لا شك أنّ الجميع ما زال يتذكّر ذلك الفيديو الذي لم يتردّد رئيس الجمهورية في عرضه على المسؤولين عن إدارة شؤون البلاد من وزراء وولاة ورؤساء ولاة، فور تسلمه سدة الحكم ذات 12 ديسمبر 2019، الصور كانت مؤلمة لكنها حقيقية، وأبرزت مدى التهميش الاجتماعي الذي تعيشه المناطق النائية، بل قدّمت واقعا مريرا يعيشه ملايين المواطنين، في مناطق أطلق عليها رئيس الجمهورية تسمية “مناطق الظل”، وتعهد بإدراجها ضمن المسار التنموي للجزائر الجديدة التي لا مكان فيها للفوارق التنموية.
ومرّت أربع سنوات كانت كفيلة بطي الملف أواخر سنة 2023، من خلال برنامج تنموي ما يزال متواصلا باستراتيجيات متكاملة تنبع من إرادة سياسية حقيقة، فمن القضاء على مناطق الظل إلى تحرير الاستثمار على مستوى الجماعات المحلية من خلال قانون جديد للبلدية والولاية، يمكن من الاستغلال الأمثل للمقدرات المحلية، إلى برامج سكنية بصيغ مختلفة، ويعتبر إطلاق برنامج السكنات الريفية مع مطلع العام الجديد، مقاربة ناجعة لإعمار المناطق النائية لاسيما الحدودية منها وتغيير وجه الريف الجزائري.
ثمّن الخبير الاقتصادي عبد القادر سليماني، في اتصال مع “الشعب” إعلان الوزير الأول، على إثر زيارة العمل التي قام بها إلى ولاية تندوف، عن إطلاق الصندوق الوطني لمعادلة الخدمات الاجتماعية، تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية، أين ستكون وزارة العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي، الجهة الوصية والمسؤولة مباشرة عن الصندوق، موضّحا أنه سيتم إطلاق الدورة الأولى لعملية إنجاز السكنات الريفية، في إطار برنامج السكن الريفي لسنة 2024، وسيشمل سكان المناطق النائية بما فيها منطقتي الهضاب والجنوب والمناطق الحدودية، إضافة إلى المناطق البعيدة عن المناطق الحضرية، من خلال مساعدة فئتي العمال والمتقاعدين للاستفادة من إعانات لبناء سكنات ريفية، غير خاضعة للتسديد، ولأوّل مرّة، عبر منصّة رقمية تسمح بمتابعة العملية ابتداءً من إيداع الطلبات إلى غاية منح الموافقة النهائية التي سيتحصل المستفيد بموجبها على الإعانة المالية، بكل شفافية، تجسيدا للالتزام رقم 25 لرئيس الجمهورية الذي تعهّد من خلاله على تعميم رقمنة كل الخدمات والمرافق العمومية ذات البعد الاجتماعي.
الدّولة الجزائرية لن تتراجع..
أما بالنسبة للحصص السكنية المبرمجة، فقد أفاد سليماني أن 60 ألف مواطن سيستفيد خلال الدورة الأولى من الإعانات الممنوحة من طرف الصندوق الوطني لمعادلة الاجتماعية، بقيمة مالية تقدّر بـ 30 مليار دج، وهو رقم مهم كما يصفه المتحدث، ويكرّس اجتماعية الدولة الجزائرية، ويجسّد التزامات رئيس الجمهورية بعدم التراجع، بل استحالة التفكير في التراجع عن دعم المواطن الجزائري بكل فئاته الاجتماعية وانتماءاته الجغرافية، من خلال دعم القدرة الشرائية للفئة المتوسطة من عمال ومتقاعدين، وتمكينها من سكنات لائقة بإعانات مالية، حيث تمّ وضع شرط عدم تجاوز 6 مرات الأجر القاعدي بالنسبة للعائلات المعنية بالسكنات الريفية، وهي الشريحة الأكثر انتشارا ضمن التركيبة الاجتماعية لبلادنا.
من جهة أخرى، وفي الشق المتعلق بالسلوك الاجتماعي للأفراد والجماعات، تهدف السلطات العمومية عبر هذه المبادرة – يقول سليماني – إلى توطيد الانتماء المحلي للمواطن وارتباطه بمنطقته. هي مبادرة تدخل ضمن الإستراتيجية الاقتصادية لجزائر جديدة تحتوي كل الشرائح الاجتماعية، تحرر الطاقات وتمنح الفرص لجميع الفئات دون استصغار أي منها، في إطار التوازن الجهوي والتوزيع العادل للثروة.
وعلى ذكر الثروة، شدّد الخبير الاقتصادي على أن الإستراتيجية الاقتصادية الوطنية قد تضمّنت محورا مهما يتعلق بالاقتصاد العائلي والعائلات المنتجة كقيمة مضافة لا يستهان بها، وفي هذا الصدد قامت القطاعات الوزارية المختلفة، من بينها وزارة التضامن بتشجيع الأسر المنتجة ودعم المرأة الريفية وتمكينها من ممارسة نشاطات حرفية مدرة للثروة.
إستراتيجية الاستثمار العمومي..
تتّجه الجزائر بإرادة قوية نحو الاستثمار العمومي خاصة بالمناطق الحدودية، ويحمل الإعلان عن إطلاق الصندوق الوطني للمعادلة الاجتماعية من ولاية تندوف تحديدا، عدة دلالات اقتصادية واجتماعية وسياسية، مفادها – يؤكّد سليماني – أنّ الجنوب الكبير والولايات الحدودية والمناطق المعزولة جزء لا يتجزّأ من الجزائر، فقد أكّد رئيس الجمهورية في كل مناسبة على إدماج الولايات الحدودية ضمن الحركية الاقتصادية للبلاد، وجعلها بوّابة ذات بعد اقتصادي وحضاري، ولا يمكن لذلك أن يتحقّق دون إعمار هذه المناطق من خلال اعتماد مختلف الصيغ السكنية المصممة حسب القدرات المالية والدخل العائلي للأسرة الجزائرية، وتحويلها إلى أقطاب اقتصادية واستثمارية، على غرار ولاية تندوف التي تعتزم الجزائر تحويلها إلى مدينة منجمية بامتياز، إضافة إلى فتح منطقة نشاط حرة بها مع بداية السداسي الثاني من السنة الجارية.
المقاربة نفسها سيتم إسقاطها على كل من إن صالح، إن قزام، برج باجي مختار وتمنراست، وهو ما اعتبره الخبير الاقتصادي طفرة ديناميكية تندرج في إطار اقتصاد المعابر الحدودية، التي ستتمكّن من فك العزلة عن المناطق الحدودية الجنوبية، وتحقيق تنمية محلية مستدامة تقضي على الفوارق التنموية بين الشمال والجنوب، وتمنح لهذا الأخير ترتيبه الريادي في معادلة خلق الثروة. واعتبر سليماني تجسيد برنامج السكنات الريفية بدعم من الصندوق الوطني لمعادلة الخدمات الاجتماعية، جهدا جديدا يضاف إلى مساعي الدولة الجزائرية من أجل تنمية المناطق الريفية، خاصة مع المخطط الإداري الجديد الذي تمّ بموجبه تكريس للامركزية وتقريب الإدارة من المواطن، باستحداث 10 ولايات جديدة، لها احتياجاتها ومتطلباتها من المرافق العامة والهيكلية، بما فيها السكنات الاجتماعية بصيغها المختلفة، إلاّ أنّ السكن الريفي يبقى الصيغة الأنسب لمثل هذا التخطيط العمراني، الذي سيلعب دورا مهمّا في تحقيق التوازن الجهوي وتجنب ضغط يصعب احتواؤه من حيث ضمان التزويد بالماء الشروب، وتدفق أنرتيت وتوصيل الكهرباء والغاز.
مدن ريفية مكتملة الهياكل..
من جهة أخرى، ومن أجل تشجيع إعمار المناطق الريفية ومنحها ما تستحق من رفاه وعيش كريم، تعهّد رئيس الجمهورية بتخصيص سكنات وظيفية للأطباء والأساتذة والموظفين ممن يرغبون بالالتحاق بالمناطق الجنوبية أين سيتم إنجاز مرافق عمومية وهياكل بمعايير راقية مثل المركبات السياحية والمسابح العمومية والمزارع النموذجية، ومراكز بحوث وأقطاب جامعية وشبكة طرقات وسكك حديدية تصل أقصى الجنوب بمختلف مناطق البلاد، على غرار خط السكة الحديدية الرابط بين غارا جبيلات، تندوف وبشار، الخط الرابط بين بوغزول، الأغواط والجلفة الذي سيصل مستقبلا إلى غاية المنيعة وتمنراست لفك العزلة عن منطقة الهضاب العليا وأقصى الجنوب.
وكمكسب آخر يضاف إلى المسار التنموي على مستوى الريف الجزائري، سيساهم قانون البلدية والولاية الذي سيرى النور قريبا، في تثمين المقدرات المحلية وفتح مجال الاستثمار وخلق فرص العمل بالبلديات الغنية من حيث الموارد الباطنية، ولكنها تبقى فقيرة من حيث تمركز المشاريع الاستثمارية والعائدات الجبائية، وبالتالي يرى سليماني أنّ تزامن تجسيد برامج سكنية بهذه البلديات مع بداية تطبيق قانون البلدية والولاية الجديد، ومنح سلطة أكبر لرؤساء البلديات والولاة لتحرير الاستثمارات بمناطق الهضاب والجنوب الكبير، إلى جانب التسهيلات التمويلية والقروض البنكية لفائدة المرأة الريفية، سيسمح باندماج أكبر لساكناتها في مساراتها الاقتصادية الحضارية، وتتويجا للمكاسب التنظيمية التي ستستفيد منها.
وفي السياق، ثمّن المتحدّث إنشاء 5 ولايات منتدبة، بريكة، عين سارة، مسعد، بوسعادة وأفلو، معتبرا هذه الخطوة تعزيزا للامركزية وتعزيزا لتنمية مناطق الظل التي شكّلت نقطة بداية الإصلاحات التي باشر بها رئيس الجمهورية منذ تولي قيادة البلاد، وتعهد بالقضاء على كل صور الإقصاء والتهميش التي عانت منها هذه المناطق لعقود طويلة. وسيلعب المخطط الوطني لتهيئة الإقليم دورا مهما في تحويل مناطق الهضاب العليا والجنوب الكبير إلى مناطق ذات حرية اقتصادية متكافئة، وتلك التي تعرفها المناطق الشمالية. بالمقابل يشكل العقار الفلاحي الوجه الآخر للمسار التنموي الريفي، باعتبار الفلاحة النشاط الرئيسي لساكنة الهضاب والسهوب، حيث سيتم توزيعه بشكل عادل على مستحقيه من المستثمرين المحليين، وفتح آفاق جديدة من أجل تحقيق الاستقلالية الاقتصادية بهذه المناطق التي يتوقع لها الخبير أن تعرف نزوحا عكسيا من الشمال إلى الجنوب بهدف الاستثمار، مع ذكر مثال امتيازات استغلال مساحات واسعة من الأراضي الفلاحية بالجنوب لكبرى المؤسسات العمومية والخاصة، بهدف تحفيز الإنتاج الفلاحي بها وتشجيع التبادل التجاري ما بين الولايات، وحتى نحو دول الجوار عبر مناطق التجارة الحرة.
ولخّص سليماني سلسلة البرامج السكنية التي يتم إطلاقها الواحدة بعد الأخرى، في الخطوات الصارمة من أجل صون كرامة المواطن التي تبدأ من الحق في سكن لائق، ومنصب شغل يضمن عائدا منتظما للأسرة الجزائرية، والتوزيع العادل للثروة، ممّا سيضمن تحقيق الاستقرار الاجتماعي واستعادة ثقة المواطن.