هل اطلع هيغل على مقدّمة ابن خلدون؟!.. هذا السّؤال طرحه أحد النّقاد، وخصّص له كتابا كاملا للبحث عن التّقاطعات (والتشابهات) بين الفكر الخلدوني والفلسفة الهيغلية، والحق أن الرّجل لم يقل صراحة إنه يقصد إلى (اختلاسات) هيغل المفترضة، ولكنه بذل – على طول عمله – جهدا خرافيا كي يلقي بفرضية «السرقة» في ذهن قارئه..
وليس مستغربا من النّقاد العرب عموما، أن ينسبوا أي فكرة -مهما كانت- إلى التراث العربي، فهم يعثرون على الأفكار الحديثة – كما جرت العادة – في الكتب القديمة، ويلبسونها من التأويلات ما يجعل المعرفة الإنسانية كاملة، مجرّد تكرار، بحكم أن نقادنا الأشاوس لا يدركون اختلافات العصور، ولا ما تفرض من تغييرات على طبيعة الاشتغال الذّهني. فإذا كان ابن خلدون – مثلا – منتسبا إلى حضارة شفاهية بدأت تسعى نحو الكتابة، فإن هيغل ابن حضارة كتابة خالصة، وهذا فارق جوهري لا ينبغي إغفاله، بل هو برهان على استحالة توافق الأفكار الخلدونية والهيغلية.. وحتى إن كانت إرهاصات لثورة فكرية مقبلة، بحكم أن «المعرفة» -بطبيعتها- تراكم، فإن المشكلة تكون في المتلقي الذي لا يمتلك أيّ وعي بسلطة التاريخ على تواتر الأفكار..
ولعلنا أثقلنا على قارئنا بعض الشيء، غير أننا نرغب في التّخلص من «الانبهار» الذي ولّد فينا إحساسا بالنقص لا نقدر معه على استيعاب فكرة إلا إذا كانت مستوردة، بل إننا لا نثق في أنفسنا إلا إذا تذرعنا بما يأتي من الغرب، فنقبل بسهولة أن «كوستو» أسلم أمام «برزخ البحرين»، وأن آرمسترونغ سمع «الأذان» وهو على سطح القمر، فأسلم هو الآخر، ومنحنا بعض الثقة.. لهذا، لا نعترف بابن خلدون، إلا إذا سرقه هيغل، تماما مثلما لا نعترف بجودة «المنتج الوطني» إلا إذا اشتريناه من أوروبا.. وهذه أمّ المعضلات..