قد لا يختلف اثنان في كون أن الثورات العظيمة يصنعها رجال عظماء ذوي أفكار ثورية جامحة، وأصحاب قيم ووطنية عالية يتميزون عن باقي الناس بأنهم يمتلكون صفات خاصة من ذكاء يفوق حد العبقرية، ويتوفرون على كاريزما تجعلهم قدوة للآخرين لأنهم أهل فكر استشرافي وبعد نظر.
بقلم محمد بوعزارة
إنّ كل هذه المزايا والصفات هي التي تؤهّل هؤلاء الرجال لقيادة تلك الثورات، ومن ثمّة قيادة الرجال وإبراز أكفإ وأقدر الرجال والنساء على البذل والعطاء والبروز، والدفع بتلك الثورات للنجاح، ذلك أنّ البحث الدائم عن المتميزين وعن الحلول والبدائل الدافعة للهمم والعزائم والباعثة على الانتصار على العدو مهما كانت قوّته وتمكّنه هي التي تجعل أولئك القادة الملهمين يحققون في النهاية الانتصار لأوطانهم، ويخلقون المجد لشعوبهم ويتركون الأثر الطيب في سجل تاريخهم عمّا خلفوه من جلائل الأعمال وكثرة الخصال، ثم إنهم يوصلون في النهاية أفكار وصدى ثورات بلدانهم، وصيتها وتأثيراتها للآخر مناصرا كان أو عدوا.
وإنّ هذه الصفات جميعها نكاد نلمسها في سي المبروك، العقيد عبد الحفيظ بو الصوف، أحد رموز الوطنية والنضال والجهاد، الذي ودعناه في ذلك اليوم 31 من ديسمبر من عام 1980، أي منذ 43 عاما.
ولئن توقّف قلبه النابض بالثورة، فإنّ أفكاره وأعماله ستبقى شاهدة عليه تلهم الأجيال، بل وتجعل كل من قرأوا عنه أو شاهدوا خصاله موثقة بالصوت والصورة يعتز بماضي ثورة أول نوفمبر.
لا أعتقد أن هناك قائدا من قادة الثورة كُتب عنه كما كُتب عن المرحوم بو الصوف أو تحدث عنه رفاقه بإعجاب كما تحدّثوا عن بو الصوف.
أحد العباقرة.. انسحب بشرف
لقد كان بحق أحد العباقرة الذين كان لهم أكبر الأثر في تقييم مسار ثورة أول نوفمبر في مختلف مراحلها، وهو الذي انسحب بشرف وبصمت العظماء عقب استعادة الاستقلال، موصيا رفاق دربه بأن يبدؤوا مسيرة الجهاد الأكبر جهاد البناء والتشييد وتقوية اللحمة الوطنية، بعد أن أدّوا دورهم الريادي في الجهاد الأصغر، جهاد النفس والتحرير واستعادة بناء الدولة الوطنية.
ورغم أن بو الصوف كان يوصف بأنه العلبة السرية للثورة، وكان بعضهم يهاب من ظله، بل إنّ معظم الذين تولوا مسؤوليات كبيرة بعده كانوا من تلاميذه، ومن بينهم الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله، فإن الراحل الكبير بو الصوف لم يطعن في شرف الرجال، ولم ينتقد الماضي ولم يسب المستقبل كما فعل غيره، لقد آثر أن يلتزم صمت الكبار وينسحب كما يفعل العظماء.
وعندما نحاول الغوص في دراسة أدبيات وأفكار ومسارات ثورة أول نوفمبر 1954، نجد أنّها فعلا كانت من صنع هذه العينة من أولئك الرجال المتميزين، ولكنها صنعت في المقابل كذلك الرجال والنساء، وأسهمت بإشعاعاتها لا في تحرير الذات الجزائرية ممّا علق بها من ترسبات استعمارية طيلة 132 سنة بكل ما حملته من آثار القتل والإبادة الجماعية والظلم والقهر والكبت، فإذا بثورة أول نوفمبر تغير كل ذلك الواقع المرير، وتساهم لا في تحرير الإنسان الجزائري من كل ترسبات الماضي الاستعماري البغيض، بل وفي تحرير عديد الأوطان خاصة بلدان الجوار وبلدان العمق الإفريقي.
ولذلك فإنّ معجزة الانتصار على واحدة من أكبر القوى الاستعمارية في القرن العشرين، والتي كانت مدعومة بآلة الحلف الأطلسي لم تكن أمرا عاديا ولا حدثا عابرا.
ولئن كانت ثورة أول نوفمبر تعبيرا عن عبقرية شعب، فإنها كانت كذلك من صنع رجال لم يكونوا عاديين.
كانت تلك الثورة مدعومة بمنظومة أفكار، وبفلسفة عميقة لم يكن مبتكروها لا خرّيجو جامعات أو كليات حربية أو مدارس عليا في علوم السياسة والاتصال، ولكنهم كانوا أصحاب فكر خرجوا من صلب الشعب، وكانوا مناضلي قضية آمنوا جميعا أنّ الحلول السياسية مع القوة المستعمرة لم يعد لها من مجال لاسترداد كرامةٍ مهدورة، وحقٍ مستلب لشعب لا علاقة له بماضي وحاضر ومستقبل تلك القوة المستلِبة المغتصِبة للأرضِ، والمهيمنةِ على حق الشعب في استعادة استقلاله وتحقيق حريته واستقلاله.
بو الصوف إذا، هو واحد من تلك العيّنة المميّزة، ومن تلك الصفوة المختارة من أولئك الرجال الذين تشبعوا بقيم الوطنية والنضال في صفوف حزب الشعب، والذين فتحوا عيونهم على الظلم والقهر والحرمان والجوع، وعلى حرب الإبادة التي كان الشعب الجزائري يتعرض لها منذ احتلت فرنسا هذا الوطن في صائفة 1830، والتي كان آخرها مجازر ماي 1945 التي عاشها بو الصوف الشاب.
ولذلك قام بو الصوف كما تذكر بعض الشهادات بتمزيق العلم الفرنسي، وبرشق مركزٍ للدرك الفرنسي بالحجارة وهو ما يزال في سن التاسعة عشرة من عمره ،حيث كان مناضلا في تلك السن المبكرة في صفوف حزب الشعب، الذي كان بحق مدرسة للوطنية وللأفكار الثورية، ثم راح يعبئ المناضلين في سكيكدة بعد أن أرسلت قيادة حزب الشعب المناضل الصلب محمد بلوزداد عقب تلك المجازر للعمل على إعادة هيكلة حزب الشعب في الشرق الجزائري.
يذكر العقيد الأخضر بن طبال رحمه الله في الصفحة 54 من مذكراته بعنوان: (مذكّرات الدّاخل Mémoires de l’intérieur)، بأنه عرف بو الصوف منذ 1944، وأنه كان يتميز منذ تلك الفترة المبكرة من شبابه بقوة شخصيته واعتداده بنفسه، فقد درس القرآن في إحدى المدارس القرآنية بمسقط رأسه ميلة ثم انتسب بعد ذلك للمدرسة النظامية إلى أن نال الشهادة الابتدائية، وبعدها أصبح يَعتمد على نفسه يبيع السجاير تارة، ويبيع بعض المنتوجات كبائع متجول تارة أخرى في عديد مدن الشرق الجزائري، خاصة في قسنطينة إلى غاية تأسيس المنظمة الخاصة برئاسة محمد بلوزداد، التي أصبح بو الصوف أحد أعضائها البارزين.
غير أنّ اكتشاف ذلك التنظيم الذي كان سيعلن عن اندلاع الثورة في 1950 ثم الزج بمعظم أعضائه في سجون الاحتلال،جعل قيادة حركة انتصار الحريات الديمقراطية تقرّر اعتبارا من مارس من ذلك العام توزيع مختلف المناضلين التي لم تتمكن سلطات الاحتلال من اكتشافهم أو إلقاء القبض عليهم إلى ثلاثة مناطق من الوطن كانت تشكل بؤرا أمنية لمناضلي الحركة، وهذه المناطق هي الأوراس ومنطقة القبائل والغرب الجزائري أو ما كان يعرف بالقطاع الوهراني، الذي تقرر أن ينتقل له كل من العربي بن مهيدي وعبد الحفيظ بو الصوف وعبد المالك.
وهكذا أصبح هذا الثلاثي القادم كله من الشرق يُعد للثورة من هناك، ويقيم علاقات واسعة مع العديد من المناضلين في مختلف مدن الغرب الجزائري من وهران إلى تلمسان إلى غليزان وعين تموشنت ومستغانم من أمثال الحاج بن علة والشهيد أحمد زبانة وغيرهم انتظارا لساعة الصفر.
وخلال اجتماع القادة 22 بالمدنية (سلامبي سابقا) في جوان 1954 في بيت المجاهد الراحل إلياس دريش رحمه الله، والذي كان بن مهيدي وبو الصوف وعبد المالك بن رمضان من بين أقطابه، تقرّر تعيينُ الشهيد بن مهيدي قائدا للناحية الخامسة بالغرب بمساعدة بو الصوف وعبد المالك بن رمضان، الذي كان أول شهيد في الرابع من نوفمبر 1954 من ضمن مجموعة 22.
وفي اعتقادي أن الحديث عن دور بو الصوف في تأسيس إذاعة الثورة يكون مبتورا دون الحديث عن هذه الشخصية الفذة والمميزة في التنظيم والانضباط والسرية، وفي معرفة الرجال وفي تقديم الأفكار والبدائل.
كان بعض زملائه يصفونه بالحربا، التي لا تستطيع أن تتبين لونها الحقيقي، فقد كان يتميز بالذكاء الحاد وبقوة الشخصية وبالسرية التامة والحذر الشديد من كل ما يحيط به من قريب، حتى أنه عندما أصبح وزيرا في الحكومة المؤقتة في 19 سبتمبر 1958 جعل مكتبه عاليا حتى لا يتمكن الآخرون رؤية بعض الوثائق التي يضعها فوق مكتبه.
وكان ممّا يُروى عنه أنه قال لرفقاء دربه يوما، بأنّه على المجاهد أن يكون شرسا مثل النمر الجائع الذي ينقض على فريسته، وأن يكون في نفس الوقت خفيف الظل مثل الفراشة، وأن لا يعرف الكسل ولا الملل.
حمل سي بو الصوف قبل اندلاع الثورة العديد من الأسماء أثناء الأعوام الأربعة التي قضاها مع رفقائه للإعداد للثورة، وكان من بين تلك الأسماء الحبيب، وأحمد المراكشي وأرموند، لكنه بعد اندلاع الثورة لم يعد يصاحبه سوى اسم سي المبروك.
يقول عنه أحد أعضاء المالق وهو حاج حدو محمد في كتابه: “المحاربون عبر الأثير وشهداء التاريخ”: كان بو الصوف يجسّد العبقرية التي مكّنت جيش التحرير من خيرة فرق الترميز، وأنه كان يجسد السرية وحب الوطن.
أما رفيق دربه المجاهد عبد الكريم حسني رحمه الله، فإنه يقول في أحد الحوارات بأن بالصوف كان نموذجا لا مثيل له في عالم المعلومات ومكافحة التجسس والسرية والشفرة والتنظيم، وأنّه عمل جاهدا منذ 1956 على بناء المستقبل وأن الثورة الجزائرية قد استطاعت في تلك الفترة بفضله وبفضل الشباب الذين كونهم أن تهزم أحد أقوى الجيوش في ميادين شتى.
الحديث عن بو الصوف من طرف رفاقه يطول، ولا أريد أن أعدّد الخصال والصفات التي تطرّق لها الكثير من رفاقه، ومن بينهم العضو السابق في “المالق”، ووزير الداخلية الأسبق دحو ولد قابلية في كتابه: (بو الصوف والمالق الوجه الخفي للثورة.. ) Boussouf et le MALG, la face cachée de la Révolution وهو كتاب من 537 صفحة، أنصح كل من يريد الاطلاع على جزء هام من تاريخ الثورة خاصة في مجال المواصلات والاتصال أن يقرأه، ناهيكم عن كتاب الراحل الأمين بشيشي بعنوان: (أضواء على إذاعة الجزائر الحرة المكافحة) وكتاب محمد دباح: (كنّا نلقّب بشبكات الراديو المتنقلة..)، وكذا كتاب محمد لمقامي رحمه الله: (رجال الخفاء..)، وكتاب محمد خلادي: ( de boussouf a kennedy liberté et foi ).
كل هذه الكتب وغيرها تحدّثت عن بو الصوف، ودوره الكبير في إنشاء شبكة واسعة للاتصال والمعلومات، وفي بعث إذاعة الثورة وفي تزويد الثورة بثماني ورشات لصناعة السلاح.
في مطلع 1956 أوصى الشهيد العربي بن مهيدي نائبه سي مبروك الذي كان مرفوقا بالنقيب هواري بومدين الذي كان التحق في 31 مارس 1955 بالثورة أن يفكّروا في إطلاق إذاعة باسم الثورة تكون سندا للثورة في مواجهة الدعاية الاستعمارية وتقدّم للشعب الجزائري صفحات من تاريخه المجيد، وتبثّ بياناتها وأخبارها إضافة إلى تقديم تعليقات سياسية لمواجهة الحرب الدعائية من قبل فرنسا التي كانت تحاول زرع الشكّ والتعتيم في صفوف الشعب وخلق الدعايات المغرضة عن الثورة.
كانت فرنسا تلك الفترة قد استحدثت إذاعة (صوت البلاد) وهو برنامج يومي راحت فرنسا تبثّ من خلاله مختلف السموم بأصوات جزائرية مُوحية كلّ مرة للشعب الجزائري بأنّ الثورة من صنع مجموعة من (الفلاقة) وقُطَّاع الطرق والمخرّبين والإرهابيين وغيرها من الأوصاف المشينة بحقّ المجاهدين والفدائيين، وأنّه سيتم القضاء عليهم قريبا، ثم استحدثت فرنسا إذاعات في مختلف المدن الجزائرية، إضافة إلى ما كانت توزّعه من بيانات مكذوبة وما توزّعه الطائرات من أطنان المنشورات في مختلف جهات الوطن وما تقوم به من دعايات وحرب تعتيم بواسطة المصالح المختصة من مخابرات ومختصين في الحرب النفسية والدعائية، كما كانت فرنسا تستعدّ لإطلاق التلفزيون قبيل نهاية ذلك العام ضمن حربها النفسية والإعلامية والدعائية الشاملة التي خصّصت لها حوالي مليار ونصف المليار من الفرنكات يوميا.
وقبل التحاق الشهيد بن مهيدي بلجنة التنسيق والتنفيذ وبالعاصمة، بدأ بو الصوف في التفكير الجدّي في انطلاقة تلك الإذاعة.
غير أنّه لا يجب أن يفوتنا هنا أنّ قيادة الثورة كانت قبل ذلك العام، ومنذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة، قد شرعت في بث برامج وتعاليق وتحليلات سياسية خاصة في إذاعة صوت العرب بالقاهرة قبل أن تتوسّع العملية لتشمل 15 إذاعة في مختلف جهات العالم التي تمكّنت فيها قيادة جبهة التحرير الوطني من إسماع صوت الثورة لمختلف أنحاء المعمورة.
وإذا كان بيان أول نوفمبر يعدّ أول عمل إعلامي جسّد أهداف الثورة ووضع معالمها بكلّ جلاء ووضوح خصوصا في ما يتعلّق باستعادة الاستقلال واسترجاع بناء الدولة الجزائرية وفق منظور ديمقراطي اجتماعي ضمن المبادئ الإسلامية، فإنّ البيانات والمناشير وكذا صحيفة المقاومة في 22 أكتوبر 1955 ثم المجاهد في جوان 1956 لم تكن كافية لتحقيق أهداف الثورة، ولذلك فإنّ المرحوم بو الصوف أخذ توصية المرحوم بن مهيدي على محمل الجدّ.
وهكذا، مع مطلع 1956، بدأ عبد الحفيظ مع محمد بوخروبة الذي أطلق عليه بو الصوف اسم هواري بومدين الإعداد لذلك المشروع، وهذا قبل أن ينظم لهما بعد إضراب الطلبة في ماي 1956 كلّ من أحمد التاوتي المعروف بشعبان والذي استشهد في أول نوفمبر 1957 والسايح الميسوم المعروف بالحنصالي.
كانت قيادة تلك الناحية تتوفر على عدد من التقنيين الجزائريين الذين بدأ الراحل بو الصوف في إعدادهم.
كان بو الصوف إلى جانب كلّ الصفات التي يتميّز بها القائد يمتلك استراتيجية متكاملة للثورة في بعدها العسكري والأمني والاتصالي والإعلامي والدعائي والنّفسي.
وخلال تلك الفترة التي كان فيها الراحل بو الصوف يعدّ الخطة لبعث تلك الإذاعة، وصلته معلومات من داخل القصر الملكي المغربي في عهد الراحل محمد الخامس الذي كانت علاقاته وثيقة مع الثورة الجزائرية وقادتها.
كانت تلك المعلومات تقول إنّ فرنسا قد أرسلت للقصر الملكي المغربي ضابطا متميّزا في سلاح الإشارة تابعا للقوات الفرنسية من أصل جزائري لتنصيب أجهزة تنصّت وإرسال داخل القصر ولصالح الجيش الملكي المغربي، وأنّ ذلك الضابط سبق له أن شارك فرنسا في حرب فيتنام.
كان هذا الضابط هو النقيب علي ثليجي الذي أصبح اسمه الحربي لاحقا تحت قيادة الثورة الرائد عمر ثليجي، والذي تحمل جامعة الأغواط اسمه حاليا.
كان العقيد بو الصوف صارما يختار مساعديه بدقّة، كان هذا الرجل الثوري يدقّق في كلّ شيء، فهو يبحث في الصغيرة والكبيرة فيما يتعلّق بالأحداث وبالأشخاص قبل أن يسند لهم أية مهمة أو مسؤولية، وكان يبحث عن أكفإ الرجال والنساء.
طلب من رجاله أن يأتوه بهذا الضابط المجنّد في صفوف القوات الفرنسية ثليجي.
وهكذا تمت ترقية هذا الضابط ليصبح رائدا تحت لواء جيش التحرير الوطني، ومن هنا كانت البداية مع عمر ثليجي وموسى صدار ومسعود زقار وعبد الكريم حسني للإعداد لانطلاقة الإذاعة وتحضير عمل شامل يساعد قيادة جيش التحرير في الحصول على المعلومات المتعلّقة بتحركات العدوّ، وكذا إقامة قاعدة اتصال لتنفيذ أهداف الثورة في دحض سياسة العدوّ، وإقامة شبكة اتصالات بين مختلف قيادات الولايات ومع مختلف هيئات الثورة داخل وخارج الوطن.
ومع إضراب الطلبة في ماي 1956 جاءت مجموعة من الشباب الذين قرر بو الصوف أن يجمعهم ضمن 36 متربّصا في دورة مغلقة مدة شهر ابتداء من 8 أوت 1956.
وقد قام الثلاثي ثليجي وصدار وعبد الكريم حسني بتدريب هؤلاء الشبان الذين شكّلوا النواة الأولى في سلاح الإشارة وفي إطلاق إذاعة الثورة صوت الجزائر الحرة المكافحة في 16 من ديسمبر 1956.
كان التدريب قاسيا يبدأ يوميا من السادسة صباحا إلى غاية منتصف النهار، ثم يستأنف بعد الظهر إلى غاية السابعة مساء.
وهكذا فإنّ المرحوم مسعود زقار الذي كانت تربطه علاقات وثيقة مع بعض الضباط الأمريكيين في قاعدة نواصر الأمريكية بالمغرب، قد تمكن مع مطلع أكتوبر 1956 من شراء معدّات هامة وشاحنة من نوع GMC استخدمت في سلاح الإشارة، وانطلاق البث لصالح إذاعة الثورة.
أشرف على عملية انطلاق إذاعة الثورة في 16 ديسمبر 1956 العقيد عبد الحفيظ بو الصوف الذي كان مصحوبا بنوابه الثلاثة في الولاية الخامسة التي أصبح على رأسها عقب مؤتمر الصومام وانتهاء مهمة العقيد الشهيد محمد العربي بن مهيدي كلّ من :
ــ الرائد محمد بوخروبة المعروف بهواري بومدين والمكلّف بالجانب العسكري في الولاية الخامسة آنذاك.
ــ الرائد أحمد التاوتي المعروف بالرائد شعبان المكلّف بالجانب السياسي في الولاية الخامسة والذي استشهد في أول نوفمبر 1957.
ــ الرائد السايح الميسوم المعروف بالرائد حنصالي المكلّف بالمخابرات في الولاية الخامسة والذي استشهد في 27 جويلية 1957.
وكان إلى جانب هذه الكوكبة الرائد علي ثليجي.
وقد تشكّل الفريق الأول لتلك الإذاعة من عدد من المذيعين والمحرّرين من بينهم :
رضا بن الشيخ الحسين الذي كان يحمل اسم عقبة بالعربية.
وعبد المجيد مزيان الذي كان يحمل اسم صلاح الدين بالفرنسية.
وأحمد بن عبد الله الذي كان يحمل اسم يوغرطة بالقبائلية.
كانت برامج الإذاعة مع انطلاقتها الأولى عبارة عن بثّ أخبار عن الثورة وتعليقات سياسية وبرامج تتمحور حول تاريخ الجزائر بما فيه تاريخ المقاومات الشعبية ضدّ المحتل.
وبعد فترة من البث، تعرّض جهاز الإرسال إلى خسائر نتيجة القصف الذي تعرّضت له من طرف طائرات الاستعمار الفرنسي الذي أقلقته تلك الإذاعة بما كانت تبثه.
ثم عاودت هذه الإذاعة البثّ من جديد في 1959 إلى غاية استعادة الاستقلال في 1962، حيث كان على رأسها طيلة هذه الفترة الملازم محمد السوفي رحمه الله الذي سبق لي أن تطرقت إلى جزء من مساره في كتابي : (الرجل الذي رفض الوزارة ).
وإذا كانت المرحلة الأولى التي تولى فيها مسؤولية تلك الإذاعة عبد الحميد غوار قد تميّزت ببثّ مباشر وبعمليات تغيير لجهاز الإرسال كلّ مرة، فإنّ المرحلة الثانية انتهجت فيها الثورة أسلوبا مغايرا، وهو فصل جهاز الإرسال عن البرنامج الذي كان يتم بثه، حيث كان يتم تسجيل الأخبار والبرامج ليتم بثها لاحقا.
وقد جرت عملية انطلاق الإذاعة في المرحلة الثانية بعد تشكيل الحكومة المؤقّتة برئاسة فرحات عباس في 19 سبتمبر 1958 حيث أصبحت استراتيجية الثورة واضحة في مختلف المجالات بما فيها الجانب الإعلامي والدعائي الذي تم إسناده إلى رجل الثورة الفذ والإعلامي المميّز امحمد يزيد الذي أضافت خبرته السياسية في مجال الدعاية والإعلام جرعات قويّة للثورة فأربكت خطط الاستعمار رغم الآلة الحربية والدعائية التي وظفها في محاولة للقضاء على الثورة، وخاصة بعد الانقلاب العسكري الذي قاده مجموعة من الجنرالات الفرنسيين الدمويين الذين وعدوا دوغول بعد تنصيبه في 13 ماي 1958 بالقضاء على الثورة في ظرف قصير لا يتجاوز النصف الأول من العام الموالي 1959.
حضر عملية انطلاق إذاعة الثورة في مرحلتها الثانية كلّ من سعد دحلب الأمين العام للحكومة المؤقتة وبوعلام بالسائح ممثلا للوزير العقيد بو الصوف وزير العلاقات العامة والاتصالات.
وكان من أبرز الرجال الذين عملوا كطاقم في تلك المرحلة: المدني حواس ورشيد النجار كمحررين للتعليقات السياسية والأخبار وعيسى مسعودي كصوت جهوري مميّز، حيث كانت التعليقات التي يبثها عبر تلك الإذاعة تهزّ مشاعر الشعب الجزائري وتلهب حماس المجاهدين، إلى جانب الشاعر الفذّ صاحب الصوت الجهوري هو الآخر محمد بوزيدي، وعبد العزيز شكيري صاحب القصة المعروفة في 28 أكتوبر 1962 عندما قام بإنزال العلم الفرنسي من فوق مبنى الإذاعة والتلفزيون وأصبح منذ ذلك اليوم جزائري الهدف والصوت والصورة بعد أن كان قبل ذلك يبث كلّ سموم الاستعمار وأكاذيبه.
كما كان عدد آخر من المجاهدين يعمل بإذاعة الثورة سواء بالفرنسية أو القبائلية، من أمثال عبد السلام بلعيد ومصطفى التومي وكمال داودي.
وكان يسهر على تلك الإذاعة فريق تقني كان من بين أعضائه عبد الرحمن الأغواط المعروف بالعروسي والسعيد كشرود وقدور ريان والعقيد السابق في الجيش الوطني الشعبي عمار معمري وغيرهم رحمهم الله.
وكان لهذه الإذاعة صدى كبيرا في أوساط الشعب الجزائري وفي أوساط المجاهدين لما كانت تبثّه من تعليقات حماسية عمّقت درجة الوعي لدى الشعب الجزائري بحتمية الانتصار وجعلت فرنسا تقدم على أكثر من مشروع فاشل ومن بينه ستوديو كليبير بفرنسا الذي حاول تقديم نسخة مفبركة من إذاعة الثورة تماما كما فعلت فرنسا قبل ذلك مع صحيفة المجاهد التي زوّرت بعض نسخها.
ولكن كلّ تلك الألاعيب لم تنطل على الثورة ولا على الشعب الجزائري، فقد توقف استوديو كليبر تماما كما انكشفت قبله لعبة تزوير المجاهد.
وبذلك ربحت الثورة معركتها في الكفاح المسلّح ميدانيا، وفي معركة المواصلات والاتصال والإعلام، فانهزمت فرنسا وخرجت مدحورة في جويلية 1962 بعد ثورة كانت من أعظم ثورات القرن العشرين.