بدأت بوادر تحوّلات عميقة تظهر جليا، في منطقة الساحل، بداية بانقلابي مالي اللذين تبعهما انقلابا النيجر وبوركينافاسو، وتشكيل تحالف دفاع مشترك، ثم الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وفك الارتباط العسكري الأمني مع مستعمر الأمس، وبناء علاقات عسكرية جديدة مع فاعلين جدد في القارة، كلها مؤشرات تدل على مسارات جديدة، قد تكون في صالح أمن تلك الدول ظاهريا، لكنها تحمل تهديدات ومخاطر عليها وعلى دول الجوار التي طالما قدمت العون والمساعدة في سبيل إيجاد توازن يخدم جميع الأطراف بأقل الأضرار، ويضمن أمنا إقليميا يجعل دول المنطقة في مأمن من حروب استنزفت طاقاتها وثرواتها، ويزيد من فعالية مكافحة التهديدات الجديدة.
تحوّلات عميقة تشهدها منطقة الساحل الإفريقي (مالي النيجر بوركينافاسو على وجه التحديد)، في ظلّ التوازنات الدّولية الجديدة، وظهور قوى صاعدة بدأت تأخذ مساحة أكبر على الساحة الدولية، وحولت اهتمامها من مناطقها القريبة إلى إفريقيا عموما، ومنطقة الساحل خصوصا. وكما يثبته التاريخ، فإنّ المناطق التي تستقطب التنافس الدولي، تشعل معها صراعات ونزاعات، وهو أمر حتمي لتضارب الاستراتيجيات وتضادها.
تزايد الـنشاط الإرهـابي
منذ العام 2015، تحول مركز نشاط الإرهاب العالمي من منطقة الشرق الأوسط، في سوريا والعراق، ليستقر في منطقة الساحل الإفريقي، بعد هزيمة ما يسمى تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في العراق والشام “داعش” بداية من 2014، (أو نهاية أدوارهما هناك).
وزاد من سهولة نشاطه في منطقة الساحل، الانفلات الأمني في ليبيا بعد إسقاط نظام معمر القذافي، ووقوع مخازن الأسلحة في أياد مختلفة، ومن ثم انتشارها في كلّ دول الساحل وصولا إلى إفريقيا الوسطى، وأشارت تقارير أممية آنذاك، إلى وجود ما لا يقل عن مليون قطعة سلاح متداولة في المنطقة. وهو ما فتح الباب أمام استقواء التنظيمات الإرهابية المحلية، وانضمام بعضها إلى راية أحد التنظيمين الدمويين سالفي الذكر.
وعلى الصعيد ما دون الإقليمي، أصبحت مالي تؤدي دور الفاعل المؤثر في دول الجوار، خاصة النيجر وبوركينافاسو، حيث حصلت فيها تباعا انقلابات عسكرية، ثم أعلنت معا إقامة حلف دفاعي مشترك، قبل أن تعلن الأحد الماضي، عن الانسحاب معا من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “ إيكواس” التي فرضت عقوبات على الدول الثلاثة الأعضاء فيها، عقب الانقلابات العسكرية.
لكن تأثيرها هذا لم يكن من غير تبعات أمنية داخليا، وعلى دول المنطقة عموما، إذ أشار تقرير معهد الاقتصاد والسلام لعام 2023، إلى تراجع مالي في ترتيب الدول الأكثر أمنا، بأربعة مراتب، بعد أن كانت في المرتبة 149، تراجعت إلى المرتبة 153 كما سجلت ارتفاعا في عدد القتلى في المعارك، من ألفي قتيل، في أقل من ألفي مواجهة العام 2022، إلى 5000 بنهاية 2023، أي بنسبة 154 بالمائة، منها نحو ألف قتيل في مواجهات مع التنظيمات الإرهابية، في أقلّ من 5000 مواجهة أو معركة حدثت بين مختلف الجهات، سواء كانت حكومة مع جماعات إرهابية، أو مع جماعات إثنية، أو بين الجماعات الإثنية نفسها، وكذا بين الجماعات الإرهابية من فروع تنظيم القاعدة العالمي، خاصة بين ما يسمى “فرع القاعدة لنصرة الاسلام والمسلمين”، وما يسمى تنظيم “الدولة في إمارة الساحل”.
وأوضح التقرير أنّ تراجع مؤشر السلام في منطقة الساحل عموما، ومالي على وجه التحديد يعود إلى التنافس الدولي، بين القوى التقليدية والقوى الجديدة في إفريقيا. وبالتالي زاد الانقسام حول اتفاقات التعاون في مجال مكافحة الإرهاب بين مؤيّدي هذا الطرف الخارجي أو ذلك.
السلام والمصالحة الوطنية
إذا كانت هذه الأرقام المروّعة لأعداد القتلى، قد سجلت واتفاق السلام قائم بين مختلف حركات منطقة أزواد والحكومة المركزية في مالي، فإنّ التوقّعات تشير إلى انفلات الأمور أكثر بعد انسحاب الحكومة منه.
يذكر أنّ اتفاق السلام والمصالحة الوطنية في مالي، الموقع في الجزائر العام 2015، أخذ بعين الاعتبار جذور النزاع الممتد منذ ستينيات القرن الماضي بين الحكومات المتعاقبة على مالي، وحركات أزواد في الشمال. ففي كلّ حركات “التمرّد” التي شهدها الشمال، كان العامل الاجتماعي-الاقتصادي محركا أساسيا في انتفاضة السكان، خاصة منذ العام 1973، حيث ضرب الجفاف المنطقة الشمالية الصحراوية، وأهلك أغلب الثروة الحيوانية التي يعيش عليها سكان الإقليم، ورغم ذلك، لم توفر الحكومة آنذاك والحكومات التي تلتها، تنمية مناسبة لضمان حياة أكثر رفاهية للسكان.
وبالتالي، ركّز اتفاق الجزائر على جهود التنمية في شمال مالي، من أجل ضمان استقرار السكان واستتباب أمن مستدام. حيث نص الاتفاق، في المادة 31، على ضرورة أن “تعيد الدولة النظر بشكل عميق في التنمية المحلية باتجاه ترك حرية أكبر للجماعات المحلية، لوضع استراتيجيات تنميتها في إطار مقاربة تضامنية- تشاركية، مكيفة مع الواقع الاجتماعي والثقافي والجغرافي المحلي، مما يضمن الشفافية والمساءلة على كافة المستويات”. وفي المادة 36 و38 منه، يفصل الاتفاق في طريقة تحديد الاحتياجات من أجل رفع وتيرة التنمية والحدّ من انتشار الفقر في الشمال.
وممّا جاء في بنود الاتفاق أيضا، أنّ الحلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها الشمال، لابد أن تتضمّن الشقّ السياسي، حيث ينص الاتفاق على “أنّ الأزمات الدورية التي شهدها شمال مالي هي أزمات ذات بعد اجتماعي سياسي، وتتطلب معالجة سياسية، ونصّ على إقامة مؤتمر للوفاق الوطني بين مختلف مكونات الأمة في مالي دون استثناء ( الاستثناء الوحيد هو الجماعات الإرهابية أو تلك التي انضوت تحت لوائها)، وذلك على أساس احترام الوحدة والسلامة الترابية للدولة، وتمكين السكان المحليين من التسيير الفعلي لشؤونهم، وضمان تمثيل أوسع لهم في مؤسّسات الدولة السياسية والأمنية، ما يعزّز الشعور بالانتماء. وضمان ترقية تنمية متوازنة لكلّ جهات مالي، إلى جانب رفض العنف واحترام حقوق الإنسان ومحاربة الفساد والإرهاب، وتجارة المخدرات والجريمة المنظمة، التي من شأنها أن تقوّض أمن أيّة دولة.
كما ينصّ الاتفاق على التكامل في أداء المهام وتقاسمها، بما يضمن توفير الجماعات الإقليمية في مختلف جهات الدولة ما تحتاجه تحت إشراف السلطات العليا للبلاد، في شكل لامتمركز، لتسهيل العمل وتخفيف أعباء الإدارة المركزية. وفي هذا السياق، ينص الاتفاق على أن تعين الدولة ممثلا عنها على مستوى الجماعات الإقليمية لضمان حماية المصلحة العامة.
ولم يغفل الاتفاق مسائل الأمن والدفاع التي تختص بها الدولة حصرا، وهي تضمن شمولية وتمثيل كلّ سكان مالي في مختلف قوات الأمن والشرطة، مع ضمان وحدة القوات المسلحة وقوات الأمن المعاد تشكيلها. كما يتضمّن الاتفاق كيفية إعادة انتشار القوات المسلحة للجيش في شمال مالي، تدريجيا، بما يعزّز الثقة من جديد.
انسحاب غير مؤسّس
رغم أنّ قرار انسحاب باماكو من اتفاق الجزائر للسلام، قرار سيادي، لكنّ الأسباب المعلن عنها ليست منطقية، لأنّ المطلع على نصّ الاتفاق سيجد أنه بعيد كل البعد عن ادّعاء باماكو بأنّ الجزائر تتدخل في شؤونها الداخلية، ومعروف عن الجزائر أنه وفي وساطتها مع أطراف أيّ نزاع تلتزم مسافة واحدة من جميع الأطراف. وقد جاء اتفاق الجزائر بعد ما اخترقت جماعات إرهابية حركات أزوادية ذات مطالب اجتماعية، وطالبت بالانفصال، بل وعملت عليه، عندما سيطرت تلك الجماعات الإرهابية على ثلثي مساحة أزواد، عقب تمرد 2012 الذي كان بدوره نتيجة انهيار النظام في ليبيا. وقد منع الاتفاق الجماعات الإرهابية من تنفيذ مخطط التقسيم الذي كان ليدخل مالي، وكلّ دول الجوار، في دوامة عنف هي في غنى عنها.
كما أنّ الاتفاق، ومثلما تمت الإشارة إليه أعلاه، ركّز على التنمية سبيلا لإنهاء التوتر بين الشمال والجنوب، وإعادة هيبة الدولة وبسط سيطرتها على كامل التراب المالي ضمانا لوحدته في إطار احترام خصوصية الشمال.
ولم يكن استقبال الجزائر لشخصيات موقّعة على اتفاق الجزائر للسلام، إلا خطوة في إطار جهود الوساطة لتنفيذ الاتفاق، وهي بذلك لم تخلّ ببنود الاتفاق ولا بجهود الوساطة، على اعتبار أنّ تلك الشخصيات متضمّنة في مشاورات وجلسات الاتفاق، وقد وقعت عليه. وهي شخصيات معترف بها دوليا في إطار الوساطة، لكن مالي صنفتهم “قادة إرهابيين”، ما يعني أنّها بيتت النية لنسف الاتفاق، وليس زعمها أنّ “الجزائر تتدخل في شؤونها الداخلية”، سوى مبرّر واه، لأنّ الانسحاب من الاتفاق – كما أشرنا – قرار سيادي، لكنّ اتهام الجزائر بتلك التهم لا يمكن قبوله بعد كلّ الذي قدّمته الجزائر للدولة الجارة على مدار عقود من الزمن.
ونظرا لأهمية العامل الديني في تهدئة أو تأجيج النزاعات، فقد استقبلت الجزائر الإمام المالي محمود ديكو، شهر ديسمبر الماضي، باعتباره طرفا موقّعا على الاتفاق، وله نفوذ وتأثير كبير يمكّنه من تهدئة الأوضاع التي شهدت منذ الصائفة الماضية توتّرا داميا. وجاء ذلك انطلاقا من تجربتها في استعادة الأمن الوطني، وكيف كان لاستغلال الدين الأثر البالغ في الاحتقان الاجتماعي، وكيف ساهم فيما بعد في استتباب الأمن من جديد.
وجاء موقف الجزائر رافضا لكلّ الأسباب التي قدّمها المجلس العسكري لتبرير انسحابه من الاتفاق، على خلفية إشاعات أطلقتها أطراف مناوئة للجزائر، وتريد فض وساطتها في النزاع المالي، مفادها أنّ الجزائر قدّمت، خلال اجتماع حركة عدم الانحياز، شهر جانفي، مبادرة بشأن مالي دون الرجوع إليها، وهو ما نفته الجزائر جملة وتفصيلا، وقالت “إنّها ادّعاءات لا أساس لها من الصحة”، وأكّدت أنّ الحلّ العسكري لم يثبت نجاحه يوما، في حال النزاعات الداخلية.
أمن الجزائر من أمن الساحل
كما أنّه من مصلحة الجزائر أن يعمّ السلام في المنطقة، خاصة على حدودها الجنوبية، حيث إنّها تجاور دولا تصنّفها التقارير الدولية والأممية على أنّها دول هشّة، أو دولا منهارة، وتقع على الحدود الصحراوية مترامية الأطراف التي تصعب مراقبتها طوال الوقت، وبالتالي فإنّ استتباب الأمن سيكون أريح لكلّ الأطراف. وممّا لا شك فيه أنه ليس في نية الجزائر التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، ولا أدلّ على ذلك من رفضها التدخل أثناء تمرد 2012، رغم أنّ ذلك كان له تبعات وخيمة على الأمن الوطني الجزائري، التزاما منها بمبادئ سياستها الخارجية: حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول الغير، وكذا اللجوء إلى الحلول السلمية ونبذ العنف.
لذلك عملت الجزائر على تنمية المناطق الحدودية بينها وبين مالي والنيجر، من خلال إقامة مناطق تبادل السلع في إطار المقايضة، وقد خفّفت هذه الاستراتيجية من تنقّل البدو وحياة الترحال التي كانوا يعيشونها وضمنت توافر السلع التي كان يشقّ عليهم إيجادها وتحصيلها.
لكنّ انسحاب باماكو من اتفاق الجزائر، قد يسبّب صعوبات أمنية في مالي نفسها، تمتد حتما إلى دول الجوار، فتوتّر الوضع بين طرفي النزاع سيؤدي حتما إلى نزاع مسلّح، وما ينجر عنه من لاجئين ستتحمّل الجزائر العبء الأكبر منهم، على اعتبار أنّها الدولة الأكثر استقرار وأمنا بين دول المنطقة. حيث يوجد في الوقت الراهن آلاف المهاجرين غير الشرعيين من دولة مالي الذين فرّوا من القتال أثناء تواجد قوات أجنبية على أراضيها، وانسحبت قبل أشهر بطلب من الحكومة هناك. قد حدث ذلك أثناء التزام الأطراف باتفاق السلام، فكيف ستغدو الأمور وقد فضّته باماكو؟!