أعلنت السلطات الانتقالية في مالي، تملصها من اتفاق السلم والمصالحة الوطنية، المنبثق عن مسار الجزائر، بطريقة متهورة تحمل مخاطر جمة على البلد ومنطقة الساحل ككل، وأظهرت ضعفا فظيعا في المهنية الدبلوماسية، حين شنت حملة شعبوية ضد المجموعة الدولية التي بذلت جهودا مضنية بالأمس القريب من أجل وحدة مالي وسلامها المستدام.
لجأ العسكريون المسيطرون على الحكم في باماكو، إلى افتعال أزمات غير مبررة، وإطلاق حملات تضليل واسعة النطاق، ضد الشركاء الدوليين والأصدقاء التقليديين للبلاد، ليعلنوا في النهاية الانسحاب من اتفاق السلم والمصالحة الوطنية مالي.
هذا القرار وطريقة إعداده، لا يشكلان مفاجأة ولا يحملان جديدا، وإنما يمثلان قفزة أخرى نحو المجهول، وتكرارا لمحاولات سبق وجربتها السلطات المتعاقبة في حكم البلاد منذ ستينيات القرن الماضي، وانتهت جميعها إلى الفشل في إدارة ملف الشمال. لقد كان مؤكدا امتلاك من يتولون إدارة المرحلة الانتقالية في مالي، بعد تنفيذهم لانقلاب عسكري مزدوج في 2020 و2021، النية المسبقة لإنهاء الاتفاق والتملص منه نهائيا، من خلال تحالف الضباط الانقلابيين مع السياسي المعارض شوغويل كوكالا مايغا، الذي اختاروه كوزير أول.
هذا الأخير، عرف دائما بمعارضته للاتفاق الموقع بالجزائر، وكونه صاحب مقولة «التطبيق الذكي للاتفاق»، فيما يعتقد العسكريون بخيار الحسم العسكري كسبيل وحيد لإدارة ملف شمال البلاد والتعامل مع مطالب الفصائل السياسية والمسلحة. ورغم الالتزامات التي منحوها للشركاء الدوليين والإقليميين، في الأيام الأولى للانقلاب، بالالتزام بالاتفاق والعمل على تنفيذه، إلا أن تثاقل خطواتهم وتخلفهم عن الاجتماعات الدورية للجنة الدعم والتنفيذ حمل إشارات كافية على اللجوء إلى أصوات البنادق، لا أصوات الحكمة والعقل.
كان يمكن للسلطات الانتقالية في مالي أن تطلب – وفق الأعراف الدبلوماسية المعروفة – إنهاء تدويل أزمة البلد، كي تدرجها ضمن أجندة داخلية محضة، تتعامل معها ضمن أطر حوار وطني شامل ووفق منطق سيادي، لكنها تصرفت بغرابة مدهشة، وقامت بشن حملات تشكيك وتشويه للمجموعة الدولية، وحاولت إقناع الرأي العام الداخلي في مالي، بأنها قوى تكن الشر للبلاد. وعن طريق الاستخدام المضخم للسيادة الوطنية، والاستغلال الحماسي الشعبوي لفكرة التحرر، طلبت هذه السلطات إنهاء عهدة بعثة الأمم المتحدة المدمجة لاستعادة السلم والاستقرار في مالي (ميونيسما)، وأوقفت التعامل مع المهام التدريبية العسكرية لعدد من الدول، ولجأت – في المقابل – إلى اقتناء عتاد حربي للتفوق الجوي والتعاقد مع مرتزقة أجانب، وأطلقت وصف «الإرهابي» على كل من يعارضها تقريبا.
استمر الانقلابيون، في خطتهم إلى أن وصلوا، في الأيام القليلة الماضية، حد التحامل على الجزائر، باعتبارها الوسيط الرئيسي للسلم والمصالحة، وتصرفوا ضدها، الطريقة ذاتها التي يتصرف بها الذباب الالكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي حينما يطلق حملات التشويه.
الشعب المالي الشقيق ينبغي أن يعرف أمام ما أظهرته السلطات الانتقالية القادمة عبر الانقلاب، من ضعف كفاءة في إدارة الدبلوماسية، ينبغي للشعب المالي الشقيق، أن يدرك مجموعة من الحقائق الدامغة التي يمكنه البناء عليها لاستشراف المستقبل القريب. الجزائر، حسب مراقبين، وعكس الحملات التضليلية، لا تفرض منطقها على الماليين، ولا تتدخل في شؤونهم الداخلية، وقادت المفاوضات التي دامت أزيد من ثمانية أشهر عام 2014، بناء على طلب من قيادة مالية شرعية منتخبة، مثلها الرئيس الراحل إبراهيم أبوبكر كيتا.
كانت تلك المرة الرابعة التي تلجأ فيها باماكو إلى وساطة الجزائر، نظرا لروابط التاريخ والجوار والأخوة، ورغم تعقيدات الأزمة وخطورتها، وبعد محاولات التوجه نحو وسطاء آخرين، إلا أن الجزائر رحبت بالأشقاء الماليين، وتولت قيادة وساطة دولية شاركت فيها المجموعة الدولية كاملة.
هذه المجموعة الدولية كانت ممثلة بكل من: الأمم المتحدة، الإتحاد الإفريقي، المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، دول الساحل، الإتحاد الأوروبي زائد فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وقبل بداية مسار المفاوضات، استحدثت الأمم المتحدة، باسم المجتمع الدولي، بعثة أممية شكلت من 12 ألف عنصر، ونشرتها في شمال مالي، لإنهاء الاقتتال بين جيش مالي والفصائل السياسية والمسلحة شمال البلاد، والمساهمة في محاربة الإرهاب، وأنفقت عليها ملايير الدولارات حتى تؤدي مهمتها. وانتهت الوساطة التي قادتها واحتضنتها الجزائر إلى اتفاق للسلم والمصالحة الوطنية، كانت حكومة باماكو، ممثلة بوزير الخارجية الحالي عبدو اللاي ديوب، أول موقع بالأحرف الأولى عليه، تلته حركات «الأرضية»، بينما تخلفت قليلا «تنسيقية حركات الأزواد». وبذلت الجزائر جهودا مضنية لإقناع كافة الفصائل بالتوقيع، ووضعت خطوطا حمراء في الاتفاق الإطار، تمثلت في احترام الوحدة الترابية لمالي وسلامتها الترابية، وعلى أساس ذلك بدأت المفاوضات.
وعليه، فإن السلطات الانتقالية، تريد – بنية مبيّتة – تغليط الرأي العام عندما تتحامل على الجزائر، فباماكو في هذا الاتفاق ليس عليها التزام معنوي وأخلاقي أمام الجزائر فحسب، وإنما يقع عليها التزام أمام المجموعة الدولية، بأن لا تكون سببا في اندلاع الحرب مجددا. وزير الخارجية في الحكومة الانتقالية الحالية المدعو ديوب، يجوب المنابر زاعما أن اتفاقية السلم والمصالحة لم تعد صالحة لبلاده، بينما كان هو أول من وقع عليها قبل 9 سنوات، وإذا كان يعتبرها، غير مناسبة، اليوم، فجزء من حركات الشمال، اعتبرتها غير مناسبة آنذاك، ومع ذلك أقنعتها الوساطة الدولية بقيادة الجزائر بالتوقيع عليها، حرصا على المصالح العليا لمالي وسعيا لتحقيق سلم مستدام.
لجوء السلطات الانتقالية في مالي إلى استخدام القوة العسكرية معتدة ببعض الطائرات بدون طيار، يعتبر وفق متابعين، محاولة أخرى لتجريب الخيار العسكري ضد حركات سياسية ومسلحة معترف بها من قبل الأمم المتحدة والقانون الدولي كأطراف في مسار التسوية. وسبق تجريب هذا الخيار في العقود الماضية من تاريخ مالي، وأثبت فشله ودائما ما انتهى إلى طلب مساعدة الجيران والشركاء في الوساطة والحوار. المؤكد أن الخطر هذه المرة أكبر، بالنظر إلى وجود أطراف خارجية تنفخ في رماد الساحل الإفريقي، ومع وجود مسالك تهريب وتجارة الأسلحة والتمويل عبر مناجم الذهب وأموال المخدرات الصلبة، ستصل شرارة الحرب إلى مناطق بعيدة، بينما يظل الشعب المالي المتضرر الأكبر.