جسدت المخصصات المالية التي تضمنتها محاور قانون المالية لسنة 2024، كأكبر ميزانية منذ الاستقلال قدرت قيمتها ب110 مليار دولار، إستراتيجية رئيس الجمهورية لبناء الجزائر الجديدة، القائمة على العدالة الاجتماعية والحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن الجزائري مع الحرص على تأمين متطلباته الأساسية ودعمها من خلال خفض بعض الرسوم الضريبية وإلغاء بعضها الآخر. كما أخذ القانون بعين الاعتبار الاحتياجات المالية لتجسيد مشروع الرقمنة وبعث قطاع الفلاحة بجميع شعبه من أجل تحقيق الأمن الغذائي للبلاد.
أكد الخبير في الاستراتيجيات الاقتصادية، البروفيسور فريد كورتل خلال اتصال أجرته معه “الشعب”، من خلال قراءته لقانون المالية لسنة 2024 أن الأهداف الاجتماعية والاقتصادية في القانون الجديد لا تختلف عن سابقتيها لسنتي 2021-2022، عدا أن هذا الأخير عزز من التخصيصات المالية لبعض القطاعات الحساسة ذات الصلة المباشرة بالمستوى المعيشي للمواطن والأمن الغذائي للبلاد، وتصب في مجملها، ضمن الالتزامات ال54 لرئيس الجمهورية. مشددا بذلك على ضرورة التوقف عند الأرقام التاريخية التي جاء بها القانون، كأكبر ميزانية في تاريخ الجزائر منذ الاستقلال، حيث رصدت الدولة في الشق المتعلق بالنفقات ما يعادل 110 مليار دولار، بزيادة تقدر ب12 مليار دولار بالنسبة لقانون المالية 2023.
دعم المواد ذات الاستهلاك الواسع
وركز كورتل على الأرقام التي جاءت في قانون المالية 2024، وعلى العناية التي توليها الحكومة للحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن، طبقا لتعليمات رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، رغم الأزمة الاقتصادية العالمية ومخلفات جائحة كورونا التي عجزت أقوى الاقتصادات العالمية عن مواجهتها. مستشهدا بالأرقام التي تضمنها باب التحويلات الاجتماعية من أغلفة مالية معتبرة بلغت 2900 مليار دينار، خصص الجزء الأكبر منها لدعم أسعار المواد الأساسية واسعة الاستهلاك، حيث استفادت الحبوب والزيت والسكر والحليب من دعم قدر ب603.761 مليار دينار. بالمقابل، ارتفعت قيمة الدعم المباشر وغير المباشر إلى ما يعادل 8 آلاف مليار دينار.
وزيادة على ما تبذله الدولة من مجهودات لحماية القدرة الشرائية للمواطن، وتحقيق الاستقرار الاجتماعي – يقول كورتل – تضمن قانون المالية تدابير أوسع ستساهم في تخفيض أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية بصفة خاصة، من خلال إلغاء الرسم على القيمة المضافة المفروضة على البقوليات واللحوم البيضاء المستوردة، إلى جانب تخفيض الرسوم المفروضة على استيراد اللحوم من 30% إلى 5% . وهي جهود – يؤكد كورتل – تدل على مدى التزام رئيس الجمهورية بوعوده تجاه طبقات المجتمع الجزائري الضعيفة والمتوسطة، والعمل دوما من خلال جملة التدابير سواء المستعجلة أو تلك المسطرة على المديين القصير والمتوسط من أجل احتواء جميع المواطنين على اختلاف قدراتهم المعيشية، وطبيعة المشاكل التي تعاني منها كل فئة، بداية من مراجعة جدول الضريبة على الدخل الإجمالي سنة 2022، ومراجعة النقطة الاستدلالية للأجور وتثمين منحة البطالة، ليحمل بعدها قانون المالية لسنة 2024، زيادات أخرى لفائدة مستخدمي الوظيف العمومي، بلغت 590 مليار دج. بهذا تكون نسبة الزيادات التي عرفتها أجور مختلف الطبقات الشغيلة قد تضاعفت ب47 %، عما كانت عليه منذ ثلاث سنوات، وفاء من رئيس الجمهورية بتعهده ببلوغ هذه النسبة مطلع 2024.
وفي الشق المتعلق بامتصاص البطالة واستحداث مناصب الشغل – يواصل المتحدث – فقد تم رصد ميزانية تقدر ب16.83 مليار دج، لتوظيف 37 ألف بطال، موزعة على 5 قطاعات وزارية بمختلف ولايات الوطن، والغربية والجنوبية منها على وجه الخصوص، ويعود النصيب الأوفر منها لقطاع الصحة ودعم المنظومة الصحية ببلادنا، يليها قطاع التربية، ثم قطاعات الفلاحة والتضامن والشؤون الدينية على التوالي.
تعويض الرسم على النشاط المهني لضمان التوازن المالي
بالنسبة للشق الاقتصادي، وتحديدا بما تعلق بدعم الاستثمار والمؤسسات الاقتصادية، أضاف كورتل، فإن قانون المالية لسنة 2024 تضمن عدة مواد تستجيب في مجملها لمطالب المؤسسات الاقتصادية ذات الطابع المهني، فيما يخص إعادة النظر في الرسم على النشاط المهني، كأحد مخلفات الإصلاحات الجبائية التي عرفتها المنظومة الضريبية في الجزائر سنة 1992، والتي طالما اعتبرت حجر عثرة أمام المؤسسات الاقتصادية على اختلاف طبيعة نشاطها، كونه يشكل أعباء تحول وتحقيق الأرباح وتوسيع النشاط، ليتم إلغاؤه نهائيا ابتداء من سنة 2024، كخطوة تؤكد التزام رئيس الجمهورية بدعم الاستثمار بجميع أشكاله، رغم القيمة المعتبرة التي كان يمثلها الرسم على النشاط المهني بالنسبة لإيرادات الجماعات المحلية، حيث يشكل 70% من مداخيلها، تم تعويضها – من أجل ضمان توازن المداخيل المحلية – بالرسم على المنتجات البترولية المقدر ب186 مليار دج مقابل 120 مليار دج كانت تحصل من الرسم على النشاط المهني.
ويرى الخبير الاقتصادي أن الدولة الجزائرية، من خلال قانون المالية 2024، خصصت مبالغ معتبرة لدعم الاستثمار المحلي وتحديدا على مستوى المناطق والولايات التي تحتاج دفعا فيما يخص القطاعات الحيوية كالبنى القاعدية وشبكة الطرقات، كتلك التي تم تخصيصها لإنشاء خط السكة الحديدية بشار-غار جبيلات، الذي سيلعب دورا محوريا في إنشاء رواق اقتصادي بين المنطقتين ونقل إنتاج المنجم بين المصانع ومراكز التحويل، إلى جانب تخصيص مبلغ معتبر لأشغال توسعة ميناء عنابة، تمويل الجزء المتبقي من الطريق العابر للصحراء، والذي يبلغ طوله 145 كلم. كما استفاد قطاع الري بمخصصات مالية لضمان تزويد بعض المناطق بالمياه الصالحة للشرب، نظرا لحاجتها الملحة لها مثل ولاية بشار، سيدي بلعباس ومخصصات مالية لتصفية وتطهير واد الحراش، وإعادة تهيئته.
تجسيد الرقمنة وبعث الفلاحة
من جهة أخرى، قال كورتل إن قانون المالية الجديد تضمن، ولأول مرة، تخصيص أغلفة مالية لتجسيد مشروع الرقمنة، كأحد الالتزامات التي عبر رئيس الجمهورية صراحة، وأشار إلى حتمية تعميمها على مستوى جميع القطاعات، خلال لقاءاته الإعلامية الدورية واجتماعات مجالس الوزراء التي يرأسها، مشددا على أنه لا مجال للتراجع عنها، من أجل تحقيق الشفافية والسرعة في تجسيد المعاملات ومحاربة البيروقراطية والممارسات السلبية التي أضرت بسمعة وأداء الإدارة الجزائرية، خاصة عندما يتعلق الأمر بقطاعات حساسة، كالبنوك، والجمارك والضرائب. إلا أن تجسيد هذا المشروع، حال دونه نقص الموارد المالية واللوجيستية والبشرية، ما اضطر السلطات العمومية إلى تدارك النقائص المسجلة على المستوى الوطني المتعلق بالرقمنة، من خلال رصد أغلفة مالية ضمن قانون المالية 2024، لتسريع تعميم الرقمنة على المستوى الوطني.