في الحادي عشر من ديسمبر عام 1962 نطق الشعب الجزائري من خلال جريدته الغرّاء “الشعب “.. هذا الحلم الذي تعطّل عن الكلام من أيّام حزب الشعب الذي راوده مثل هذا الحلم الذي طال انتظاره، وتعطّلت لغة “الضّاد” عن استكماله، وذلك لعدم توفر الآلة الكاتبة بالحرف العربي وقلّة ذات اليد في تلك المرحلة العارمة، من أعراس الجزائر، وهي تسترجع سيادتها المفقودة، وتذرع نسمات الحريّة، منذ أكثر من قرن وربع..
لكن الحلم ما فتئ يعاود الأحرار بعد نزولهم من الجبال، وعودتهم من المنافي القهرية، واستقبالهم لوطن كان منهوبا طيلة حقبة من الزمن المُظلم، بتعسّف المستعمر الفرنسي الغادر، الذي أتى على كلّ مقوّمات الشعب الجزائري، بما فيها لغته العربية، التي ناضلت وتخندقت هي الأخرى، في ما كان يسميه المستعمر البغيض Les écoles gourbie؛ وأبت الاندثار والإبادة التي أرادها الاستعمار حتّى تحلّ لغته الغازية محلّها، وتطوي بذلك سِجِلاّ طويلا حافلا من ميراث الشعب الجزائري المتجذر في الحضارة العربية الإسلامية.
من هناك أراد الأحرار من أبناء الجزائر المستقلة أن يكون للغة العربية عنوانا، وأيّ عنوان أحسن من اللغة العربية تِبيانا وتعبيرا، يكون بلسان الشعب؛ “الشعب حرّرها وربّك وقّعا”، كما قال صاحب الحلم البعيد مفدي زكريا الذي راودته الفكرة منذ أعوام 1937، لكن الحلم أبى أن يتحقق إلاّ في الحادي عشر من ديسمبر من عام 1962 الموافق لانتفاضة الشعب الجزائري العارمة من 11 عشر من شهر ديسمبر من عام 1961 والذي أكّد مقولة الشاعر:
كتب الوجود بأنّك العِملاقُ يا شعب إنّك للعلا توّاق فكان النصر للشعب الجزائري، والخذلان والسُّحق للغاشم المستعمر، من هناك بزغ فجر الشعب، بعد أن وفّرت له سواعد الإخلاص للمبادئ حقّ الظهور العلني، والقدرة على تجاوز العراقيل، مهما جلّ شأنها، من هذا المخاض المكلّل بالإرادة والعزيمة ظهرت “ جريدة الشعب” الغرّاء النّاطقة باسم الثورة والثوار، وباسم الشعب الذي لا يُقهر مهما طال زمن القهر؛ جاءت جريدة الشعب حاملة لمشعل الحرية المضمّخة بدماء الشهداء ورافعة للواء التحدّي، لتُصبح لسان حال الشعب، الذي كتب ملحمة الوجود، وخرّت له جبابرة الظُلم سُجّدًا رُكّعا…
ظهرت جريدة الشعب الغرّاء، حين كان للحرف العربي نكهة المُهاجر أو العائد من السفر الطويل، الكلّ هلّل لمقدمه البهيّ، وكلّ سبّح بحمد المثاني والطواسين، الكلّ شمّر للمُضيّ قُدمًا بالمشروع الحلم، وبفضل إرادة المخلصين الطيّبين، صار الحلم حقيقة، وصار للشعب الجزائري لسانه الحقيقي، المُعبّر عن أحلامه وأوجاعه، وتجنّد لإنجاح هذا المشروع خيرة أقلام الجزائر المجاهدة، منهم من كان رابضا في الخنادق والجبال، ومنهم من قدم من المنافي والمهاجر، وتجنّد الجميع لقهر المستحيل، كما قُهر المُحتلّ الغاشم في معركة الفصل…
كانت الأقلام الأولى، هي من سطّر فاتحة الكتاب، حيث وضعت خبرتها وحنكتها لتقهر العجز والمستحيل، وباشرت في بعث الحلم المُسَمّى بكلّ تواضع وكبرياء “جريدة الشعب”، الوريث الشرعي لكلّ صُحف وجرائد الحركة الوطنية، التي جدّفت في خضمّ الصراع لأكثر من نصف قرن من الصمود والتصدّي، وها هي لحظة الميلاد تُرى حُبلى بمخاض الاعتزاز والنّخوة، لتعبّر بلسان عربي مُبين عن “ الفرحة الكبرى” التي أعقبت سنوات الجمر والجراح؛ فالحلم الذي راود شاعر الثورة في ثلاثينات القرن الماضي مفدي زكرياء ورفاقه في النّضال صار حقيقة، والوعْد الذي كان مُعلّقا ما بين الرجاء والتمنّي، تحوّل إلى أوراق تصافح القارئ الجزائري، في كل شارع من شوارع مُدن الجزائر الحالمة بغدٍ أفضل، ومسيرة مزدهرة، في جوّ من التآخي والمحبّة، والتعلّق الرّاسخ بوطن جديد ومتجدّد اسمه الجزائر…
لم أكن ممّن عايش هذا الحدث في أولياته، وأقصد صدور العدد الأوّل من جريدة الشعب المُحتفى بها اليوم، لأنّ سنّي آنذاك لم تكن تسمح لي بأن أكون من فرسان القلم الأوائل في تلك اللحظة التّاريخية الخالدة، لكن يمكن اعتباري أنّني انضممت إلى جنودها الأحرار، مع الجيل الذي ظهرت أسماؤهم على صفحاتها في مطلع السبعينيات، من ذلك الزّمن الذي اصطلحنا على تسميته “ بالزّمن الجميل”.
أذكر أنّ قصائدي الأولى التي واكبت التحوّلات الكبرى التي شهدتها الجزائر، قد خُطّت ونُشرت على صفحات تلك الجريدة التي كانت آمالنا، معشر الكتاب الشباب آنذاك، معلّقة على لحظات صدورها، من مثل قصيدتي العمودية “خمرة الإصلاح” وقصيدتي الأخرى “فرحة كوخ” وذلك في أعوام 1972، ومنذ ذلك التّاريخ صارت جريدة الشعب الغرّاء، بملحقها الثقافي، هي مهبط ما تُوحي به أقلام ما صار يعُرف بجيل السبعينات، الجيل المؤسس للأدب الجزائري المعاصر، بدون منازع..
إلى جريدة “الشعب الغرّاء” أهدي جميل الحبّ وصدق المودّة لطاقمها المجاهد، منذ النشأة الأولى إلى يومنا النّاس هذا، متمنيا لمسيرتها النضالية والتّاريخية والثقافية، أن تظل علامة يُستضاءُ بها في مُستقبل الجزائر الأبيّة …والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار.