صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في سياق رسالته الفكرية لإطْلاع قادة الرأي العرب والنخب الثقافية في العالم العربي على ما يُنتج في الغرب من مؤلفات حديثة ذات قيمة متجددة تخص قضاياهم الكبرى، كتاب “لا سلام لفلسطين – الحرب الطويلة ضد غزة، الاحتلال والمقاومة” (Kein Frieden für Palästina. Der lange Krieg in Gaza, Besatzung und Widerstand)، للعالمة السياسية الألمانية هلغى باومغرتن، الحائزة على شهادات عليا في التاريخ والعلوم السياسية وعلم الاجتماع والصحافة واللغات الإنكليزية واللاتينية والعربية، والتي عالجت في مؤلفاتها قضية فلسطين وصراع الشرق الأوسط والتحولات السياسية في المنطقة العربية، وكانت أطروحتها لنيل الدكتوراه في جامعة برلين الحرة حول نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية وتطورها منذ عام 1948 حتى عامَي 1967-1968.
وقد صُدِّر كتابها موضوع البحث بهذه الجملة: “في ذكرى ضحايا الحروب الصهيونية على غزة – إلى أطفال غزة: من بيت حانون إلى رفح”. درّست باومغرتن، بعد انتقالها للإقامة في القدس الشرقية مع زوجها الموسيقي الفلسطيني مصطفى الكرد، في جامعة بيرزيت بالضفة الغربية، وترأّست معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية. ترجم لا سلام لفلسطين عن الألمانية محمد أبو زيد، وراجع النص عصام سليمان. يقع الكتاب في 248 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
تاريخ يستوطن الذّاكرة
السابع من أكتوبر 2023 تاريخ لن يمر مرور الكرام..يجتاح مقاتلو المقاومة فجأة جميع خطوط “دفاع” جيشٍ نشأ وترعرع وعاش على العدوانية، و«كان” يسمّي نفسه زورًا جيشَ “الدفاع”، ساحقين في طريقهم جدار غزة ومعبرَه “إيرز”، والنتيجة الصاعقة: المعبر الحصين في يد الحركة، راكبو طائرات شراعية يحلقون فوق الجدار، ومقاتلون آخرون يخوضون البحر ليلتقوا مع إخوانهم المستعدين للاشتباك مع جيش الاحتلال، ولكن..لم يعد ثمة وجود لهذا الجيش، فمقر فرقة غزة، القطاع الذي حوَّله أبشعُ الاحتلالات وأكثرها إجرامًا أكبرَ سجنٍ مكشوف في العالم، يصبح أثرًا بعد عين، جنودُه وضباطه إما فارّون أو قتلى أو أسرى، أما مستوطنات غلاف غزة التي رسمت طوقًا خانقًا وطويلًا على رقبة حوالى مليونين من قاطني القطاع فتذْرَعُها أقدام المقاومين جيئة وذهابًا، ملؤها الصمت والأَسْر..
ساعات تمرّ ولا ردَّ فعل صهيوني، ليصل إلى أسماع الغزاويّين بعدها ذلك الذي يعرفونه منذ أن عرفوا الاحتلال: الجيش الصهيوني بصدد تسوية غزة بالأرض، وعجن لحوم أبنائها ودمائهم بحجرها، وقد أطلقها وزير دفاعه يؤاف غالنت بلا حياء: “الفلسطينيون حيوانات بشرية”، وجميعهم “إرهابيون” و«دواعش”، متسلّحًا بالعنان الذي أطلقته له أوروبا والولايات المتحدة، اللتان حوَّلتا بسحر الإعلام الخادع فيهما، فبلغتا من النفاق والرياء حدًّا لم يعد مقبولًا، حتى ألمانيا شاركت في تشريع الباب أمام الكيان الصهيوني لتهجير شعب إلى دولة أخرى، وللاستمرار في استعمارها الاستيطاني، وتعزيز نظام الفصل العنصري في حق الفلسطينيين، وانغماسها في مزيد من جرائم الحرب ضدهم، وكل ذلك تحت صورة “الحمل البريء” المدافع عن نفسه ضد “العزّل”.
الهيجان في رمال غزّة المتحرّكة
لقد آن أوان الإدارات الأمريكية والحكومات الأوروبية للإذعان لمنطق أن القوة المادية التي فُضلت بها دولهم على بقية الأمم، إذا ظلت سيفًا للدعم الأعمى للمعتدي ولم تُستخدم للضغط الشديد على الكيان الصهيوني كي يوقف جنونه واحتلاله وفصله العنصري ويفك حصاره عن الفلسطينيين، وتقبُّل العيش إلى جانب دولة فلسطينية، فإنها ستكون كمن يسعى للخلاص من رمال متحركة لا يلبث أن يغرق فيها، فهل استطاعت إخضاعَ قطاع غزة سبعُ حروب صهيونية، خمس منها قام بها نتنياهو؟ ألم تُوْدِ في النتيجة إلى هجوم 7 أكتوبر الأخير؟ هل نجحت عملية “أمطار الصيف” في 2006 لفك أسر جلعاد شاليط بإطلاقه إلّا بمفاوضات استمرت خمس سنين مقابل 1027 من الأسرى الفلسطينيين؟ هل كانت حصيلة عملية “الرّصاص المصبوب” في 2008-2009 لوضع حدٍّ للهجمات الصاروخية الفلسطينية بعد 22 يومًا سوى صفر من المطلب الصهيوني واستمرار إطلاق الصورايخ، ولكن بحصيلة ثقيلة هذه المرة من دماء الفلسطينيين العزّل قدرت بـ 1400 قتيل؟ وهل انتهت معركة “عمود السحاب” في 2012 التي أرادها الكيان الصهيوني للقضاء على قدرات المقاومة الصاروخية، سوى بـ 165 شهيدا فلسطينيًّا و1500 صاروخ على البلدات الفلسطينية المحتلة؟ وهل حقّقت عملية “الجرف الصامد” الصهيونية في 2014 لهدف الحرب السابقة نفسه، سوى إيغال الإجرام الصهيوني أكثر في سفك دماء البيئة الحاضنة للمقاومة الفلسطينية، وإزهاق أرواح – وفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في 3 أكتوبر – 2189 شهيدا مدنيًّا، 70 في المئة منهم أطفال، وهدم 113 ألف منزل؟ وهل استطاع الكيان منع صواريخ حركة الجهاد الإسلامي التي أفلتت من منظومة “القبة الحديدية” من السقوط على أراضي 48 التي يقطنها اليهود إثر إعلان الحركة معركة “صيحة الفجر” في 2019 ردًّا على قتل اثنين من قادتها؟ وهل منع الكيان عام 2021 سقوط 12 قتيلًا صهيونيا بصواريخ “كتائب القسام” إثر اقتحام قوات الاحتلال المسجد الأقصى وتفريقها المحتجّين الفلسطينيين على تزايد اعتداءات المستوطنين ومحاولاتهم الاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين، على الرغم من تسبُّب قصفها المضادّ على غزة والذي استمر 11 يومًا، في قتل 243 فلسطينيًّا، منهم 66 طفلاً و39 امرأة و17 مسنًّا؟ ألم تكن عملية “الفجر الصادق” بسبب قتل قائد في “سرايا القدس” التابعة لحركة الجهاد الإسلامي في عام 2022 بطائرة مسيَّرة، لتردّ الحركة بعملية “وحدة الساحات”، وإطلاق مئات الصواريخ على مدن وبلدات فلسطينية محتلة بالتعاون مع “كتائب المقاومة الوطنية”، و«كتائب المجاهدين” و«كتائب شهداء الأقصى” الجناح العسكري لحركة فتح؟
شهد عام 2023 إرهاصاتٍ أوصلت إلى ما حدث في اليوم السابع من شهره العاشر، وهو ما يمكن تسميته “أعظم الحروب” على قطاع غزة، التي لا تزال رحاها التي تطحن عظام أطفال القطاع المظلوم تدور، ومن هذه الإرهاصات: اقتحام مستوطنين المسجد الأقصى في أبريل منه، وازدياد وتيرة هدم منازل الفلسطينيين في القدس بحجج واهية، والاستيلاء على بعضها، واقتحام بلدات كثيرة في الضفة الغربية واعتقال شبابها، وقتل الكيان في ماي ثلاثة من قادة الجهاد الإسلامي، التي قصفت بدورها المستوطنات والمدن الفلسطينية المحتلة في عملية سمّتها “ثأر الأحرار”، ما دفع الكيان إلى إطلاق عملية ضخمة ضد قطاع غزة سمّاها “السهم الواقي” قامت خلالها 40 طائرة صهيونية بدكّ المدن الغزّاويّة وتدميرها، ومرة أخرى الكثير من الأطفال يُقتلون، والنتيجة المماثلة دومًا: دماء فلسطينية غزيرة ووقف إطلاق نار برعاية مصرية، لنصل أخيرًا إلى عملية 7 أكتوبر.
استغراب الواقع الألماني
تبدي المؤلّفة دهشتها ممّا يحدث في بلدها ألمانيا تجاه الحرب في غزة، فبدلًا من التعاطف مع شعب غزة الذبيح يجري التشهير بالفنان الفلسطيني الغزّاوي محمد الحواجري واتهامه بـ “معاداة السامية”، ويُهان بـ “تقزز” ألماني متغطرس في وسائل الإعلام الحكومية، لأنه رسم صورًا للهجمات الجوية المدمرة للجيش الصهيوني وعنونها بـ«غرنيكا غزة” [غرنيكا مدينة إسبانية دُمّرت بقصف الطائرات الألمانية في 1937]، وحتى رسامَا الكاريكاتور ناجي العلي وبرهان كركوتلي حُوِّلا – في فضيحة مدوّية كما تقول المؤلفة – في ألمانيا أمثلةً على العداء الفلسطيني والعربي للسامية، ولولا قرار النيابة العامة في كاسل بعدم توافر اشتباه بجنحة تستدعي الملاحقة، فلربما جرَت ملاحقة هذين الفنانين الكبيرين.
تقول باومغرتن [بتصرّف]: “كألمانية أقف مذهولة أمام الهجوم المتكرر والمخجل على الفلسطينيين المسلوبي الحرية والقابعين منذ عام 1967 تحت احتلال منافٍ للقانون الدولي، ونظام استعماري استيطاني، والمفروض عليهم العيش في ظل تمييز يَصدُق عليه بحسب توصيف جميع مؤسسات حقوق الإنسان الدولية المعترف بها أنه عنصري، وهو أمر فظيع لا يقع ضمن إدراك الطلائع السياسية والفكرية الألمانية، التي تحبّذ حتى عدم الحديث عنه، ومن يفعل فقد يفقد عمله، أو لا يحصل على وظيفة، أو يقع إخراسه بطريقة مبرمجة”.
وتستثني المؤلفة مجموعات قليلة في بلادها من اللوثة التي أصابت كثيرين، مجموعات صممت على التضامن مع البشر في فلسطين: من باكس كريستي Pax Christi مرورًا بـ “بيب” BiP، وأطفال اللاجئين في لبنان، ومجموعات التضامن الألمانية – الفلسطينية، وأخيرًا والأشد أهمية، شباب فلسطيني ولد وترعرع في ألمانيا، على سبيل المثال: فلسطين بتحكي!
قصّة “لا سلام لفلسطين”
تقول باومغرتن التي عاشت ردحًا من الزمن في القدس الشرقية، إنّ كتابها هذا كان وليدَ التأثر بمقاومة الفلسطينيين الذين عانَوا طويلًا من عنف الاحتلال والتطهير العرقي في المدينة المقدسة، وردَّ فعلٍ على حرب الكيان الصهيوني ضد بشر قطاع غزة وحجره وضد الضفة الغربية. وتضيف الكاتبة الألمانية أن مقابلة قصيرة مدتها أربع دقائق أجرتها مع قناة التلفزة الألمانية الثانية في 12 ماي 2021 كانت كفيلة بتعليمها كثير من الأشياء الجديدة عن البلد الذي وُلدَت وترعرعت فيه، فتفاعلُ عشرات الآلاف من المواطنين الألمان الذين يدينون بالإسلام عبر إرسالهم رسائل شكر إلكترونية فاجأها ولم تكن تتوقعه، بخاصة شعورهم بأن مقابلتها كسرت ما كان اعتياديًّا وعرفًا سائدًا، لما تضمنته من توجيه شخص في التلفزيون الألماني نقدًا صريحًا لظلم الاحتلال الصهيوني، وتصويره فلسطينيي القدس أناسًا عاديين، واستنكاره منعَ الاحتلال الصهيوني الفلسطينيين من الاحتفال بأعيادهم، ونقله مبلَغَ الإهانة التي يسبّبها العنف الممارس ضدهم من حرس الحدود الصهيوني في باحة الحرم الشريف وطرق مقاومته. وتشير باومغرتن أيضًا إلى شكوى المواطنين المسلمين وشعورهم بالإهانة من النظر إليهم في ألمانيا بوصفهم أناسًا من الدرجة الثانية، ووصمهم في وسائل الإعلام بالمتطرفين، وإلى أنهم لا ينتظرون من دولتهم سوى احترام كرامتهم الإنسانية والاعتراف بها.
وتلخّص باومغرتن المغزى من تأليفها لا سلام لفلسطين بأنه جواب عن كل ما مرَّ ذكره، ومحاولة لعرض هذا الصراع المركزي في شأن القدس وفلسطين وتحليله من وجهة نظر الضحية.
جولة تاريخية
تدور فصول الكتاب حول استعراض تاريخي رائع وذي عبر لمسيرة الفلسطينيين نحو التحرر، بدءًا من التظاهرات وتصرفات قوات الأمن الصهيونية الوحشية تجاهها، إلى عمليات هدم بيوت المقاومين، أو سيطرة المتطرفين اليهود عليها، أو حتى تدمير قرى تدميرًا كاملًا، كقرية خربة حمصة البدوية في غور الأردن في 2021، أو حصارها بالمستوطنات، من دون أدنى نظر من السلطات الصهيونية إلى “اتفاقية جنيف” الرابعة، الملزِمة بحماية المدنيين في ظل الاحتلال وبعدم تدمير ممتلكاتهم. وتشير فصول الكتاب إلى الاستعراضات المسرحية بين الحكومات والسلطة القضائية في الكيان الصهيوني، بحيث تُصدر الثانية قرارًا بإخلاء مستوطنة فتتقاعس الأولى عن تنفيذه ويُنسى مع الزمن. ويتعرض الكتاب لوقوف السلطات موقف المتفرج من اعتداء المستوطنين، والتشدد البالغ في معاقبة الفلسطينيين لأدنى شبهة، في حين تصدر أحكام مخففة جدًّا على المستوطنين المتورطين في قتل فلسطينيين.
أما في ألمانيا والنمسا وسويسرا فقد تعالت أصوات كهذه وسط جالياتها اليهودية، ولكن على نطاق أضيق بكثير.
حركـة المقاطعة وسحب الاستثمارات
أثارت حركة المقاطعة للكيان الصهيوني لأجل التصدي لسياسته البغيضة، الاهتمامَ العام في عام 2018، مع إستير بيارانو، وأصبحت محل جدل شديد في الفضاء الألماني بجهدِ أكثر من 170 منظمة ونقابة، بعد انضمام بيتر بينارت وإيلان بابيه ومجموعة من اليهود الصهاينة ويهود الشتات إلى الحركة ووصفهم الكيان بالدولة العنصرية. وأثمرت حركة المقاطعة عن تأييد حكومة جنوب أفريقيا بلا تحفّظ.