في حجم الأغلفة المالية الموجهة للاستثمار من أجل تجسيد برامج مهيكلة مهمة، سواء في قطاع النقل أو البنى التحتية أو القطاعات المرتبطة بالصحة والتعليم وغيرها. وتعتبر قطاعات مهمة للغاية، يضاف إليها قطاع النقل، والهدف ضمان الإطار الذي سيرافق عملية استثمارات هامة في المجال المنجمي والطاقوي، ومن المفروض أن تدخل حيز الاستغلال في السنتين القادمتين، ومن ثم فإن إدراج استثمارات في هذا المجال أولوية.
في ضوء التدابير الاقتصادية التي نص عليها قانون المالية الجديد، من تحفيزات جبائية وتشجيع الاستثمار.. ماذا سيكون أثر ذلك على صعيد تسريع الدورة الاقتصادية؟
من بين مضامين قانون المالية 2024، لم تسجل ضرائب إضافية سواء على المؤسسات أو الأفراد، وبالنسبة للمؤسسات فإنه تم مراجعة الرسم على النشاط المهني بالنسبة للعديد من القطاعات والذي كان مطلبا مهما لمنظمات أرباب العمل، من أجل إعطاء حافز أكبر سواء للمؤسسات أو من أجل تدعيم القدرة الشرائية، والأمر سار بالنسبة للتحفيزات الجبائية للاستثمار، لأن هذه التحفيزات تتمثل في مجموعة من الاعفاءات التي جاءت بها قوانين المالية السابقة وكذا قانون الاستثمار، وبينما الهدف منها يكمن في إعطاء دفع وخلق حالة من الأفضلية بالنسبة للاستثمار، والهدف من ذلك إعطاء ديناميكية أكبر، وتيسير العودة خاصة لسكة الاستثمار في القطاع الخاص، زيادة على الأرصدة المالية التي أضيفت وتقدر بحوالي 1000مليار دينار، بالمقارنة مع عام 2023، علما أن ميزانية الاستثمار ستفوق 3200 مليار دينار، وهذا أمر مهم، ويسجل زيادة 20 بالمائة مقارنة مع السنة الماضية، وكل ذلك يهدف إلى تحقيق مشاريع مهيكلة ويعد مهما للغاية؛ لأنه سيزيد من الطلب العمومي وسينعكس إيجابا على بعث نسبة النمو أكثر في قطاعات مختلفة.. عدم إدراج ضرائب جديدة بالنسبة للمؤسسات يهدف إلى المحافظة على الإطار الجبائي الحالي، وتكريس استقرار أكبر للمنظومة الاقتصادية، والهدف من كل ذلك يكمن في توفير أحسن الظروف وأفضل الأطر لعودة الاستثمار للقطاع الخاص الذي يعتبر قطاعا ديناميكيا سواء في خلق الثروة أو بالنسبة لاستحداث مناصب الشغل.
ما هو تحليلك لما تحقق على مستوى الميزان التجاري، وكيف تصنف مؤشر التضخم؟
بالنسبة للميزان التجاري، أرى أن نتائج سنة 2023، كانت أقل إذا قارناها بعام 2022، لأنه سجل فائضا يفوق 10 ملايير دولار، والرقم المرتقب تسجيله خلال السنة الجارية يناهز 5.6 مليار دولار.. كان تراجعا محسوسا لأسباب مهمة، تتمثل في تراجع أسعار النفط في عام 2023 والمحروقات بصفة عامة إذا قارناها بعام 2022، إذ شهدت عائدات البترول تراجعا يفوق 5 مليار دولار مقارنة بسنة 2022، وإذا أخذنا بعين الاعتبار حجم الواردات للسنة الجارية كانت أكثر من السنة الماضية.. ببساطة الميزان التجاري بقي إيجابيا وسجل فائضا يفوق 5 ملايير دولار، لكن يجب أخذ الأمور بجدية أكبر والأخذ بعين الاعتبار تنافسية الاقتصاد الوطني.
بالنسبة لقانون المالية 2024، أعتقد أن أحسن ما تضمنه، يتمثل في زيادة حجم الأرصدة المالية الموجهة للاستثمار في قطاعات مهمة ومهيكلة، مثل البناء الذي ارتفع غلافه المالي أكثر من 51 بالمائة، فقطاع البنى التحتية يؤثر بطريقة مباشرة على عملية النمو، بينما أهم من ذلك، أذكر استقرار المنظومة الجبائية بعدم سن ضرائب ورسوم جديدة يمكن أن تؤثر على المؤسسات الإنتاجية.
خصّ قانون المالية الجبهة الاجتماعية بدعم غير مسبوق للقدرة الشرائية.. هل هذا يعني أن استقرار الأسعار سيتكرس طيلة العام المقبل؟
افتك الشق الاجتماعي، قسطا كبيرا وسجل جهدا معتبرا وواضحا من طرف الحكومة للمحافظة على الاستقرار الاجتماعي، في ظل محيط عالمي غير مستقر، ولقد حرصت الحكومة على المحافظة على القدرة الشرائية ورفع أجور الفئات ذات الدخل الضعيف، لكن يجب الإشارة إلى أن هذه الإجراءات تتحملها الخزينة العمومية والتي مازال العبء على عاتقها، بما أن المداخيل البترولية، مكنت من تحقيق مداخيل جبائية لا بأس بها في السنة الماضية لكن الأمر ينبغي أن يكون محل عملية تصحيح وتحسين في السنوات القادمة، أي تحسين منظومة الإنفاق العمومي وتحقيق أهداف أحسن وتسيير أفضل والتحكم في موازنة التسيير، لأن المرحلة المقبلة يجب أن تكون مرحلة توجيه الادخار العمومي والمداخيل العمومية، أما الجانب الاستثماري، فيمكن أن يوفر مداخيل جبائية على المدى القصير والمتوسط والبعيد والذي يمكن من تحقيق تصحيح هيكلي حقيقي للمنظومة والأطر الإنتاجية، وفوق ذلك ينبغي أن نقولها بصراحة أنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تحسن من أداء الاقتصاد الوطني وتحسن تنافسيته، وبالتالي، ضمان الاستقرار والتوازن على المدى المتوسط والبعيد، ونتمنى أن تكون السنة المقبلة اقتصادية، بالمرور إلى إرساء الجيل الثاني من الإصلاحات الاقتصادية والتي يجب أن نعمل فيها على ضبط منظومة الاقتصاد الجزئي ومحددات الاستثمار التي ستكمل الحزمة الأولى من الإصلاحات التي ضبطت الإطار التشريعي المؤسساتي وستجنب هذه الأخيرة الجزائر في السنوات القادمة من أي خلل أو عدم التوازنات.