يعتبر قطاع الفلاحة مساهمًا قويًّا في الناتج المحلي ورافدا مهمّا لصادرات البلاد الخارجية، يُعوَّل عليه بشكل أساسي في تقوية سلة العملات الصعبة، وتنويع مسالك الدخل الوطني، وتحقيق الاكتفاء الذاتي؛ ذلك أنّه مصدر كل المنتجات الزراعية الخام والمواد الاستهلاكية ذات الصبغة الصناعية التحويلية.
حقق القطاع الفلاحي في الجزائر، خلال السنوات الماضية، الاكتفاء الذاتي في العديد من المحاصيل واسعة الاستهلاك، وفائضا مؤهلا لعمليات التصدير في العديد منها، مما جنّب الخزينة العمومية عبء استيرادها من الأسواق الأجنبية، مثل البطاطس والطماطم والبصل والثوم والحمضيات وغيرها من المنتجات ذات الطلب الكثيف محليا.
كما تبذل السلطات العليا مساعيَ حثيثةً لتكثيف إنتاج باقي الشُّعب الاستراتيجية التي بقيت رهن التوريد الخارجي، أو أجزاء منها ظلت بحاجة إلى استيراد لتغطية العجز الداخلي، من أجل بلوغ غايات الأمن الغذائي وتخليص الاقتصاد الوطني عموما من التبعية والخضوع لمآلات الاضطرابات الجيو- اقتصادية.
وقد استفاد هذا القطاع الحيوي من قرارات وإجراءات عملية وميدانية هامة، أقرها رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، منذ وصوله إلى سدة الحكم، كان لها أثر إيجابيّ بالغ على كافة المستويات، وتضمنت خططا لتوسيع مساحات المحاصيل الكبرى قيد الاستيراد، ودعم الفلاحين بالبذور والأسمدة الزراعية، ورفع قيمة المنتجات الموجهة للدواويين العمومية المختصة، تشجيعا للمنتجين على رفع الوتيرة الإنتاجية كمّا ونوعا، فضلا عن إطلاق مشاريع لربط عشرات الآلاف من المستثمرات الفلاحية والبساتين بالطاقة الكهربائية.
مكتسبات السياسات الفلاحية
أوضح أستاذ المدرسة العليا للفلاحة الصحراوية بجامعة الوادي، سقاي سفيان، أن القطاع الفلاحي في الجزائر مرّ بعدة مراحل من الإصلاحات والتغيرات، كانت تهدف في مجملها إلى جعله قطبا مهمّا في الاقتصاد الوطني قادرا على تخفيض فاتورة الاستيراد، وإنهاء التبعية الغذائية وكذا الوصول إلى الاكتفاء الذاتي الذي يحقق بالضرورة الأمن الغذائي.
وأفاد سقاي في تصريح خصّ به “الشعب”، أن مرحلة ما بعد 2020م، عرفت إعداد ورقة طريق للتنمية الفلاحية والريفية 2020-2024، ارتكزت على جملة من المحاور أهمها؛ تطوير الزراعة الصحراوية، من خلال توسيع المناطق ذات القدرات، تنمية المحاصيل الصناعية، كالذرة الصفراء وفول الصويا والبنجر السكري وغيرها…
وتابع محدثنا بالقول: “هذا ما لمسناه من قرارات رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، الخاصة بتطوير القطاع، ومن بينها إنشاء مدارس عليا للفلاحة في الجنوب، لتضطلع بتكوين نخب من مهندسين وتقنيين بمستوى علمي عال، وحل الإشكالات المستجدة وعصرنة الفلاحة بما يتماشى والتطور الحاصل في المجال من خلال الاعتماد على التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي”.
التكوين والبحث العلمي
أبرز البروفيسور سقاي سفيان، أن مواصلة ترميم وتطوير قطاع الفلاحة، لاسيما في مجال الأشجار المثمرة وتربية الحيوانات والدواجن وإنتاج الحليب، يتطلب منح أهمية أكبر للتكوين والبحث العلمي، بما يسهم في المحافظة على التميز المتحصل عليه، ويضمن استدامته في الزمان وتوسّعه في المكان.
واقترح سقاي المحافظة على شُعبة زراعة النخيل وتطويرها وحمايتها، ودعم إنتاج أصناف التمور الآيلة للزوال، والعمل على تسويق الأصناف الأخرى خارج صنف دڤلة نور، مع إبراز أهميتها الغذائية، وتبيان مشتقاتها التحويلية الاستهلاكية، مثل مربّى وعسل التمر.
وفضلا عن ذلك، العمل على تطوير تربية المواشي والدواجن بغية توفير اللحوم الحمراء والبيضاء والإسهام في تقليص فاتورة الاستيراد وتحقيق اكتفاء ذاتي فيهما، واستنهاض شعبة إنتاج الحليب، من خلال مرافقة المنتجين وتذليل الصعوبات التي يواجهونها، خاصة تلك المتعلقة بقطع الغيار وعملية التسويق ما بعد التجميع والتصنيع، وكذا التفكير في ترقية تربية الإبل وتوسيعها؛ كونها قادرة على تمويل السوق الوطنية باللحوم الحمراء والحليب وحتى الجلود. ومقارنة بالبلدان الأخرى، تُصنف الجزائر في آخر الدول المهتمة بالاستثمار في ميدان إنتاج لحوم وحليب الإبل، بحسب قوله.
كما يُساعد تشجيع الفلاحين والمستثمرين على الاستثمار في تربية المائيات وتوسيعها، وفقا لسقاي، في توفير كميات كبيرة من أسماك المياه العذبة واستقرار أسعار هذا المنتج في الأسواق، واستغلال مياهها في نظام مدمج يسمح بإعادة استعمالها في سقي بعض المحاصيل.
واستطرد الأستاذ: “وضعية الجفاف الحاصلة منذ سنوات، تُوجب المحافظة على المياه، من خلال اعتماد تقنيات اقتصادية في السقي، فوجود وفرة منها بالصحراء لا يعني بتاتا استعمالها بشكل غير عقلاني، لأنه وببساطة استمرارية تواجدها هو استمرارية للفلاحة وللحياة في تلك المنطقة”.
توازن اقتصادي
يعتقد رئيس المركز الجزائري لرجال الأعمال والمتعاملين الاقتصاديين، تيمونت مسعود، أن الدولة الجزائرية، في السنوات الأخيرة، اتجهت إلى تحقيق توازن اقتصادي، خصوصا بعد الأزمات الاقتصادية التي حدثت أثناء أزمة وباء كورونا كوفيد-19، وحرب أوكرانيا التي أسفرت عن عدة اختلالات في الإنتاج العالمي وحلقات التوصيل البحري للمنتجات البشرية والحيوانية.
وقال تيمونت لـ “الشعب”، إن السلطات استحدثت ميدانيا مساحات ومحيطات زراعية جد هامة وواسعة وصلت إلى مليون هكتار؛ حصّة الأسد منها خُصصت لزراعة الحبوب والبقوليات بأنواعها، لاسيما القمح بنوعيه الصلب واللين، والشعير والذرة الصفراء والأعلاف، التي ترتبط بتغطية احتياجات تربية الحيوانات المنتجة للحليب واللحوم على مستوى السوق المحلي، خصوصا أنّ العلف يشهد غلاءً في سعره عالميًا.
وبحسب المتحدث ذاته، فإن السياسة الاقتصادية والفلاحية المنتهجة، تحقق المراد من إطلاقها ألا وهو الوصول إلى الاكتفاء الذاتي وبلوغ الأمن الغذائي الوطني.
وأردف مسعود: “نحن كمنظمة اقتصادية ندعو إلى تخصيص جزء من كل محصول فلاحي كثيف الإنتاج للتصدير ومزاحمة السوق الدولية؛ لأن المنتج الزراعي الجزائري يعتبر ذا جودة وطبيعيا وصحيا وخاليا من المبيدات الكيمائية، بناءً على تجربة بيعه في الأسواق العالمية، على غرار الخضر والفواكه بأسواق أوروبا وأمريكا وأفريقيا والخليج العربي”.
ووفقا له، ستسهم الخطوة في تواجد المنتج الجزائري بالسوق الدولية، وتكوين انطباع حسن عن الإنتاج الوطني، وبالتالي جلب الاستثمارات والشراكات العالمية، والدخول مستقبلاً في منافسة حقيقية مع اقتصاديات الدول.
إلى ذلك، نوّه رئيس المركز الجزائري لرجال الأعمال والمتعاملين الاقتصاديين، تيمونت مسعود، بأهمية استحداث مناطق صناعية مرتبطة مباشرة بالمحيطات الفلاحية من أجل التحويل والتوضيب وتخزين المنتجات؛ ذلك أنها دافع لرفع نسب الإنتاج وخلق مناصب شغل جدّ معتبرة.
توسيع النشاط الفلاحي
ثَمَّن رئيس المنظمة الوطنية للفلاحة والأمن الغذائي، كريم حسن، توجهات الدولة الدّاعمة لقطاع الفلاحة، لاسيما برامج الربط بالطاقة الكهربائية وفتح المسالك من أجل فكّ العزلة ووضع حدّ لمعاناة الفلاحين والدفع بهم لتوسيع النشاط الفلاحي ومضاعفة الإنتاج، للمساهمة في تنويع مصادر الاقتصاد الوطني والتقليل من فاتورة الاستيراد قدر المستطاع.
وأشار كريم حسن في اتصال مع “الشعب”، إلى أن صحراء الجزائر شاسعة، ويُمكن استغلالها لتكون قطبا مهمّا للاستثمار الزراعي، ومصدرا هاما لإنتاج المحاصيل الكبرى، وتعزيز مجال الثروة الحيوانية من عجول، وماعز، ودواجن وغيرها من الأصناف المرتبطة باستهلاك اللحوم الحمراء والبيضاء.
وأضاف المتحدث ذاته، أن الفلاحة الصحراوية مؤهلة لاحتضان مجالات فلاحية متعددة مثل الحبوب من قمح وشعير وذرة، والخضروات كالبطاطس والطماطم والجزر والشمندر؛ لأن التربة الرملية ومناخ المنطقة ملائمان لهاته الزراعات، المناسبة أيضًا للصناعات التحويلية، بالإضافة إلى توسيع زراعة الأعلاف، وتكثيف غرس الأشجار المثمرة من خلال التركيز على الأنواع المقاومة للجفاف وعلى رأسها الزيتون والتين الشوكي واللوز.
وبما أن الشروط متوفرة، من شساعة الأرض ووفرة المياه الجوفية، لفت كريم حسن إلى ضرورة الاهتمام بالاستثمار في مجال الثروة الحيوانية في الصحراء، خاصة تربية الأبقار الحلوب والأغنام، على غرار سلالة أولاد جلال التي تفضل العيش في المناخ الصحراوي، مع التوجه إلى إنشاء مزارع حيوانية كبرى قادرة على توفير ملايين الرؤوس من المواشي.
استعمال الطاقات المتجددة
على صعيد الطاقات المتجددة، أبرز رئيس المنظمة الوطنية للفلاحة والأمن الغذائي، كريم حسن، أن استعمال الطاقة الشمسية ضمن نطاق الفلاحة الصحراوية صار ضروريا؛ نظرا إلى طبيعة مناطقها المتباعدة، وإيصال الكهرباء إليها يعد مكلفا في بعض الأحيان.
كما يتطلب الرواق الأخضر الخاص بزراعة المحاصيل الكبرى في الجنوب، الذي تعتزم وزارة الفلاحة إنشاءه، دمجًا بين الإنتاج النباتي والحيواني، حتى تكون استراتيجية التطوير الفلاحي واضحة المعالم، ومهيأة لبناء أساس متين، لا سيما في مجال زراعة الأعلاف.
لا مناص من مواصلة ترقية القطاع الفلاحي في الجزائر، وتثمين مكتسباته وإنجازاته في المرحلة الأخيرة، حتى يستطيع تغطية السوق الوطني بكل المحاصيل الزراعية الأساسية وغير الأساسية في الأمد القريب، وتلافي مخاطر الاضطربات الجيو-اقتصادية في العالم، التي أضحت تلقي بظلالها القاتمة وتداعياتها المعقدة على المشهد الدولي في حاضرنا.