أيّام معدودة ونودّع عام 2023 الذي يجدر وصفه بالعام الأكثر دموية بالنّظر إلى الأحداث المأساوية التي شهدها من بدايته حتى نهايته، فمع شهوره الأولى، بدأت سلسلة الكوارث الطبيعية والحروب والتوترات السياسية تعصف بالعديد من الدول ليطوي هذا العام الكئيب أوراقه على أبشع حرب إبادة يشهدها التاريخ، والتي ما تزال وقائعها تجري في قطاع غزة الجريح متسبّبة في كارثة إنسانية لم تصنعها حتى الحرب العالمية الثانية.
العام 2023 الذي يلملم آخر أوراقه، لم يمر بردا وسلاما على البشرية، ففي بداية فيفري، هزّ زلزالان عنيفان بقوة 7.8 درجة تركيا وسوريا وتسببا في مقتل أكثر من 50 ألف شخص وإصابة أكثر من 24 ألفا آخرين، إضافة إلى تشريد مئات الآلاف دون الحديث عن الخسائر المادية الكبيرة.
وفي 15 من شهر أفريل، اندلعت اشتباكات مسلّحة في السودان بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وسرعان ما تحوّلت هذه الاشتباكات المدفوعة بأطماع سلطوية، إلى احتراب داخلي خلّف نحو 12 ألفاً من القتلى، ونزوح ولجوء الملايين إلى داخل البلاد وإلى دول الجوار، حيث يعيشون وضعا صعبا دون أن توفّق الوساطات الكثيرة في وقف إراقة الدماء، وإيجاد تسوية تنقذ السودانيين من براثن حرب أهلية خطيرة.
زلازل وأعاصير..
ولم يتوقّف غضب الطبيعة عند زلزال تركيا وسوريا، وتأثيرات الاحتباس الحراري من جفاف أو فيضانات، بل استمرّت الكوارث تضرب هنا وهناك ضربات موجعة، ليحلّ يوم 8 سبتمبر بشؤمه على المغرب، حيث هزّ زلزال عنيف بقوة 6.8 درجات إقليم الحوز، ما أدى إلى وفاة أكثر من 3 آلاف شخص، وتشريد الآلاف، وأدخل المملكة في دوامة مواجهة آثار هذه الكارثة التي أبانت عن حجم الفقر والتهميش الذي تعيشه كثير من مناطق المغرب المعزولة وسكاّنها المقهورين والمغلوبين على أمرهم. وقد خرجت عشرات الأسر المتضررة من زلزال الحوز، الاثنين، في مسيرة احتجاجية على الأقدام من أمزميز نحو مراكش، استمرت لساعات وقطعت عدة كيلومترات، قبل أن يتم توقيفها من طرف قوات القمع المخزني، للمطالبة برفع التهميش عنها، واستنكار عدم توصلها بالدعم الممنوح للأسر المتضررة من الزلزال رغم مرور أربعة أشهر.
وانتفض المشاركون في المسيرة في وجه المعاناة التي يعيشونها، مؤكدين أنهم لا يزالون مشردين في الخلاء وفي خيم لا تقيهم صعوبة الظروف المناخية، ولا توفر لهم أي حماية، وأنهم يعيشون الجوع والحاجة.
وندّد المحتجون بعدم الاستجابة لصرخاتهم المتكررة ومطالبهم البسيطة، مؤكّدين أن أطفالهم ونساءهم وشيوخم في ظروف مزرية منذ الزلزال.
وقال المشاركون في المسيرة إنّ المسؤولين ومنذ أسابيع وهم يقدمون الوعود الفارغة، ويؤكّدون للمتضرّرين أنهم سيتوصّلون بالدعم، لكن شيئا من هذه الوعود لم يتم الوفاء به، داعين لوقف هذه المآسي.
كما يشكو السكان المتضررون من الزلزال من شبهات الفساد والمحاباة التي تحوم حول تقديم الدعم، حيث يستفيد من لا يستحق بسبب قربه من بعض أعوان السلطة على حساب الأسر المحتاجة التي تعاني في صمت، وتنتظر دون جدوى.
ورغم هذه الاحتجاجات والمطالب والصرخات والنداءات المتكررة، تزعم الحكومة أنها نجحت في تدبير ملف ضحايا الزلزال.
ولم يكن المغرب وحده ضحية لغضب الطبيعة، ففي العاشر من سبتمبر استيقظ العالم على وقع فاجعة ألمّت بالشعب الليبي عندما ضرب الإعصار”دانيال” شمال وشرق البلاد، وتسبّب في انهيار سدود كانت تحبس المياه في “وادي درنة”، ما أغرق مدينة درنة ومسح ربع أحيائها من الخريطة، وخلّف مقتل الآلاف وألحق بالمناطق المنكوبة دمارا رهيبا، وكانت هذه الكارثة أسوأ الكوارث الطبيعية التي وقعت في تاريخ ليبيا من حيث حجم الخسائر التي لحقت بالبنية التحتية، وبأعداد البشر الذين لقوا حتفهم أو تشّرّدوا من ديارهم.
المصائب لا تأتي فرادى
ولأنّ المصائب لا تأتي فرادى، خاصة في وطننا العربي الكبير، فإن العام الذي نعيش أيّامه الأخيرة، قرّر أن لا يرحل قبل أن يغرقنا في محيط من الدّم والألم والدّموع، حيث شهد السابع من أكتوبر الماضي شنّ الكيان الصهيوني أبشع عدوان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، ليصدق القول بأنّ سنة 2023 هي بالفعل الأسوأ على الفلسطينيين، إذ يواجه أهل غزّة منذ ثلاثة أشهر حرب إبادة لم تشهدها البشرية على مرّ التاريخ، والمواجهة لا يخوضها الغزّاويون ضدّ مجرمي الحرب الصهاينة فقط، بل ومن ورائهم قوى كبرى، ركبت الباطل وداست على الشرعية وحقوق الانسان، واصطفّت إلى جانب سفّاكي الدّماء تبارك مذابحهم وتدعمها عسكريا ودبلوماسيا وإعلاميا، وتبرّر تقتيلهم وتجويعهم وتهجيرهم للفلسطينيين الأبرياء، الذين يكابدون الويلات في عالم فقد أخلاقه وإنسانيته وعدالته.
الإبادة التي تجري أطوارها في جيب قطاع غزة الصغير بمساحته التي لا تتجاوز 360 كلم مربع، وعدد سكانه 2.3 مليون نسمة، وإن استحوذت على المشهد الإعلامي العالمي وكانت أبرز حدث في السّنة المودّعة، فإنّها لم تحجب غابة الأزمات والتوترات التي ظلّت تعصف بكثير من البلدان، وتحبس أنفاس كثير من الشعوب المتطلّعة للأمن والاستقرار، بداية بالأزمة في ليبيا، والحرب في السودان، ثم الكابوس الأمني في الساحل الإفريقي، والقضية الصحراوية، وملف الهجرة، والحرب الأوكرانية، وتمدّد اليمين المتطرف في أوروبا، وتوتّر العلاقات الدولية التي تعيش على كفّ عفريت.
ليبيا.. عام آخر ضائع
مثلما لم تمر سنة 2023 بردا وسلاما على الفلسطينيين، فهي لم تكن عام الانفراج بالنسبة لليبيين الذين يتخبطون في أزمة سياسية وأمنية خانقة منذ 2011.
وعكس الآمال المعقودة، مضى عام آخر من دون انتخابات، ولا توحيد مؤسسات الدولة، أو إنهاء الانقسام ورأب الصّدع الذي ضرب الوحدة الوطنية وارتهن البلاد لجهات خارجية عديدة تعبث باستقرارها وتنهب ثرواتها.
ورغم أن ليبيا شهدت في الأشهر الأخيرة بعض الاستقرار الأمني مقارنة مع السنوات الماضية، حيث تراجعت العمليات الإرهابية، كما تراجع التصعيد العسكري بين “جبهتَي” شرق البلاد وغربها إثر توقيع هدنة، يُنظر إليها على أنها لا تزال متماسكة، فإن الاستقرار السياسي وإعادة بناء مؤسسات الدولة والتخلّص من المقاتلين والمرتزقة الأجانب، ما زال متعثرا بسبب التجاذبات الحاصلة بين أطراف الأزمة، والتي تحول دون التوصل إلى توافق بشأن الانتخابات التي كان مقررا تنظيمها في ديسمبر 2021، والتي تعتبر مفتاح الانفراج في ليبيا.
لقد حلّ عام 2023 بموجة تفاؤل واسعة بين الليبيين، الذين كانوا يأملون كسر حالة الجمود السياسي، وتحقيق ما فاتهم من فرص إجراء الاستحقاقات، وتوحيد مؤسسات الدولة، خاصة وأن المبعوث الأممي عبد الله باتيلي سعى كثيرا لتحريك المياه الراكدة، وعقد لقاءات مراتونية مع الإخوة الفرقاء لتبديد الخلافات وتجاوز الاختلافات خاصة المتعلقة بالقوانين اللازمة للانتخابات.
لكن موجة التفاؤل سرعان ما اصطدمت، كما جرت العادة، بتعارض مواقف السياسيين، وتحديدا مواقف الحكومتين اللتين تتنازعان السلطة، سواء بخصوص قضية مشاركة العسكريين ومزدوجي الجنسية في الترشح للرئاسة، أو بشأن إنشاء حكومة ثالثة تتولى الإشراف على تنظيم الانتخابات.
وللأمانة، فإنّ باتيلي بذل وسعه لتجاوز الانسداد وكسر صخور الرّفض التي يضعها هذا الطرف والآخر في طريق استئناف المسار الانتخابي، وأطلق العديد من المبادرات التي تهدف إلى التمكين من إجراء الاستحقاقات خلال عام 2023، لكن السنة تشارف على الانتهاء دون أن تحل الأزمة، ورغم خيبة الأمل، يأمل الليبيون في أن يحمل عام 2024 انفراجة، ويضع البلاد على طريق السلام الدائم والاستقرار والتنمية.
مكاسب صحراوية وانتكاسات مغربية
عام آخر ينقضي دون أن يستجيب المنتظم الدولي لقرارات الشرعية الدولية بخصوص حل القضية الصحراوية، فقد تأجّلت مرّة أخرى عملية تسوية آخر قضية تصفية استعمار في القارة الإفريقية، وظلّ الاحتلال المغربي على عهده يمارس سياسة التعطيل والغطرسة المتبوعة بانتهاكات إنسانية فظيعة ضدّ الصحراويين المتمسّكين بحقّهم الشرعي في تقرير مصيرهم عبر استفتاء أقرّته الأمم المتحدة منذ عقود وقبله المخزن، قبل أن يتراجع عنه ويصرّ على تفصيل حلّ على مقاسه، ويسعى لفرضه كأمر واقع خارج أسوار الأمم المتحدة، وبعيدا عن لوائحها التي نصّت في 1963 على أنّ الإقليم الصحراوي هو واحد من الأقاليم غير المستقلة التي ينطبق عليها تقرير المصير.
2023، سنة أخرى تضاف إلى عمر القضية الصحراوية، ورغم أنّها مضت دون أن تحقّق حلم الصحراويين في استعادة حريتهم واستكمال سيادتهم، إلاّ أنّها شهدت انتزاعهم للعديد من المكاسب، سواء من خلال تضامن واعتراف مزيد من الدول بحقهم المشروع في الاستقلال، ودعم كفاحهم المسلّح وحضورهم في مؤسسات الإتحاد الإفريقي، أو من خلال الانتصارات المحققة في إطار معاركهم القانونية أمام محكمة العدل الأوروبية لوقف نهب ثرواتهم، وحتى من خلال الإدانات الحقوقية الدولية الموجهة للاحتلال المغربي خلال انعقاد أشغال الدورة 53 لمجلس حقوق الإنسان بمقر الأمم المتحدة في جنيف، بسبب انتهاكاته المريعة في الأراضي المحتلة والتي طالت النشطاء والمعتقلين ولم تستثن حتى النساء، وأيضا بسبب قصف مسيّراته للقوافل التجارية العابرة للاراضي الصحراوية.
وقد شهدت السنة المودّعة عقد جبهة البوليساريو لمؤتمرها 16، الذي شدّد على حشد كل الوسائل لتصعيد الكفاح المسلح الى غاية استكمال السيادة. وجدّد استعداد الطرف الصحراوي للتعاون مع جهود الأمم المتحدة الرامية الى تصفية الاستعمار من الصحراء الغربية، مؤكّدا رفضه لمحاولات الاحتلال مصادرة الحق غير القابل للتصرف ولا المساومة في تقرير المصير والإستقلال.
سياسيا، شهدت القضية الصحراوية زخما كبيرا بالتزامن مع جولة المبعوث الأممي “ستيفان دي ميستورا” إلى المنطقة، والزيارة التي باشرها قبله نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي، “جوشوا هاريس”، وذلك في إطار الجهود المبذولة للدفع بالعملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في الصحراء الغربية.
ومقابل المكاسب المنتزعة صحراويا، فإن الاحتلال المغربي فشل في تحقيق وعده بإحداث اختراق ينسف الموقف الدولي المؤيّد لتسوية القضية الصحراوية ضمن مسار الحلّ الأممي، ورغم مزاعمه وادّعاءاته، فلا دولة وافقته على الحل الأحادي الذي يطرحه لإبقاء الإقليم الصحراوي تحت قبضته، وكلّ الدول بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وحتى الكيان الصهيوني، أكّدوا في كلّ فرصة ومناسبة دعمهم الكامل للعملية السياسية الأممية في الصحراء الغربية حتى الوصول إلى حلّ سياسي عادل يضمن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.
وعكس أوهام المخزن ومغالطاته، فحتى إدارة بايدن لم تلتفت مطلقا إلى قرار ترامب المخالف للقوانين الدولية، بل لقد اعتبرته لا حدث، وجدّدت تمسكها بمسار الحل الأممي.
في الواقع، لا تكفي هذه الوقفة للاحاطة بكلّ الأحداث التي شهدها عام 2023 ولا بحصر أزماته وقضاياه المعقّدة، والتي ستنتقل قسرا إلى العام 2024، ما يتوقّع معه أن يكون عاما أكثر خطورة.
وتبقى كلمة الختام، المطالبة وبإلحاح شديد، بوقف المذبحة التي تطال الفلسطينيين وبالتوقّف عن دعم مجرمي الحرب، فعيب على دول كبرى أن تستأسد على شعب أعزل ومحاصر، وتمارس بحقّه أبشع أنواع الإبادة والحصار والتجويع، وعلى الجميع أن يعلم بأن التاريخ لا ينسى.