ماذا عساني أقول في أمّ الجرائد الوطنيّة الجزائريّة باللّغة العربيّة “جريدة الشّعب”، وماذا عساني أُفيد القرّاء في الحديث عن جريدة الفقراء، عن جريدة وطنيّة بخطّ نضاليّ مُستمِرّ لا تحيد عن الثّوابت التي رسّختها ثورة نوفمْبر 1954م، ماذا عساني أقول، ونحن نعيش لحظات الفرحة في إحياء العيد الواحد والسّتين «61» مِن تأسيس جريدة “الشّعب” بمُناسبة ذكرى الانتفاضة الشّعبيّة ضد المُستخرب الفرنسيّ في 11 ديسمبر 1960م. وتتأسّس الجريدة بعد الاستقلال بخمْسة أشهر فقط.
جريدة «الشّعب» التي وَلَدَتْ مِن رحْم الثّورة التّحريريّة، لتعطي للجزائر صورتها الوطنيّة بلغتها الوطنيّة، تجسيداً لمَقولة الشّيوخ “الجزائر وطننا والعربيّة لغتنا، والإسلام ديننا” وتطبيقاً للمَرجِعيات الوطنيّة التّاريخيّة والنّضاليّة، ومُختلف نصوص الانتفاضات والمُقاومات، وبيان أوّل نوفمَبر، في أنّ العربيّة اللّغة الرّسمِيّة. وهكذا جاء ميلاد جريدة «الشّعب» في غمْرة فرحة الشّعب الجزائريّ باسترجاع السّيادة الوطنيّة لتلبّي رغبات القرّاء باللّغة العربيّة وايصال رسالة الجزائر إلى العالم العربي أولاً؛ كونها ناطقة بالعربيّة، وإلى العالم المُتشوّق إلى مَعرفة المَزيد مِن الأخبار عن الجزائر. هذا البلد العظيم «الجزائر» الذي صنعَ شعبُه المُعجزةَ عندما فجّر أعظم ثورة تحرّريّة في التّاريخ المُعاصر، وكُلّلت بطرد المُستدمِر الفرنسيّ بعد 132 سنة مِن الاحتلال والاستحلال. وإنّ ميلاد جريدة «الشّعب» يعني ميلاد الوطن في ثورته المَجيدة التي حمَلت مَبادئ الاستمْراريّة المُتجدّدة التي تُعلي المَقام، وترفع الهامات بالمُرام، وباستعمال العربيّة لغة الشّعب والانتماء، واللّغة الجامِعة التي انطلقت فيها الجزائر مِن العدم؛ ولكنّها حقّقت النّشر، وتعميم الاستعمال بالقوّة النّاعمَة التي كانت جريدة «الشّعب» سطّرتها خريطة التّعميم.
واحد وستّون «61» سنة مِن الاستمْراريّة المُتجدّدة، بما عرفته مِن وسيط ورقيّ عبر الآلة البرازيليّة العتيقة، وما تلاحقت عليها من رونيو وتصوير، ومِن مَلاحق ثقافيّة ومِن ثمّ إلكترونيّة، وعبر مسايرة مُختلف وسائل التّواصل الاجتماعيّ نرى جريدة «الشّعب» تعيش الأحداث بمُختلف تقنياتها المُعاصرة، وتنال ثقّة قرائها في مَزيد مِن الطّبع عبر مُختلف هذه الوسائل. واحد وستّون سنة من الوقوف مع المَرجعيات ومُتعلّقات الوطنيات رغم ما كان يتلوها مِن المُضايقات، وصعوبة اللّحاق بالنّدّيات، وزلازل الإعلام الذي يأتي على دحر كلّ الجرائد التي لا تمْلك الوسائل التي لا تتماهى مَع العولمَة، ومَع ذلك بقيت جريدة «الشّعب» واقفةً تصدُّ الصّدمات، وانتصرت رغم الصّعوبات.
هي جريدتنا الغرّاء «الشّعب» التي تربّينا فيها مُنذ نهاية السّتينيات، وكنّا نشتريها بقيمَة لا تُذكر، ونتبادلها في ما بيننا لقلّة الأعداد التي تصل إلى الحوانيت، ونقرأ بلهف تلك الأعمِدة العلمِيّة والثّقافيّة، وما يعمَل على تغذيّة رصيدنا المَعرفيّ مِن مِثل: «قُلْ ولا تقُلْ» ونمْلأ خانات «الكلمات المُتقاطِعة» وكانت لنا مُتابعات دائمَة للمَلاحق الثّقافيّة؛والتي أكسبتنا اللّغةَ العربيّةَ في أعلى تجلّياتها. هي جريدتنا الأولى التي عشقناها بالجدارة وهي أهل لها؛ لخطّها الوطنيّ الذي زرعته فينا نحن جيلَ السّتينات والسّبعينات، وكنّا تلاميذ وطلاباً مِطواعين لكلّ ما نقرأ، والحمَد لله تنامَت مَعلوماتُنا الوطنيّة على خطّ نوفمْبر المَجد، نوفمْبر التّاريخ، وأنْعِمْ بها مِن جريدة غرّاء..
لا نمْلك الحقيقة في التّنويه بما قامَت به جريدة «الشّعب» إلاّ الرّجوع إلى أقوال صانعيها، وإلى مُسيّريها الأوائل الذين تركوا الأثر، مِن 11 ديسمْبر 1962م، التي أحيَت حدث الانتفاضة الشّعبيّة الثّانيّة التي انطلقت في 11 ديسمْبر 1960م. وما يشهد على ذلك كلام الصّدارة لأمّ الجرائد العربيّة:
«… وإذا كنّا اليوم نسترجع ذكريات ذلك اليوم الخالد، ونعيش جوّ الانتفاضة الشّعبيّة الجبّارة، التي كانت مَعركة مِن مَعاركنا الحاسمَة، ساهمَت بقدر كبير في التّعجيل بالانتصار الذي أحرزناه على قوى الاستعمار، فإنّ أحسنَ ما يُمْكن أن نقوم به إزاء أرواح شهدائنا الذين دفعوا حياتهم ثمَناً لحياة الجزائر، هو أن نجعل مِن شعار الجزائر عربيّة، الذي كانوا يهتفون به، حقيقة واقعيّة، حقيقة حيّة كما كانت دائماً”.
هي الافتتاحيّة الأولى هي التّاريخ، هي خريطة المَسار الذي رسمَته جريدة «الشّعب» وهي تُعلي مَقام العربيّة؛ باعتبارها لغة الجميع مِن أجل إرساء قواعد الجمْهوريّة الجزائريّة الدّيمقراطيّة الشّعبيّة. هكذا كان ميلاد جريدة «الشّعب» وهي تحبو وتكبر في خدمَة مُختلف شرائح المُجتمَع. إنّها الصّحيفة الأولى بالعربيّة تُجسِّد مَبادئ العمَل الثّوريّ الأصيل وتمُسّ المُواطنة اللّغويّة التي تُمَكّن الجزائريين مِن مُمارسة حقّه اللّغويّ في الاطلاع على واقعهم وبلغتهم. ولذا على الأخبار أن تكون أساس نقْل الواقع للقارئ، والعمَل على تطوير لغته الإعلامِيّة، وإسهامِه في المَجالات التي تقوم الجريدة بتفعيلها مِن شرح مَبادئ الثّورة، والارتفاع بمُستوى الوعي الثّقافيّ والسّياسيّ لدى القرّاء، وكذلك لدى كلّ الجزائريين.
إنّها مَرحلة التّأسيس وهي أصعب بداية، ولكنّها بداية جيّدة ومُوّفقة، حيث كان المُنطلق سياسياً، وباقتناع ثوريّ، وبغرض شعبيّ مُلحّ، مَلمَحُه توجيه الجزائريين لمَعركة البناء، وتصحيح الأوضاع التي دمَّرها الاستخراب الفرنسيّ، وليس سهلاً مُعالجة ذلك إلاّ بإسهام الشّعب الجزائريّ، عن طريق جريدته «الشّعب» وما يتبع ذلك مِن مُستلزمات مَرحلة التّعريب مِن أجل بناء قواعد الاشتراكيّة والدّيمُقراطيّة الشّعبيّة. وهنا تظهر جريدة «الشّعب» ناطقةً باسم الوضع السّياسيّ آنذاك، وتمْضي في خطّ الجهاد الأصغر، وتتحمَّل كلّ التّبعات الإعلامِيّة مِن أجل تجسيد الخطّ الثّوريّ المَرسوم من قبل القيادة السّياسيّة آنذاك.
إنّها البداية الصّعبة، وهي مَعركة صعبة كذلك؛ مَعركة مُنافسة للإعلام الفرنسيّ، ولكن الرّغبة والتّجنيد خلقَت المُعجزة في صناعة تطوير جريدة «الشّعب» التي استجابت للتّغيير بما جُنِّد لها مِن أرمادة الإمْكانيات البشريّة والأدبيّة والماديّة الهائلة،وتتمَثّل في توفير عددٍ كافٍ مِن المُحرّرين الذين يتمَتّعون بخبرة في الفنّ الصّحافيّ، وفي توفير وتسيير الأجهزة والآلات الضّروريّة، والمُهمّ كان هناك الحدّ الأدنى، مَع ما صاحبَ ذلك مِن الحزْم والرّغبة والحبّ على استكمال السّيادة الإعلامِيّة باللّغة الوطنيّة، وبروحٍ نضاليّةٍ لسدّ جميع النّقائص، وحصلت الطّفرةُ النّوعيّةُ في إعلامِنا بجريدة «الشّعب» التي أصبحتْ مَرجعيّةً وطنيّةً مُحافظةً على الثّوابت. هي مَعركة ومَرحلة ناجحة أرستْها جريدة «الشّعب» مَع ما عرفتها هذه المَرحلة مِن انتصارات ومِن انكسارات، ولكنّها كانت عبرة لمُختلف التّحسينات التي أبقت الجريدةَ في خطّها الذي عُرفت به، وهي تنال الشّهرة في الدّاخل وفي الخارج، وكانت الصّحيفة الأكثر شُهرةً عندنا، بما لها مِن مَسيرة النّجاح الباهر لصمودها أمام الكثير مِن الهزّات. صمودها بصمود أهلها الإعلامِيين الذين نرفع لهم القبعات الزُّرق لنجاحهم في مُواصلة تثبيت الخطّ الوطنيّ ذي المَرجعيات النّوفمْبريّة التّحرّريّة، فلكم مِنّي كلّ الشّكر لمَن بقيَ على قيْد الحياة، ولمَن هم رموس عند ربّهم يُرزقون.
إنّها اسمٌ على مُسمّى «الشّعب» هي مَنبر إعلامِيّ شعبيّ ناطق بأداء الخدمَة الإعلامِيّة العمومِيّة، خدمَة المُواطن في مَساره وآماله ومُستقبله وتطلّعاته وقضاياه الوطنيّة والعالمِيّة، خدمَة المُواطن في سلوكه الحضاريّ في لغته وحدوده الجغرافيّة، وفي انتصاراته للحقوق مَهما كانت، وفي وقوفه بجانب المَحرومين والمَظلومين في مُختلف القارات. إنّها مَدرسة الشّعب التي تُواصل رسالتَها الإعلامِيّةَ بخطوات واثقة، وبمَوضوعيّة بشعار «الخبر مُقدّس والتّعليق حُرّ». إنّها جريدة الوطن التي نُقدّس فيها إيمانها بخدمَة إعلامِيّة للوطن، والحفاظ عليه مَهما اختلفت مَنهجياتنا.
ومِن هنا لا يمْكن لنا الاستفاضة في الحديث عن تلك المَسارات التي عرفتها هذه الجريدة، وهي مُهمّة جداً، ونحن نوثّق لأوّل جريدة في دولة الاستقلال، وسوف يُحاسبنا الجيل القادم إذا لم نترك له الوثيقة الإعلامِيّة الحقيقيّة التي يُرافع بها أمام الإعلامِيين؛ بأنّ لنا إعلاماً وطنياً سجّل انتصاراتٍ كبيراتٍ، وعاش هذه المَرحلة بما لها مِن تغيّرات. والمُهمّ ألا نترك الأمور سبهللاً تخضع للتّأويل بعد ذلك ومِن ثمّ يكتب علينا التّاريخ أنّنا لم نكنْ في مُستوى ثورتنا المَجيدة؛ حيث تركنا إعلامَنا في يدّ المُغرضين ونعلم أهمِيّة الإعلام حالياً، وما يصنعه مِن تدوير وتثوير وتوجيه وانحياز وفي يده السّلطة الرّابعة، والآن مَع وسائل التّواصل الحديث يمْلك السّلطة الخامِسة في: الفسبكة والتّوترة والأنستغرام وتيك توك ونَبَض والتّلغرام، وفي مُختلف الوسائل التي تعمَل على توجيه الشّباب.
أترك الكلام المُباح لأخٍ إعلاميّ مُجاهد عاصَرَ نشوء جريدة «الشّعب» إطار بالمَجلس الأعلى للّغة العربيّة «حَسَن بَهْلول» وهو يروي تلك المَرحلة الفذّة إلى هذه الفترة، ويقول: لقد حمّلني الدّكتور الأستاذ «صالح بلعيد» رئيس المَجلس الأعلى للّغة العربيّة مشكورًا شرف الإسهام بكتابة هذه الكلمة المقتضبة للإسهام في إحياء الذّكرى الواحدة والسّتين «61» لميلاد جريدة الشّعب الغراء الحامِلة للواء وآمال الشّعب. وبالأمس فقط احتفلنا بالذّكرى السّتين لاستعادة سيادتنا الوطنيّة تحت شعار «عهد جديد وتاريخ مجيد» وها نحن اليوم نحتفل وبلادنا تحقق المزيد من المكاسب والمآرب بسواعد بناتنا وأبنائنا الأماجد.