يرى أهل الاختصاص أنّ الخطاب المسرحي يشكل عنصرا فنيا مهما في المسرح، حيث على الكاتب أو المؤلف المسرحي استعمال اللغة الأنجع لتبليغ رسائله والكتابة بلغة فصيحة سليمة.
يُؤكّد هؤلاء أنّ مسألة اختيار الكتابة باللغة العربية الفصحى من دون العامية، أو العكس لنجاح العرض المسرحي، مرتبط في الأساس بطبيعة الجمهور المعني بالعرض أو المتلقي، وكذا الموضوع الذي يعالجه مضمون نص المسرحية، فالمسرحيات التي تعتمد في كتابتها على اللغة العربية الفصحى، غالبا ما تتميز بجمهور نخبوي ومحدود، حسب ما يرى فنانون ومؤلفون أسهموا في تفكيك سؤال “الشعب”..
اللغة.. همـزة وصل بين المـسرح والجمهور
المسرح فضاء للتعبير الفنّي، والتبادل الفكري، والروابط العميقة. ومن أجل الإلمام بجوهر المسرح ورسالته، وجب التفكير بعناية في اللغة المستخدمة. نحاول في هذا المقال استكشاف أهمية اختيار اللغة في الكتابة والأداء المسرحييْن، ولفهم أفضل، نسلط الضوء على مجموعة مفاهيم ترتبط جميعا، بشكل أو بآخر، بهذا الموضوع، نذكر منها “الخطاب المسرحي”، “سوسيولوجيا الجمهور”، “العلاقة المسرحية”، “التلقي”، “الاتصال”، “التأويل”، “الإدراك”، وغيرها من المفاهيم ذات الصلة.
يمكن أن يكون التعريف الأدنى للمسرح موجودا بالكامل ضمن ما يحصل بين المشاهد والممثل، وكل الأشياء الأخرى هي إضافية كما يقول غروتوفسكي في تعريفه لـ«المسرح الفقير”. وهكذا، فإنّ هذه العلاقة، المبنية بين المرسل (الممثل)، والمستقبل (الجمهور)، تعتبر محور الرسالة المسرحية. وتلعب اللغة دورًا رئيسا في عالم التعبير المسرحي، وعلى أساسها يبنى الخطاب المسرحي.
الخطاب المسرحي
اهتمت دراسات بالخطاب، وعلى الأخصّ بالحوار في الأدب والمسرح مقارنة مع الحياة العادية، من خلال طرح الاختلاف بينهما. وقد بينت هذه الدراسات أنّ خصوصية الخطاب في المسرح تكمن في كونه مقتصدا ودلاليا؛ لأنّه لا مجال للثرثرة والاعتباطية في المسرح. كما استندت الدراسات الحديثة إلى “نظرية التواصل”، مبينة أنّ خصوصية الخطاب المسرحي تكمن في كونه قولا مزدوجا يخلق عمليتي تواصل تتداخلان فيما بينهما: صاحب الخطاب المركزي في النص هو الكاتب، والحوار هو عملية تواصل قائمة بحدّ ذاتها بين شخصيات المسرحية، لكنها تتموضع أيضا ضمن عملية تواصل أشمل بين مرسل هو الكاتب في النص والمخرج في العرض، وبين معلق هو القارئ في النص والمتفرج في العرض. ومع أنّ صاحب الخطاب في الحوار هو الشخصية المتكلمة، إلا أنّ الشخصية تظل وسيطا، لأنّ صاحب الخطاب الفعلي هو الكاتب أو من يقوم على العمل.
ويحافظ النص على طبيعته اللغوية ويتحول إلى كلام منطوق خلال العرض، فإنّ الخطاب في المسرح يمكن أن يكون حركيا بحتا حين يتم الاستغناء عن الكلام وتعويضه بالحركة، وهذا ما نجده في الإيماء، بل إنّ الصمت من أشكال الخطاب المسرحي فعل دلالي. كما أنّ المتفرج يلعب دورا في تفسير الحوار حسب استقباله للخطاب.
سوسيولوجيا المسرح والجمهور
تبنى الكتابة المسرحية على تصور مسبق لجمهور محدّد، له مواصفات عامة معروفة سلفا، مثل الوضع الثقافي، والمعرفة بالمسرح، واللغة التي يفهمها، والذائقة العامة، وأفق التوقع، وأحيانا نوعية الأعراف المسرحية التي تتعلق بشكل التلقي.
ولفهم الجمهور أكثر ظهرت “سوسيولوجيا المسرح” وهي جزء من سوسيولوجيا الفنّ، وتهتم بدراسة المسرح ودوره من الناحية الاجتماعية. ومن مجالاتها البحثية نذكر دراسة الوظائف الاجتماعية للمسرح (الترفيه، التثقيف…)، وبالأخص “سوسيولوجيا الاستقبال في المسرح” وهي مجال يشمل دراسة الجمهور كمجموعة بشرية والمتفرج الفرد ضمن هذه المجموعة.
ونجد فرعا في هذا المجال يركز على دراسة الجمهور بالاستبيان والإحصاء، من حيث تكوين الجمهور (مثل معدل العمر والوضع الاجتماعي) ونسبة حضوره وذوقه ودوافعه وأفق التوقع لديه واستقباله للعمل.
وتتخطى دراسة آلية استقبال المتفرج للعمل المسرحي مستوى الحقائق الأولية والعامة التي تقدمها الاستبيانات التي تتعامل مع الجمهور كمجموعة رقمية، وتنتقل من مفهوم الجمهور ككيان اجتماعي إلى مفهوم المتفرج كعنصر مستقل. وهذا النوع من البحث يدمج بين مختلف مناهج البحث الحديثة، ويدرس العلاقة بين المتفرج والعمل ضمن آلية تواصل معينة تفرضها طبيعة العمل المسرحي وبناؤه ووضع المتفرج وإمكانياته وظروف استقباله للعمل المسرحي… وبالتالي فإنّ هذا النوع من البحث يركز في آن واحد، ضمن ما سمّي “العلاقة المسرحية”، على الاستراتيجية الإنتاجية والدلالية للعمل، وعلى استراتيجية استقباله من قبل المتفرج.
«العلاقة المسرحية” وآليات التلقي
يعتبر الشكلانيون الروس أول من طرح فكرة وجود عناصر ضمن العمل الفنّي تعتبر إشارات موجّهة للمتلقي، ولها دور التأكيد على الصنعة الأدبية وشكل إنتاج العمل. وقد اعتبر هؤلاء أنّ تأثير هذه الإشارات على المتلقي هو بداية للعملية الدلالية في التلقي، لأنّها تأتي بشكل واع ومقصود من قبل المرسل، وتنبه المستقبل. ويعتبر المسرحي الألماني برتولت بريشت، أول من لفت النظر إلى دور المتفرج، بل واعتبر المسرح “فنّ المتفرج”.
انطلقت الدراسات الحديثة من كلّ هذه المفاهيم وربطتها بما قدمته نظرية التواصل من آفاق جديدة لعلاقة التلقي، فدرست الاستقبال كعلاقة بين المتفرج والمادة المسرحية، أيّ العالم المصور فيها، وبين المتفرج ومرجع والواقع، وهذا ما أطلق عليه اسم “العلاقة المسرحية”.
وضمن هذا المنظور، درست آلية الاستقبال كعملية خلاقة بحدّ ذاتها؛ لأنها تشمل التلقي وعملية تركيب المعنى. كما طرحت العلاقة بين الإنتاج والاستقبال كعلاقة تأثير متبادل لها طابع جدلي، فمعد العمل المسرحي يأخذ بعين الاعتبار المتفرج الذي يتوجه إليه، وقدرته على تركيب المعنى، ويختار له نوعية التأثير الملائمة، وهذا ما يسمى “استراتيجية العمل”. من جهة أخرى، فإنّ المتفرج بدوره يستقبل العرض من خلال تكوينه الخاص، ويجد لنفسه موقعا أو علاقة ما تربطه بالنص أو بالعرض، وعملية التلقي هذه أو تأويل النص تشكل ما يطلق عليه اسم “القراءة”.
أما مفهوم الاستقبال فهو حديث نسبيا في الخطاب النقدي المسرحي، وقد استخدمه المنظرون الأنغلوساكسون في المجال اللغوي والإعلامي أولا، ثم استعمل في المجال المسرحي فيما بعد مع انفتاح العلوم النقدية على بعضها. ودراسة الاستقبال في المسرح كآلية، تعنى بالعمل التفسيري الذي يقوم به المتفرج کفرد.
وممّا يدل عليه هذا المفهوم، الفعل الذي يمارسه المتفرج الفرد كإنسان له مكوناته النفسية والذهنية والانفعالية والاجتماعية لتفسير ما يقدم إليه في العرض المسرحي، وعملية الاستقبال بهذا المعنى تضمن عمليات متعددة يدخل فيها الإحساس والإدراك والحكم أو بناء المعنى والذاكرة. كما يهتم بصياغة العمل المسرحي نفسه على اعتبار أنّ مسار بناء العمل وطابعه وأسلوب بثه واحتمالات المعنى التي ينفتح عليها، أمر يؤثر في نوعية الاستقبال. ومن الجليّ دور اللغة في هذا السياق.
وقد نتج هذا المفهوم عن الانفتاح على ما هو خارج النص، أيّ الواقع، وما هو بعد النص، أيّ البعد التفسيري والتأويلي في عملية التلقي.
وفي المسرح بالذات، يكون “الإدراك” المرحلة الأولى في عملية الاستقبال. كما نجد مفهوم “التواصل” أو “الاتصال”، الذي يعني عملية تبادل معلومة تشكل الرسالة بين المرسل والمستقبل. وفي المسرح، لا يوجد رمز واحد بل رموز متعددة، منها اللغوية، والحركية، والصوتية، واللونية، والاجتماعية والثقافية، بل وحتى رموز المكان المسرحي. وتتوقف القدرة على تفكيك الرسالة وتركيبها، وبالتالي فهم الرسالة لتحقيق التواصل، تتوقف على معرفة هذه الرموز.
الخيارات اللغوية.. المزايا والقيود
يعتبر النقاش حول فعالية اللغة المختارة في المسرح، الأكاديمية أو الفصحى من جهة، والعامية أو “الدارجة” من جهة أخرى، معقدا ومتعدّد الأوجه.
تتمتع اللغة الفصحى، أو الأكاديمية، التي تتميز بطبيعتها المصقولة والمثقفة، بمزايا معينة عند استخدامها في الإنتاج المسرحي. بدايةً، يمكن أن يؤدي استخدام هذه اللغة إلى تعزيز العمق الفكري للأداء، ما يسمح بتوصيل الأفكار المعقدة والمواضيع الدقيقة بشكل فعال. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تضفي هذه اللغة شرعية على العمل الفني، ما يجعلها جذابة لرواد المسرح الباحثين عن تجارب محفزة فكريًا. ومع ذلك، فإنّ العيب المحتمل لهذه اللغة قد يكون تنفير بعض أفراد الجمهور، الذين قد يجدون اللغة غير قابلة للوصول، أو حتى “مدّعية”. وبالتالي، وجب على الكتاب المسرحيين والمخرجين تحقيق توازن دقيق بين أشكال اللغة المستعملة.
على عكس اللغة الفصحى أو الأكاديمية، تحتضن “الدارجة” الجوانب الخام والعامية للتواصل، وتقدم مجموعة من المزايا الخاصة بها في الإنتاج المسرحي. ويمكن لأصالة لغة الشارع وقابليتها للتواصل، أن تنشئ اتصالاً فوريًا مع الجماهير، ما يتيح تجربة عميقة وعاطفية. علاوة على ذلك، فإنّ “الدّارجة” تجسد جوهر السياقات الاجتماعية المعاصرة، وتكون بمثابة انعكاس للتنوّع الثقافي. ومع ذلك، فإنّ الطبيعة غير الرسمية لهذه اللغة قد تعيق نقل الأفكار أو المفاهيم المعقدة، أو الأشكال الفنية المتخصّصة. ولذلك، ينبغي أن يكون دمجها متوازنا بعناية حتى لا نغفل الإمكانات الفكرية التي يمكن أن يقدّمها المسرح.
ولا ننسى أنّ اختيار اللغة في المسرح يعتمد بدوره على عوامل سياقية مختلفة. يؤثر نوع المسرحية ومحتواها، بالإضافة إلى الجمهور المستهدف، بشكل كبير على الأسلوب اللغوي الأكثر ملاءمة. على سبيل المثال، قد تتناسب الأعمال الأدبية الكلاسيكية أو الأعمال الدرامية التاريخية بشكل طبيعي مع شكليات اللغة الأكاديمية، في حين أنّ الإنتاجات المعاصرة أو التي تدور حول موضوع الشارع قد تتطلب نهجًا أكثر عامية وارتباطًا. علاوة على ذلك، يجب مراعاة الخلفية الثقافية والاجتماعية للجمهور المستهدف للتواصل بشكل فعال مع أحاسيسهم ومعتقداتهم وتفضيلاتهم اللغوية.
في الختام، يكشف تقييم مزايا كل نمط لغوي أنّ اللغة الأكاديمية تزيد من العمق الفكري، ولكنها تخاطر بالعزلة، في حين أنّ الدارجة تساعد على ترسيخ الأصالة وقابلية الارتباط، ولكنها قد تواجه صعوبة في نقل الفروق الدقيقة. ومع ذلك، فإنّ اتباع نهج حريص ودقيق أمر بالغ الأهمية، مع الأخذ في الاعتبار النوع والمحتوى والجمهور والسياق الثقافي للإنتاج المسرحي. ومن خلال الدمج الحكيم لعناصر كلا الأسلوبين، يمكن للكتاب والمخرجين المسرحيين تسخير اللغة كأداة قويّة لإشراك الجماهير وإلهامها، وتحقيق إمكانات التعبير والتأثير الكاملة للمسرح.
أسامة افراح
الكتابـة بالفصحى.. ضمانة تسويـــــق الأعمال المسرحية
كشف المخرج والكاتب المسرحي دريس بن حديد عن وجود مجموعة من الإشكالات تعترض الكتابة المسرحية في الجزائر، وتمنع الكتّاب عن الإبداع والتحرك بحريّة في مجال النصوص المسرحية، وأشار بن حديد إلى عائق غياب التكوين الأكاديمي الاحترافي الذي أنتج لنا كتاباً لا يميزون بين أجناس النصوص.
وقال بن حديد في حديثه لـ«الشعب”، إنّ كثيرا من ورشات الكتابة لا تعطي للنص حقّه، ولا تصل إلى المستوى المعرفي المطلوب في هذا الحقل، مشيرا إلى أنّ كثيرا من المهرجانات تُخصّص للكتابة ورشة منفردة لا تتعدى مدتها 05 أيام، وهو أمر يراه مجحفاً في حق الكتابة التي ينبغي أن تصل مدة التكوين فيها إلى 10 أيام على الأقل، حتى يعرف المتكوّن معنى الاختزال في الشخصيات، والإلمام بأبجديات الكتابة المسرحية، من فكرة فعنوان ثم الصراع والعقدة وغيرها.
وعرّج بن حديد للحديث عن لغة المسرح بين إرهاصات الكتابة و«جشع” المتلقي الجزائري الذي أصبح “ذواقاً للمسرح”، ويتلقى بصدر رحب وفهم كبير لأيّ عمل مسرحي يُعرض أمامه، مع الأخذ بعين الاعتبار الفروقات الاجتماعية لهذا المتلقّي وتباين مستواه الثقافي، وقال إنّ اللغة عنصر مهم، بل تعدُّ من أهم العناصر في الكتابة المسرحية، وهي تأخذ شكلين أساسيين، إما دارجة أو عربية فصحى، وكلاهما ينقسمان على خشبة المسرح إلى أقسام أخرى متعدّدة، لكلّ منها مجاله ووظيفته.
المتحدث وهو يعدّد تقسيمات اللغة على الركح ومجالاتها، أشار إلى وجود ما يسمى باللغة الثالثة أو اللغة البيضاء، وهي قراءة النص العربي بلسانٍ دارج، وهو أمر شائع في المسرحيات الثورية والملحمية، إلى جانب المسرح الملتزم الذي يقدَّم بمنطوق اللهجة الدارجة المهذّبة.
وواصل بن حديد القول إنّ اللغة العربية الفصحى في المسرح تختص بالنخبة، فهي لغة عميقة في مفرداتها ونطقها، واصفاً إياها باللغة التي يكثر فيها العبث والصمت بأنواعه، القصير، المتوسط والطويل، إلى جانب الصمت الحَرَكي والتعبيري.
وأشار بن حديد إلى أنّ اللغة من أهم عناصر العرض المسرحي، ولكنها بدرجة أقل في العناصر الكتابية، لأنّ اللغة في المسرح لا تكتمل إلا بوجود عناصر الصورة، التمثيل، الاكسسوار، الديكور والملابس، بدليل أننا قد نشاهد مسرحيات غربية لا نفهم لغتها، ولكننا نستطيع فهم العرض والفكرة العامة من المسرحية والرسائل المراد توجيهها، بمجرد التركيز على العناصر الأخرى للعمل المسرحي، وبالتالي – يضيف بن حديد- فإنّ عائق اللغة في مرحلة العرض غير موجود، بل نجده في الكتابة المسرحية، مؤكداً على ضرورة التفرقة بين لغة الكتابة ولغة العرض رغم أنهما العنصر نفسه.
وأشار المتحدّث إلى إمكانية الوقوع في إشكالية فهم عند إنتاج مسرحية باللهجة الدارجة، خاصة لدى المتلقّين بالمشرق العربي الذين “يدّعون” عدم فهم اللهجات الدارجة في الجزائر، وبالتالي، يضطر الكتّاب إلى إنتاج مسرحيات باللغة العربية الفصحى حتى يتم قبولها في المهرجانات العربية، لضرورة تسويق العرض ما بعد الدراما.
وعاد بن حديد للحديث عن طابوهات الكتابة المسرحية في الجزائر وإرهاصات اللغة المسرحية، مؤكداً بأنّها مجموعة عقبات تقف حاجزاً أمام الكاتب لا المتلقّي، ناهيك عن غياب التكوين، بدليل وجود نصوص مكتوبة لكتّاب برعوا في مجال الكتابة، ولكن بقيت نصوصهم صالحة للقراءة لا للعرض، بسبب عدم مقدرتهم على التمييز بين أجناس الكتابة.
علي عويش