شرعت فرنسا في تطبيق السياسة الاستعمارية في منطقة القبائل بداية من تكريس الاحتلال النهائي للمنطقة سنة 1857، بقيادة الجنرال جاك لوي راندون، واستكملها ماك ماهون.
هذا ما يؤكده البروفيسور مزيان سعيدي، أستاذ منتدب مكلف بتدريس التاريخ العسكري والإستيراتيجية العسكرية بالمدرسة العسكرية العليا للإعلام والإتصال بسيدي فرج، ورئيس المجلس العلمي بالمتحف الوطني للمجاهد، في حوار مع “الشعب”، ويشير إلى أن سكان منطقة القبائل قاوموا بشدة المشروع الإستدماري الفرنسي الخبيث لفصل المنطقة عن الجزائر.
قانون الإستيطان أثّر على النسيج الإجتماعي والإقتصادي للجزائريين
الشعب: هل من ملخص عن مؤلفكم الجديد، “السياسة الإستعمارية الإستيطانية في منطقة القبائل، ومواقف السكان منها 1871-1914″، ولماذا اخترتم هذه الفترة بالتحديد؟.
الدكتور مزيان سعيدي: الحقيقة أن هذا الكتاب، الذي صدر في جزأين، هو خلاصة أطروحة دكتوراه، أنجزتها على مدى أكثر من ثمان سنوات، من 2001 الى 2009، تاريخ المناقشة كان في أكتوبر 2009، وقد توسعت في إخراج هذا الكتاب فيما بعد من خلال جملة من الأرشيفات الجديدة، التي توفرت لدي.
اخترت منطقة القبائل تحديدا والإطار الزماني 1871-1914 لموضوع دراستي، لأن منطقة القبائل تستهوي كل الجزائريين، وسكان المنطقة جزء من سكان الجزائر، لا نريد بذلك التوجه نحو كتابة تاريخ المنطقة أو التاريخ المحلي، لأن هذا الأخير جزء من التاريخ العام للجزائر.
ما حرّكني هو الردة الحضارية، التي عرفتها المنطقة في 2002، والتي كان من وراءها بعض العلمانيين واللائكيين، الذين هم من منطقة القبائل، لكن لا يمثلون المنطقة، خاصة وأن دعواهم كانت مرتبطة بهذا التأثر بالثقافة الفرنسية، وبالمفاهيم العلمانية الفرنسية.
هذه الردة حركتني على أساس هل مثل هؤلاء يمثلوننا أو يمثلوا سكان المنطقة، ومحاولة إظهار ان هذه المنطقة لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولكن الواقع يقول ان معظم رجالات الإصلاح من المنطقة، وأكبر منطقة في الجزائر فيها عدد من الزوايا هي منطقة القبائل.
ومن أكبر المنافحين عن اللغة العربية والحضارة الإسلامية بشكل عام هم سكان هذه المنطقة، لذلك فمنطقة القبائل حافظت على الهوية والأصالة الحضارية للأمة الجزائرية، هذه الأمور حركتني كباحث، إذا كان المؤرخ لا يتفاعل ولا يعيش زمانه فهو ليس مؤرخا، لابد أن يحيي هذه الأمور التي مضت ويدرس ما هو معروف في التاريخ لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.
فيما يخص اختيار الإطار الزماني، 1871-1914 هو التاريخ الذي تمكن فيه الجنرال راندون، من قمع مقاومة لالا فاطمة نسومر، واحتلال منطقة القبائل بشكل رسمي نهائي، حيث لم يتسن للفرنسيين احتلال المنطقة، إلا بعد 27 سنة من احتلال مدينة الجزائر في 1830، ما يدل أن هذه المنطقة عرفت مقاومة لهذا الإستعمار الزاحف على الجزائر بشكل عام، بدءا من إبرام معاهدة الاستسلام في 5 جويلية 1830، لأن سكان منطقة القبائل أظهروا مقاومة باسلة، وبالتالي تاريخ بدء السياسة الاستعمارية في المنطقة من 1857 الى غاية 1870.
1857 هي سنة البدايات الأولى لمحاولة تنظيم المنطقة إداريا، لكن شرع في السياسة الاستعمارية في 1871.
هذا التاريخ عرف تطبيق الحكم المدني في الجزائر لأنه من 1830 الى 1870 طبق الحكم العسكري وطبق النظام المدني في 1871 إلى غاية إنشاء الجمهورية الخامسة.
وأشير إلى أن الحكم المدني لا يعني أن الحكام، الذين كانوا يحكمون الجزائر مدنيين، والدليل ان أول من حكم الجزائر في 1871 هو الأميرال دوقايدون، وهو رجل عسكري، معناه ان القوانين التي أصبحت تسير المستوطنين الأوروبيين وخاصة الفرنسيين في الجزائر هي القوانين المدنية، بينما الجزائريين، أصحاب الأرض بمن فيهم سكان منطقة القبائل، تسيرهم قوانين عسكرية، عوملوا معاملة الأنديجينا منذ 1830 رغم أن قوانين الأنديجينا ستصدر في شكل قانون نهائي سنة 1881 .
دراستي ارتكزت على تاريخ 1871 لأنها بداية تطبيق “السياسة القبائلية”، وفق المنظور الإستعماري، الذي أطلق هذه التسمية، لفصل منطقة القبائل عن كامل الجزائر من خلال سياسة هدامة.
توقفت دراستي في 1914 لأنه بداية الحرب العالمية الأولى، فبين 1914 و1918 جرى التجنيد الإجباري للجزائريين، وفي 1919 ظهر نوع جديد في المقاومة الجزائرية سميت الحركة الوطنية.
في 1914 بدأت تظهر ملامح فشل “السياسة القبائلية”، التي أرادها هؤلاء الفرنسيين في القرن الـ19 لتثبيتها في الجزائر.
لماذا حظيت منطقة القبائل باهتمام السلطات الإستعمارية الفرنسية على وجه خاص؟.
هو سؤال وجيه، وهو لب الموضوع، حظيت منطقة القبائل بالاهتمام وبسياسة دون غيرها، ليس معناه ان المناطق الأخرى كانت ستنجو من السياسة الإستعمارية، “السياسة القبائلية” جزء من السياسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر ككل، والدليل هو ما كان يطمح إليه الكاردينال لافيجيري، وهو رجل دين، زاوج عمله الديني السياسي مع دوقايدون، الحاكم العام في الجزائر.
الكاردينال لافيجري، رغم انه كانت له سياسة دينية تنصيرية إلا أنه كان رجل سياسة بامتياز.
بدأ نشاطه في منطقة القبائل في 1872، وحاول تكريس هذه السياسة بلبننة الجزائر وجعلها كيانات طائفية، علما انه زار لبنان في 1860، لما عرف هذا البلد ما يسمى الفتنة الطائفية بين الدروز والموارنة.
وقد أُرسل الكاردينال لافيجيري، من طرف البابا لمحاولة مقابلة الأمير عبد القادر، وشكره على العمل النبيل، الذي قام به عندما أنقذ 15 ألف ماروني مسيحي. لبنان تضم المارونيين والدروز لذلك اراد نقل هذه التجربة الى الجزائر بإنشاء كيانات طائفية بدءا بـ”الكيان القبائلي” ثم “الكيان الشاوي”، والميزابي ثم الكيان الترقي، وهكذا نصل إلى المسألة التي كان يتوخاها وهي لبننة الجزائر وجعلها كيانات قبائلية.
لافيجري، لما باشر السياسة التنصيرية كان يتوخى النتائج على المدى البعيد أي على مدى عشرة قرون، مثلما يؤكد كاتبه، ومدارس جول فيري، نبتت في المنطقة وأضحت تحضر لمشروع الإندماج الكامل او السلخ الحضاري وسط الكفالة الحضارية، لان فرنسا لم تكن تعمل على المدى القريب، هدفهم تنفيرنا من ديننا ومحاولة إنشاء ما يسمى بفئة مهلهلة الهوية في منطقة القبائل من خلال عنصر الثقافة والتبجح بالثقافة الأمازيغية، والتنصل من العروبة.
اختيار منطقة القبائل لتطبيق السياسة الهدامة المسماة “الأسطورة القبائلية”، التي ذكرتها في الفصل الثالث من كتابي بعنوان “بين النشأة والتمثيل”، كانوا يتوهمون أن منطقة القبائل هي اقرب إلى السياسة الاستعمارية ومحاولة تطبيقها على سكان المنطقة، وأيضا جغرافية المنطقة أقرب إلى العاصمة، وهي من أكثف المناطق السكانية في الجزائر بحوالي 300 الف نسمة في الكيلومتر مربع، ومجتمعين في مناطق جبلية، وهذه لديها أصولها التاريخية منذ العهد العثماني والفتح الإسلامي قبله.
ويستدلون بأن إسلام القبائليين سطحي، وأن أول ديانة تقبلوها هي المسيحية قبل الفتح الإسلامي. لما نقول إنهم تقبلوا المسيحية فهي المسيحية الأولى السمحة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قبل أن يصيبها التحريف، وبعدها رجع الأمازيغ إلى وثنيتهم نافسوا المسيحية باسم الهردقة المعروفة في التاريخ القديم، والدليل انهم قاوموا الاستعمار الوندالي والروماني والبيزنطي، ولما جاء الفتح الإسلامي وجدوا البيزنطيين، لكن عدد المسيحيين الأمازيغ قليل جدا، فالإسلام أحدث فيهم هذا الإمتزاج الحضاري وجعلهم يساهمون في الحضارة الإسلامية.
لذلك قال الفرنسيون ان إسلامهم فاتر ومن شأن المسيحية ان ترجعهم إلى حظيرة هذا الدين، وبالتالي فهم اقرب الى تقبل المسيحية من العرب، وحسب منظورهم توجد إثنيتين في الجزائر، الأولى العنصر البربري الأصيل، ابن البلد، وفيه عنصر دخيل وهو العربي الذي جاء من شبه الجزيرة العربية، وفرض الإسلام على البربر بقوة السيف، واستدلوا بالمواصفات البيولوجية والمورفولوجية. وبحسبهم إن البربري هو كل أبيض وأشقر وعيناه زرقاوين، فهو قريب الى السكان الفرنسيين، وأكثر شبها لسكان النورمانديين والبيكاردي والبروتون.
بعض مؤرخي فرنسا المتشبعين بالأسطورة القبائلية، يقولون لو تنزع اللباس من النورمندي وتلبسه للقبائلي تجده يشبه الأوروبيين وكأنه فرنسي، والذي شعره أشعث هو عربي لأنه قدم من شبه الجزيرة العربية، ومعروف انه يتحمل الحرارة فهو عنصر بدوي لا يتقبل الديانة المسيحية، بحسب منظورهم.
التسمية الحقيقية هي الامازيغ نسبة الى مازيغ بن كنعان بن نوح عليه السلام، فنحن امة حامية.
لعب الفرنسيون على بعض الأوتار الحساسة لمحاولة استمالة العنصر القبائلي بالدرجة الأولى، حتى لافيجيري، باشر عمله في منطقة القبائل قبل غيرها من المناطق، إيقانا منه أن هذه المواصفات يمكن أن تشجع على الوصول إلى خلق “كيان قبائلي” منفصل كمقدمة لإحداث المشروع الهدام الذي يسمى لبننة الجزائر.
وتمكن غلاة المستوطنين من التأثير على السياسة المنتهجة بكامل الجزائر فكان ان شرعت السلطات الإستعمارية الفرنسية في تطبيق سياستها في منطقة القبائل في جميع الجوانب.
تميزت هذه السياسة بكونها هدامة، جندت لذلك مختلف معاول الهدم لتكريس الهيمنة الفرنسية في كامل معانيها، فحاولت تطبيق سياسة قبائلية مستمدة من أسطورة، أو وهم قبائلي عمل على إذكائه وتفعيل حركيته وتطبيق مرتكزاته سياسيون وعسكريون ورجال دين وأكاديميون فرنسيون على رأسهم السياسي إيميل صاياتي والبرلماني موريس وارني، السيناتور كلماجيران، ومن العسكريين راندون ودوقيدون وشانزي.
ومن رجال الدين قطب التنصير الديني المسيحي في القرن الـ19، الكاردينال لافيجري، ومن الأكاديميين ماسكاري وريني باسي، هنري فورنيل، أوغسطين برك ودومنيك لوسياني وغيرهم كثير.
من المعروف أن سكان منطقة القبائل قاوموا الإحتلال الفرنسي ببسالة، هل يمكن ذكر أهم الإنتفاضات، التي قام بها سكان المنطقة منذ الغزو الفرنسي للجزائر؟.
الأمازيغي منذ القدم معروف بأنه عاشق للحرية، لا يحب من يتسلط عليه، وهي سمة متأصلة في الجزائري إلى يومنا هذا.
الجزائري كريم إذا حسن التعامل معه، لكن إذا عومل بطريقة خشنة ينتفض لأن لديه جينات ثورية لا يحب الظلم، والدليل أن أكثر الشعوب المتأثرة بما يحدث في فلسطين اليوم هم الجزائريون والأقرب إلينا في الأصول هم اليمنيون.
تجلت المقاومة منذ دخول أول وافد هم الفنيقيون، الذي تحولوا إلى قرطاجيين بتأسيس قرطاجة في 114 قبل الميلاد، جاؤوا بصفة تجار مسالمون فسالمناهم، وأنشأوا لنا ما يسمى المرافئ التجارية، لكن بعدما جاء الرومان بصيغة العدوان والاستعمار، وهو أطول عهد استعماري في القديم، قاومناهم وبعدهم البزنطيين وحتى الفتح الإسلامي في بداية عهده ظنا منا ان هؤلاء لا يختلفون عن الاستعمار السابق.
تقبل الأمازيغ الإسلام لأنه كان يدعو إلى الأخلاق الحسنة وهي أساس الرسالة الإسلامية. والأمازيغ معروفون بأخلاقهم إلى يومنا هذا كمعظم الجزائريين، فوقع امتزاج مع الفاتحين والعلماء، والدليل مشاركة الأمازيغ في الفتح الإسلامي فيما بعد لنشر الإسلام في الأندلس، أزهى الحضارات الإنسانية ما تزال أثارها إلى يومنا هذا.
بالنسبة للمقاومة الأخرى في العهد العثماني، الذين أطلقوا عليهم تسمية القبائل، لأنهم كانوا يتمردون على الإستبداد، الذي مارسه العثمانيون، خاصة في قضية الضرائب، وكانوا ينتفضون ضدهم واحتفظ بهذه التسمية الفرنسيون بعد احتلال الجزائر، وقبلا كانوا معروفون بتسمية الزواوة، اي منذ القرن الـ13 نسبة إلى كتاب الغبريني بعنوان ” دراية لمن عرف من العلماء في منطقة بجاية”، لذلك كان يطلق تسمية الزواوة على أساس انه من منطقة الزواوة أي “ايقاوون” باللغة القبائلية.
مقاومة سكان منطقة القبائل لم تنطلق مع بوبغلة، شاركوا في صد العدوان عن مدينة الجزائر، بدءا بسيدي فرج ومعركة سطاوالي، ومدينة الجزائر، شارك فيها أكثر من 15 إلى 30 عرشا، وكل عرش كانت له راية خاصة دفاعا عن المنطقة، وكان منهم القناصة لديهم بندقيات طويلة، يسكنون أعالي الجبل.
ما أقوله مستمد من مصادر فرنسية، تحدث عنها الكولون روبان، في كتاباته عن منطقة القبائل في المجلة الإفريقية.
وستستغل فرنسا ذلك لإنشاء ما يعرف بفرقة الزواف، التي أنشأها الجنرال كلوزيل في 1931، هناك من باع ذمته للإستعمار، وقعت خيانة في دخول بجاية في 1833 وتعرض بوبغلة للخيانة.
بداية من 1840، ستتخلى عنهم فرنسا بعد دخول اللفيف الأوروبي الذي يوجد فيه مرتزقة في الجيش الفرنسي الذي سمى جيش إفريقيا، وفي القرن الـ20 انضم إليهم بعض السينغاليين.
بعدها جاءت مقاومة في صفوف مقاومة الأمير عبد القادر، أحمد بن سالم، كان خليفته في منطقة برج حمزة والثنية، حيث زار الأمير، منطقة القبائل ووصل منطقة يسر، بايعوه وامتثلوا لأوامره، وشاركوا في مقاومة بوبغلة، من 1851 الى 1854، قبل الإنضمام إلى المقاومة الأكثر شهرة هي مقاومة لالا فاطمة نسومر، من 1854 إلى 1857، والتي أبلى فيها سكان المنطقة بلاء حسنا.
اشتهرت المنطقة بهذه المقاومة ونسبت إلى هذه المرأة الصالحة، التي أغمط حقها، هي امرأة زاهدة، متصوفة وامرأة جهاد، كانت تخلو مع ربها من خلال قيام الليل والصوم، لذلك سميت لالا، قاومت ست جنرالات.
حشدت قوات الإحتلال الفرنسي قوات رهيبة جدا وتمكنوا من القضاء على هذه المقاومة في آخر معركة إيشريدن الثانية، وأبادهم الجنرال السفاح راندون، صبيحة عيد الفطر، وتمكن من إحتلال منطقة القبائل في 1857.
وسيستكمل فيما بعده الحاكم ماك ماهون، ما قام به السفاح راندون، الذي كانت إحدى شوارع العاصمة تحمل اسمه. وقد ناديت مرات عديدة بتغيير هذه الأسماء.
بداية السياسة الفعلية الفرنسية كانت في العهد المدني 1871، هذا راجع للمقاومة العسكرية والحصانة التي كانت تتمتع بها المنطقة التي كانت تعج بالزوايا، والطريقة الرحمانية، وبدأوا في السياسة التنصيرية عن طريق إرسال الأب كروزا، الذي شرع في العمل التنصيري الخفي.
إن الوضع المأساوي الذي عاشته منطقة القبائل بين 1871 و1914، استوجب من السكان تضحيات جسام وصبر على الشدائد ومجاهدة للنفس وإيمان راسخ بمناهضة هذه السياسة الهدامة، والتي انبجست منها شخصيات وطنية خلدها التاريخ، فكان محركها الأساسي العقيدة الاسلامية التي ترسخت في القلوب.
منطقة القبائل أنجبت مولود قاسم ايت بلقاسم، الشيخ الطاهر آيت علجت، جمال قنان، وغيرهم.
ذكرتم في مؤلفكم الجديد أن السلطات الإستعمارية الفرنسية، أنشأت أكثر من 146 مركزا استيطانيا، ما هي البدايات الأولى للإستيطان بمنطقة القبائل، وما هو موقف السكان منها؟.
شرع في الإستيطان في العهد المدني 1872، وقسموا المنطقة قسمين، القبائل الشرقية الكبرى من نهر يسر إلى أعالي جرجرة، والقبائل الصغرى، التي تمتد من وراء جبال جرجرة إلى وادي الصومام، ثم وسعت إلى منطقة القل وتتجاوز جيجل وجبال البابور، والقبائل الكبرى قسمت إلى القبائل العليا والمنحدرة، معروفة المنطقة بقلة الأراضي الزراعية خاصة تلك القريبة من العاصمة.
المنطقة، التي شرع فيها الإستيطان هي منطقة تادميت Oceanville، لأنها تتوفر على مناطق سهلية، ويمكن منح آلاف هكتارات من الأراضي للمستوطنين الأوروبيين.
الإستيطان بدأ بعد فشل ثورة المقراني والشيخ الحداد في 1871، حيث صادرت الإدارة الإستعمارية 500 ألف هكتار من كل القبائل التي شاركت في المقاومة.
جنّد الشيخ المقراني، 25 ألف مجاهد وجند الشيخ الحداد، شيخ الزاوية الرحمانية 125 ألف مجاهد من كل القبائل. ومن أصل 500 ألف هكتار منحت 100 ألف هكتار للوافدين الجدد هم الألزاسيون واللوريون، وهي الأراضي المصادرة من القبائل التي شاركت في المقاومة، وبدأت المستوطنات تكثر خاصة في منطقة برج منايل وغيرها.
ومعروف أن هذه المناطق السهبية يسر، برج منايل، بغلية، تادميت، تتوفر على أراضي واسعة.
بدأت المستوطنات تكثر إلى أن وصلت 146 مركز استيطان.
شرحت في مؤلفي كيف حولت هذه المناطق إلى مستوطنات وإنشاء ما يسمى البلديات كأسلوب لمحاولة تشجيع هؤلاء على الإستيطان من خلال نمط استيطاني فرنسي.
إستحدثوا البلديات الأوروبية، التي يقطنها المستوطنون الأوروبيون وتسيرها القوانين نفسها المعتمدة في فرنسا، مثلا تيزي وزو، التي أصبحت بلدية في 1875. في البداية كانت بلدية مختلطة ثم أصبحت بلدية أوروبية.
وفيما بعد بدأت تنشئ بلديات مختلطة تضم عنصر جزائري تسيره قوانين عسكرية والعنصر الأوروبي تسيره قوانين مدنية.
بينما في الأرياف، التي هجر إليها الجزائريون، سميت بلديات أهلية، استحدثوا فيها ما يسمى المكاتب العربية، يسيرها ضباط عسكريون بالإستعانة بالعناصر الموالية للإدارة الإستعمارية من باش اغوات وقياد، في القرن الـ19.
ما هي أهم القوانين الصادرة عن الإدارة الإستعمارية لتقنين الإستيطان؟.
كلمة استيطان معناه اتخذوا الجزائر وطنا لهم، وهذه هي صبغة الاستعمار الفرنسي الإستيطاني، أكبر جرم فرنسي في الجزائر هو محاولة إلغاء وجود دولة كانت قائمة واستغلال العنصر الأهلي وجعله يعيش على هامش الحضارة بجعله أنديجان، سلبت منه أراضيه، لذلك بداية الإستيطان الفعلي في الجزائر كان مع الجنرال السفاح بيجو.
بيجو رجل عسكري، لكي يُرغّب الضباط العسكريين الذين أكملوا خدمتهم العسكرية في الجزائر للبقاء في بلادنا، منحهم أراضي القبائل التي صادرها، ثم للمستوطنين الذين كثر توافدهم إلى الجزائر، خاصة بعد فشل المقاومة المنظمة للأمير عبد القادر وأحمد باي.
التوسع الإستعماري بدأ بالمناطق الساحلية ثم التلية ثم الداخلية. أول مستوطنة أنشأت كانت في بوفاريك في 1936، ولم يجري استيطان منطقة القبائل إلا في 1872 بسبب الظروف التي ذكرتها سابقا.
أكبر قانون للإستيطان هو قانون سيناتوس كونصولت sénateur consulte في 1863، الذي فرق بين الملكية العقارية الجزائرية، لأنها كانت ملكية جماعية خاصة بالعرش، والأراضي المشاعة وأراضي الوقف، الإدارة الإستعمارية فتت هذه الملكية الجماعية إلى فردية واستحدثت نظام العقود أي الموثق.
ومن المعروف أن الموثق غير معروف لدى الجزائريين في العهد العثماني، لأن الملكية كانت تتوارث أبا عن جد، العرش هو الذي يقر ملكية الأراضي، بدءا من شيوخ القبيلة لأن لديهم نظام تاجمعت وهو نظام محمود مستمد من الشريعة الإسلامية.
ومن له وثيقة لإثباتها يتطلب ذلك أموالا طائلة، وبالتالي أرغموهم على بيع الأراضي التي لم تصادر بثمن بخس، جمعت وأصبحت ملكية للدومان أي أملاك الدولة لتوزعها على المستوطنين، بينما الجزائريين لا يملكون حق الملكية، من يمكنه الشراء او امتلاك أرض هم الباشاغاوات والقياد، وهم موالون للإدارة الإستعمارية.
قانون آخر فتت الملكية العقارية هو قانون وارني، في 1873، هذا البرلماني الذي حمل القانون اسمه كان يمثل المستوطنين الفرنسيين في البرلمان الفرنسي، وهو من غلاة المستوطنين، وهو من عمّم الملكية ووزعها على المستوطنين، لذلك توافد عدد كبير جدا من المستوطنين في مرحلة الحكم المدني وتوفر لهم عامل أساسي هو الأمن.
ما هي تبعات هذه السياسة الجهنمية على النسيج الإجتماعي والإقتصادي للجزائريين؟
هذه القوانين أثرت سلبا على الجزائريين، خاصة أن منطقة القبائل معروفة بأنها فقيرة اقتصاديا، ما كان له أثر كبير على تشجيع ما يسمى المقاومة السلبية اي الهجرة.
ثلاث أخماس المهاجرين في فرنسا من منطقة القبائل، بدأت الهجرة خاصة قبل الحرب العالمية الأولى، وبعد فشل ثورة المقراني والشيخ الحداد، لأنه صعب على هؤلاء البقاء في تلك المنطقة والكثير منهم ذهب إلى تونس وفرنسا، لأن المنطقة معروفة بأنها فقيرة جدا إلى يومنا هذا، لا تتوفر على أقطاب صناعية.
وبالتالي الأراضي، التي صادرتها الإدارة الاستعمارية ساهمت في تفقير المنطقة، بغض النظر عن النظام الضريبي الفرنسي المجحف في حق الجزائريين، واستحدثت ضريبة سميت “اللزمة القبائلية”، وتعني انه على كل فرد دفع ضرائب بحسب عدد أفراد العائلة، عدا ضريبة الخراج والزكاة.
وكل من يرعى ماعزه في الغابة دون علم حراس الغابات يدفع غرامة، ونفس الشيء بالنسبة للإنتقال من قرية إلى أخرى، يجب ان يكون لديه رخصة حتى لا تضاعف له هذه الضريبة.
الكاردينال لافيجري حاول لبننة الجزائر وتقسيمها إلى كيانات
وصدر قانون اخر في 1882، ما تزال أثاره إلى يومنا هذا، هو قانون الحالة المدنية الذي غيرت فيه فرنسا ألقاب الجزائريين، وقطعت فيه الوصال التاريخي للأسرة الجزائرية، وأصبحت عائلات جزائرية بألقاب تخدش الحياء.
وإلى يومنا هذا منطقة برج منايل، معروفة بزراعة العنب أي الكروم وهي سياسة فرنسية لمحاولة تشويه البنية الاقتصادية للجزائر، ومحاولة استحداث زراعات بما يسمى تجارية، وبالتالي كثرت زراعة الكروم لإنتاج الخمور، حتى أصبحت الجزائر منطقة تصدير نوع محبوب بالنسبة للفرنسيين هو الخمر الجزائري.
ما رأيك في الدراسات التاريخية، التي تتناول التاريخ المحلي هل هي كافية؟
هي جزء من التاريخ العام، حبذا لو نقدم دراسة عن كل مدينة مثلما فعل المؤرخ الكبير نصر الدين سعيدوني، الذي خص كل مدينة بمجلدات كبيرة، منها قسنطينة، ما يدل على ثراء الجزائر من القديم إلى يومنا هذا.
نحن نشجع التاريخ المحلي شرط أن لا يكون لخدمة أغراض سياسية وإيديولوجية، لأن المؤرخ لابد أن يتحلى بالموضوعية إلى أقصى حد وهذه من الصعوبة بما كان، لأن التاريخ علم غير محايد وثانيا لا يكون وراءها ايديولويجية.
المؤرخ يجمع ولا يفرق.
إذا كانت لديه نية التفرقة لا ينجح في مشروعه الحضاري، التاريخ المحلي تشجعه بعض الجامعات، وهو أمر محمود مثلا جامعة واد ستشجع الدراسات الخاصة بمنطقة وادي سوف، وجامعات بسكرة وتلمسان تقوم بنفس العمل، من خلال الدراسات الخاصة بالولاية التاريخية الخامسة والسادسة.
التاريخ المحلي هو جزء من كتابة التاريخ الوطني بشكل عام، ولكن الهدف الأسمى أن يكون التاريخ مكتوبا بأقلام وطنية.
نعتمد على المصادر الفرنسية التي كتبت عن مونوغرافية المناطق، لكن برؤية جزائرية.
لذلك التاريخ المحلي أمر محمود، ولكنه يجب ان يبتعد عن الإيديولوجية السياسية لخدمة أغراض مبيتة، فقط خدمة العلم، لان كل مدينة تنطق تاريخ الجزائر.
نحن مع التاريخ المحلي، الذي يخدم التاريخ الوطني، يكون فيه البعد الوحدوي حاضرا بقوة، وليس البعد الإنفصالي.