في نوفمبر من عام 2008، ألقى الرئيس الأمريكي، آنذاك، باراك أوباما، خطابا في جامعة القاهرة في إطار زيارة كنت قلت عنها آنذاك بأنّ كثيرين في العالم العربي تصوّروا أنّه قادم “يحمل عصا سحرية تحلّ المشاكل المزمنة فباتوا يحلمون بالفارس القادم من وراء الأفق”، والذي كان العقيد معمر القذافي ينطق اسمه بركة حسين أبو عمامة.. يومها تناولت الأديبة المصرية الأستاذة داليا سعودي الخطاب، وقالت إنّ هدفه كان إعادة “تدوير” الحلم الأمريكي القديم وتسويقه في شكل إنساني وأخلاقي محبب (وللتذكير الذي لا يخلو من فائدة، فإنّ تعبير “التدوير” أو “Recyclage “ يستعمل أساسا في الإشارة إلى تحويل “النفايات” إلى منتج جديد).
ولن أجترّ بالتفصيل تحليل الخطاب؛ لأنّني أريد اليوم، وعلى ضوء الموقف الأمريكي المخزي في مجلس الأمن، أن أذكر ببعض ما قالته داليا يومها، حيث علّقت على تذكيره بما يتمتّع به سبعة ملايين مسلم في الولايات المتحدة من حرية وسلام، فذكّرته، وكأنّها تجذب أذنه، بما تقوم به المباحث الفيديرالية من مراقبة للمساجد (وإن كانت تلك المراقبة لا تختلف كثيرا عمّا تقوم به جُلّ المخابرات العربية لأماكن العبادة) كما ذكرته بقانون “الباتريوت” وبالتنصّت على الهواتف وإغلاق مؤسّسات خيرية إسلامية وتوقيع عقوبات بالسجن على مؤسسيها لأنّهم جمعوا تبرّعات لأهل غزة.
آنذاك، توقفت الكاتبة عند عبارة تثير القلق، صفق جمهور قاعة جامعة القاهرة طويلا لها !!!، وهي تلك التي يتعهّد فيها أوباما بأنّه: “أصبح من بين مسؤولياته كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية التصدي للصور النمطية عن الإسلام”، وتتساءل داليا بإصرار : كيف يمكن أن يصبح الرئيس الأمريكي الحَكَمَ المنوط به تحديد الصالح من الطالح بين النماذج التي ترفع اللافتة الإسلامية، وبأيّ صفة يحق له التصدي للنماذج التي يراها سلبية، وأين سيتصدّى لها أينما ظهرت”؟ (وهذا يُفسّر صفة الإرهاب التي تُلصق بمقاتلي حماس، في حين أنّهم لم يفعلوا أكثر ممّا فعلته قوات فرنسا الحرة تحت قيادة شارل دوغول على أرض فرنسا التي تحتلها القوات النازية).
وتستأنف داليا استعراضها لخطاب أوباما فتورد قوله بأنّ : “أول موضوع يجب أن نتصدى له هو التطرف العنيف بكلّ أشكاله”، ولكنه لا يورد جملة واحدة عن العنف في غزة أو قبلها في جنوب لبنان أو قبل ذلك في العراق، ولا يشير إلى العنف إلا بالمعني الذي يفهم منه أنّه مقصور على الإسلام والمسلمين والإسلاميين (وأذكر بأنّ هذا حدث منذ نحو 15 عاما).
يومها، لم يُخْفِ أوباما أهدافه، فهو يقول بوضوح إنّ : “أمريكا سوف تدافع عن نفسها، وأنّ هذا الدفاع سيكون ثمرة الشراكة مع المجتمعات الإسلامية” التي هي أيضا – كما يقول – مهدّدة، وهو يواصل موضحا بأنّه : “كلّما تمت المسارعة بعزل المتطرفين كلما أصبحنا جميعا أكثر أمنا”، ليصل بنا إلى الاستنتاج بأنّه، بما أنّ هؤلاء موجودون فقط داخل المجتمعات الإسلامية، فإنّ عليها هي أن تتخلص منهم، أيّ أنّه – ببساطة – يطالب الحكومات الإسلامية أن تكون حكومات وكلاء وعملاء، مهمّتها التخلّص ممّن تراهم المصالح الأمريكية عقبة أمام مخططاتها (وهو ما نعيشه اليوم) ولم يجد في ذلك المقام أبدع من أن يستشهد بآية من القرآن الكريم يخفي وراءها حقيقة مطلبه، وينتزع بها عاصفة تصفيق من الذين جُمعوا بدعوة من شيخ الأزهر، فيُذكّر بأنّه : “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا”، ليتلو ذلك، وبعد فاصل من الوعود والعهود، حديث عن وجوب تخلي الفلسطينيين عن العنف (وليت الرئيس بايدن، الذي كان نائبا له آنذاك، يتذكر ما قيل يومها).
وما يهمني التركيز عليه هنا، هو أنّ النظرة السريعة لتاريخ الولايات المتحدة تشير إلى أنّه في البدء كان العدو هو بريطانيا، ثم من أُطلق عليهم الهنود الحمر، ومن بعدهم المكسيكيون ثم الأسبان ثم اليابانيون فالألمان والطليان، ومن بعدهم السوفييت والناصريون والإثيوبيون والكوريون فالكوبيون والفيتناميون، ثم من بعدهم القوميون والإسلاميون، وفي الوقت نفسه الأفغانيون ثم العراقيون وصولا إلى الإيرانيين ثم الصينيين.
وخلال نحو 250 عاما، هي عمر الولايات المتحدة، هناك 31 عاما فقط لم تكن فيها واشنطن مشتبكة في نزاع عسكري خارج حدودها، ومن بين 192 دولة منتمية إلى الأمم المتحدة تعرضت 64 دولة للهجوم أو الغزو أو الاحتلال أو التسرب الأمني.
ولعلي أضيف إلى ما قالته داليا عدد الانقلابات التي نظمتها واشنطن ضدّ بلادٍ سيّدة، كان من بينها انقلاب زاهدي في إيران وبينوشيه في شيلي بالإضافة إلى دورها، بالتحالف مع الكيان الصهيوني، في اضطرابات مايو 1968 في فرنسا والتي أدّت إلى إجهاض الولاية الثانية للجنرال دوغول، لكن هذا يجب أن يُذكّر شعوبنا بأنّها فشلت في تدمير نظام كاسترو، لا بمهزلة خليج الخنازير، ولا بمحاولات اغتيال الزعيم الكوبي، لأنّها لم تستطع اختراق الشعب الكوبي أو تطويع قادته.
ذلك أنّ للولايات المتحدة منطلقها الذي “تُلمعه” هوليود وكوكبة من الإعلاميين، وتعتمد دائما سياسة الكيل بمكيالين، ولقد قُتل الريس حميدو الجزائري خلال معركة في جوان 1815 بين الأسطول الجزائري والأسطول الأمريكي في البحر الأبيض المتوسط، بعيدا عن أمريكا، بينما قامت أمريكا ولم تقعد نتيجة لقنبلة “بيرل هاربر”، وهو ميناء على بعد آلاف الكيلومترات من الحدود الأمريكية.
وإذا كان من السهل تبرير تدمير “هيروشيما” في منتصف الأربعينيات بالسلاح الذري، فليس هناك مبرّر حربي واحد يبرّر قنبلة “ناغازاكي” إلا الغرور الأمريكي الذي أرادها تحذيرا غير مباشر للاتحاد السوفيتي آنذاك، وبغضّ النظر عن أنّ هناك من يرى أنّ “اليانكي” يتلذّذون بالقتل الوحشي، وموقفهم من قنبلة غزة يوحي بذلك.
وواشنطن تستحق اليوم جائزة “نوبل” في النفاق، فهي تتباكى، وتفرض التباكي على أوروبا وعملائها في الوطن العربي والعالم الإسلامي، تجاه أحداث أوكرانيا متناسية دورها في استفزاز موسكو بمحاولة دفع “الناتو” إلى حدود روسيا الأمنية، بينما لا يتحرك لها جفن أمام مأساة غزة التي تتعرض لحرب إبادة لم يعرفها التاريخ الحديث، ربما باستثناء مذابح أحداث 8 مايو 1945 في الجزائر، عندما قتلت فرنسا، في أيام قليلة، أكثر من 40 ألف جزائري، كان ذنبهم مجرد رفع العلم ذي الهلال والنجمة احتفالا بانتهاء الحرب العالمية التي ساهم أبناؤهم في انتصار فرنسا وحلفائها على أدولف هتلر، وهو الذي لم يكن أكثر وحشية من أشكيناز الكيان الصهيوني.
وأتوقّف هنا لحظات لأذكر بأنّ العدد الرهيب لشهداء الجزائر كان بذرة نبتت منها ثورة أول نوفمبر 1954 التي أنهت الوجود الاستعماري، لا في الجزائر وحدها وإنما في العديد من الدول الإفريقية، وهو ما يجب أن نتذكره ونحن نتابع مأساة الأرض الفلسطينية.
والسؤال الذي أعيد طرحه اليوم: كم من القيادات العربية قامت بدراسة خطب رؤساء أمريكا لتعرف ماذا يراد منها وبها ولها؟.
وكم من المؤسسات السياسية العربية والإسلامية من توقفت عند الخطب السياسية للزعماء الغربيين الذين لا يلقون الكلام على عواهنه، وتوزن كلماتهم بميزان “الكوكايين”، الأكثر حساسية من ميزان الذهب والفضة؟.
وكم من قادة الوطن العربي والعالم الإسلامي من درسوا التاريخ وفهموا أنّ منطق القوّة المتوحّشة هو القاسم المشترك بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وأدركوا بالتالي أنّ دعم واشنطن للكيان الصهيوني هو أمر طبيعي لأنّ النشأة متشابهة، والعمل للقضاء على السكان التاريخيين هو الهدف الذي يُوحّدُ بين منطق البلدين.
وقبل كلّ هذا، كم من القيادات العربية من تتذكر مصير شاه إيران الذي تخلت عنه واشنطن عندما تحرك الشعب الإيراني في زلزال السبعينيات، ناهيك من موبوتو الذي لم يجد قبرا في الكونغو أو بينوشيه الذي حرقت أسرته جثته خوفا من تبوّل الشعب على قبره.
ومعنى هذا أنّ على الشعوب أن تثبت وجودها وتفرض إرادتها وتثأر لشهداء الأمة، وهو ما يفرض الاعتراف بواقعية التعبير: “كيف ما تكونوا يُولّ عليكم”، فالتاريخ سوف يحكم على الشعوب قبل حكمه على قادتها.
ولن أذكّر مرة أخرى بكلمات الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي.