كرَّس دستور الفاتح نوفمبر 2020م وضعًا قانونيًا مُتَّزنًا لمؤسسات الجمهورية، وتقسيمًا تفصيليًا واضحًا لسلطات الدولة، وأقرّ تأسيس مجالس ومراصد وهيئات استشارية متخصصة، رفعت من كفاءة مهام المصالح العمومية، وفعَّلت ميكانيزمات عملها بشكل حيوي وشفّافٍ، مما ساهم في إرساء مُعطى سياسي واجتماعي واقتصادي وتنموي منسجم ومتوائم مع المتغيرات الداخلية والخارجية.
يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة بسكرة، البروفيسور عكنوش نورالصباح، في قراءة دستورية للأربع سنوات الفائتة، أن الإطار الدستوري في الجزائر الجديدة مَثَّل إعادة هندسة للنظام السياسي الجزائري، انطلاقا من معايير تهدف إلى مأسسة مستدامة للدولة وتفعيل دور المجتمع بكل أطيافه.
وقال عكنوش في تصريح خصّ به «الشعب»، إن دستور 2020 يضمن استقرار عوامل التنمية، واستمرار أسباب الشرعية على الأمدين المتوسط والطويل، في ظل بيئة داخلية متحولة مجتمعيا وتنظيميا وديموغرافيا، وبيئة خارجية معقدة ومتغيرة مؤثرة عبر إشكاليات جيو-استراتيجية وأمنية وطاقوية وبيئية وتكنولوجية، استدعت تقويم النظام السياسي، وإنتاج مفاهيم ومؤسسات وقيم جديدة، على غرار الحوكمة والمجتمع المدني الذي تمّت دسترته رفقة السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، والسلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد، والمحكمة الدستورية، فضلا عن فضاء الديمقراطية التشاركية الذي صار أحد ركائز الجمهورية.
وأوضح المتحدث، أن العقد الدستوري الحالي يقدم حلولا وأجوبة للمستقبل بالنسبة لبنية الدولة وجودة أداء هياكلها بشكل متوازن ومتجانس وفعال بمعدلات تُرضى المواطن، وتُحسّن في نفس الوقت من نوعية مخرجات السياسات العامة في ما يتعلق بوظائف أدوات الحكم مركزيًّا ولا مركزيًّا.
انتقال من الأدبيات إلى الآليات
يعتقد البروفيسور عكنوش، أن النسق الدستوري القائم تشكّل بدعم من الإرادة السياسية القوية في تغليب الآليات على الأدبيات التي طغت على النصوص الدستورية السابقة، تلاها التوجه منهجيا نحو منطق تدبير جديد للحكم بما يحقق تأمين حاجيات المجتمع في العدل والعمل والأمن والبيئة والحرية «30 مادة للحريات والحقوق».
علاوة على ذلك، يضمن تفعيل محددات التنمية في مختلف مستوياتها من الغاز الطبيعي والكهرباء والماء والإنترنت وغيرها من شروط الحياة الكريمة، بداية من مقر الولاية إلى غاية نقاط الظل البعيدة والمعزولة، في إطار مقاربة شاملة مبنية على مبادرات وأفكار ورؤى إيجابية، ووفق منظور تشاركي إيجابي يخدم مبدأ تحيين الحياة السياسية عبر تجديد فواعلها وقيمها ونخبها كالمجتمع المدني والنقابات والجمعيات والأحزاب.
وتابع الأستاذ قائلاً: «أحاط الدستور الأحزاب بجملة من المبادئ والضمانات، تحميها من أيّ تعسف أو تجاوز، حيث أنها لا تُحل إلاّ بحكم قضائي، ويمنحها مقومات النشاط والاقتراح والمشاركة بما يعزز من موقعها داخل مؤسسات الدولة الشرعية ومن وضعها في النسيج المجتمعي».
المؤسس الدستوري عمد إلى أخلقة الحياة السياسية، وفصل المال عن السياسة، وأبعد المصالح الحزبية عن المصالح العليا للأمة، بناءً على التزامات رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، الحريص على ترشيد النشاط الحزبي وحماية المعارضة حتى يصبحا قيمة مضافة وليس قيمة سلبية، وهو ما تحقق خاصة في الانتخابات التشريعية الماضية، التي جسّدت نجاح الإطار الدستوري في احتواء العملية السياسية باقتدار، نظرا إلى أنه أخذ شكل ومحتوى دستور تأسيسي للجمهورية الجديدة، بحسب ما أضاف عكنوش.
بعث روح جديد في البرلمان
من جهتها، أبرزت أستاذة القانون الدستوري بجامعة الجزائر-1، الدكتورة دوايسية كريمة، أن التعديل الدستوري الأخير منح دفعة قوية للمؤسسة البرلمانية، من خلال إتاحة آليات وميكانيزمات جديدة ونوعية لممارسة الصلاحيات التشريعية، لاسيما ما تعلق بحق المبادرة الفردية لنواب وأعضاء البرلمان في تقديم اقتراح قانون يكون قابلا للمناقشة والتصويت عليه، إذا توفرت فيه الشروط الشكلية والموضوعية المطلوبة.
وأفادت دوايسية في اتصال مع «الشعب»، أن الدستور الجزائري عزز من مكانة مجلس الأمة عبر إعطائه صلاحيات إضافية، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على نية المؤسس الدستوري في بعث روح جديد للمؤسسة البرلمانية التي شهدت تطورا ملحوظا في السنوات الفارطة.
كما منح آليات دستورية وضمانات للمعارضة، بحسب ما أضافت، جعلت منها مركز قوة، ومكّنتها من المشاركة الفعلية والإيجابية في الأشغال البرلمانية، مع دور آخر مهم مُخول لأعضاء البرلمان، متمثل في ممارسة حق إخطار المحكمة الدستورية لغرض تطابق احترام الدستور والقانون من قِبل جميع السلطات، وهو ما يعتبر انفتاحا على المعارضة البرلمانية بإثبات حقها في إخطار ذات الهيئة لتجسيد وتعميم الديمقراطية، وكذا حماية الحقوق وحريات المواطن.
فضلا عن ذلك، تتَّجه الممارسات الدستورية في الجزائر إلى تفعيل الأثر الدبلوماسي للبرلمان، سواءً بتبادل زيارات الأعضاء والوفود بين المجالس البرلمانية، أو بإشراكه في المسائل ذات الطابع الدولي قصد تعزيز التعاون والتشاور الثنائي ومتعدد الأطراف، مثلما أوضحت الدكتورة دوايسية.
تعديلات ومضامين دستور أول نوفمبر 2020م، كانت جوهرية ومتعددة الأوجه، لا يتسع المجال لذكرها، أفصح إنفاذها منذ السنوات الأولى عن وضوح في صلاحيات المؤسسات العمومية، ورفع جودة أدائها وفعاليتها، مع تمخّض أخلقة نموذجية للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.