تراهن الجزائر في ظل السياق الاستثنائي، الذي يفرض على أي دولة تتبوأ مقعدا غير دائم بمجلس الأمن جملة من التحديات، على العمل الجماعي وبناء جسور تواصل، تكرس العمل متعدد الأطراف، بالاعتماد على علاقتها الجيدة مع الدول. وتكون رؤيتها لحفظ السلم والأمن الدوليين نقطة قوتها، ومواقفها المستمدة من مبادئ سياستها الخارجية ركيزة عملها.
تعيش الجزائر حدثا بارزا على المستويين الوطني والدولي مطلع العام 2024، متمثلا في انضمامها بصفة عضو غير دائم بمجلس الأمن الأممي للمرة الرابعة، بعدما تم انتخابها بأغلبية ساحقة بـ184 صوتا عن جدارة واستحقاق بفضل جهود جبارة.
تتزامن عضوية الجزائر الرابعة، مع وضع عالمي استثنائي، يتميز بالتشابك والتغير المستمر بوتيرة متسارعة والاستقطاب، وضع غير مسبوق ازداد تأزما في السنتين الأخيرتين بعد الحرب الروسية ـ الأوكرانية، ومع مستجدات الوضع في غزة ازداد التعقيد والتجاذب والاستقطاب أكبر للمجتمع.
وستعمل الجزائر خلال عهدتها الممتدة بين سنتي 2024 و2025، على إرساء ديناميكية لبناء جسور، وخلق توافقات على مستوى مجلس الأمن، تحدّ صعب في ضوء تشابك المصالح وتعارض المواقف في المشهد الدولي.
لن تكون المهمة سهلة في ظل وجود أجندات متباينة وفي كثير من الأحيان متعارضة، ولعل أهم أوراقها الرابحة علاقاتها الجيدة والمبنية على الاحترام المتبادل مع الأعضاء الدائمين، ولكن كذلك ستنسق جهودها مع جهود الدول ذات العضوية غير الدائمة.
وأفرز السياق الاستثنائي عدة تحديات، تأتي في مقدمتها الأزمة التي ألمت بمنظومة الأمن الجماعي، إذ يعيش مجلس الأمن، كبنية مركزية لهذه الأخيرة، حالة شلل وإخفاق مستمر، برز في 2022 وازداد حدة في العام 2023، بالنظر إلى عدد القرارات والبيانات الصحفية التي تراجع بشكل كبير، مقارنة بالسابق.
ويحول تآكل العمل متعدد الأطراف الذي يأتي في مرتبة ثانية، مقابل بروز العمل الأحادي بقوة، دون تحقيق توافقات بالرغم من أهميتها، ويصعّب العمل المشترك الذي يسمح بالتصدي إلى الكثير من التحديات ذات أبعاد أمنية وتنموية أو بيئية.. وغيرها.
ولا يمكن إغفال معطيات أخرى لا تقل أهمية، عودة ظاهرة الاستقطاب الدولية بكل ما تحمله من أخطار وتداعياتها تلقي بثقلها على جميع الدول، معطى يميز بدوره التحديات. إلى ذلك، يسجل تراجع الدول الوازنة في مسألة نزع السلاح الشامل، الذي يتجلى بوضوح من خلال خروج روسيا من عديد الاتفاقيات الدولية؛ أمر يتسبب في لا توازن ويفاقم على الأرجح التهديد بشأن مسار نزع حظر الأسلحة ذات الدمار الشامل.
على المستوى الإقليمي، يُسجل تأزم غير مسبوق، تعكسه بوضوح أربعة مشاهد مقلقة، يتعلق الأمر بتزايد وامتداد بؤر التوتر في المحيط الجغرافي للجزائر، وتحديدا الوضع في الساحل، وفي مالي والنيجر وليبيا بالخصوص؛ بؤر توتر تنعكس على أمننا وسلامة ترابنا الوطني.
وتخص النقطة الثانية، تزايد انتشار آفة الإرهاب وتوسع رقعته في ضوء الفراغ، مسألة أخذت حيزا كبيرا من انشغالات مجلس الأمن، وتم تسجيل عديد العمليات الإرهابية والإمكانات المتاحة للإرهابيين، وكذا العلاقات الترابطية بينهم وبين منظمات الجريمة المنظمة، عقّد من مواجهته.
إلى ذلك، ستشكل عودة قوية لظاهرة التغييرات غير الدستورية محور عمل دبلوماسي في المستقبل القريب على مستوى مجلس الأمن. علما أن الجزائر من أوائل الدول التي رافعت لتضمين بند يتعلق بها في ميثاق الاتحاد الإفريقي.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال، إغفال نقطة أخرى تخص تراجع الدور العربي والإفريقي في أجندة الأمم المتحدة.
وتفرض كل هذه المعطيات والتحديات على الجزائر بصفتها عضوا غير دائم في مجلس الأمن، أن تحدد أهدافا تقوم على العمل المشترك، لعل أهمها بناء الجسور وتحقيق توافقات، من أجل التوصل إلى إجماع داخل مجلس الأمن.
ولأن الميزة الأساسية لسياستها الخارجية الاستقلالية وانسجام مواقفها مع مبادئها، فلن تكون بأي حال منفذة لما تمليه الفضاءات الجهوية، بالرغم من أنها ستكون لسان حال انتمائها العربي والإفريقي.
ولأنها تؤمن بالعمل الجماعي وتضافر الجهود، فإن الجزائر ستعمل أيضا على تشكيل كتلة من الدول المتجانسة داخل مجلس الأمن، على ألا تميل لأي كتلة. وبالموازاة مع ذلك، سيتم التركيز على خصوصية الرؤية الجزائرية، من منطلق إسهامات الجزائر العديدة في حفظ السلم والأمن الدوليين وكذا التنمية، والتي ستستغلها في الدفع بأجندة القارة والمجموعة العربية.
ولن تحيد الجزائر وهي تعمل على تحقيق أهدافها خلال العضوية عن قيم ومبادئ جوهرية، أبرزها التمسك بأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، والحل السلمي للنزاعات، مع الحرص على حماية الوحدة الترابية. وسيكون تفعيل الحلول السلمية والوساطات وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، الحل الأمثل وفق مبادئ الدبلوماسية الجزائرية.
ويكتسي مبدأ عدم الانحياز بالغ الأهمية، الذي طالما آمنت الجزائر به وطبقته، وتنأى بنفسها عن الميول إلى أي طرف.
سيكون دعم الجزائر للقضايا العادلة، في مقدمتها القضيتان الفلسطينية والصحراوية، وكذا في دول الجوار والدول العربية، من منطلق رصيدها التاريخي، وتراعي مصالح الشعوب في إطار مقاربة متوازنة مبنية على المصلحة العامة، لا الضيقة.
وفيما يخص الأولويات، فإن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون حددها في خطابه أمام الأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، وتحدث عنها بإسهاب وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج أحمد عطاف، وأهم الأولويات ذات الطابع الشامل إعادة تفعيل وتعزيز العمل متعدد الأطراف في مواجهة مختلف التحديات، على غرار تجنب النزاعات والاعتماد على الحلول السلمية.
عادة ما يعمل مجلس الأمن على احتواء النزاعات بدل معالجة جذورها، مثلما هو الشأن بالنسبة للإرهاب، والجزائر التي تترأس فوجي عمل، أمام فرصة تأكيد دورها الريادي في إفريقيا.
أما الأولويات ذات الطابع الإقليمي، فتخص فضاء الانتماء؛ الساحل وفلسطين والسودان وغيرها من الدول.. ويأتي تصحيح الظلم التاريخي، متمثلا في تغييب إفريقيا في مجلس الأمن، في مقدمة الأولويات ذات الطابع المؤسساتي، وهناك عدة مقترحات قدمتها دول دائمة العضوية وغير دائمة، تصب في دمقرطة طريقة عمل الهيئة، لكن ما ينبغي التأكيد عليه أنه وحده مجلس الأمن يقرر التعديل من عدمه.