تكبّد جيش الاحتلال الصهيوني خلال أربعة أشهر من العدوان على غزة خسائر هي الأكبر في مواجهاته العسكرية على مدار عقود من الاحتلال، خسائر مادية لا يتحملها اقتصاده المبني على التمويل الغربي، وأخرى بشرية استنزفت وفود المستوطنين المستقدمين الذين فرّ منهم مئات الآلاف منذ السابع أكتوبر.
لن نتحدث عن عدد القتلى في صفوف جيش الاحتلال الصهيوني، لأن القتيل لن يكلف الحكومة سوى نعش وتعويض لعائلته، لكن الحديث سيركز على الخسائر المستديمة التي كبدتها المقاومة الفلسطينية للكيان. خسائر تستنزف خزينته التي تعاني أصلا من عجز كبير جراء الحرب الطويلة التي يخوضها لأول مرة منذ تأسيسه، ناهيك عن خسارته السمعة الدولية المبنية على التعاطف مع شعب بلا أرض يحاول أصحاب الأرض رميه إلى البحر، وهي الخرافة التي انكشفت بفضيحة أخلاقية كشفت عن أنياب المحتل، وكذا مصير الكيان الذي ستحدده نتائج الحرب.
خسائر غير مسبوقة
لم تكن انتصارات الجيش الصهيوني التي يتغنى بها سوى على المستشفيات والمدارس، حيث ارتكب جرائم لم يشهدها التاريخ بحق أهل غزة والعالم. بالمقابل تكبد خسائر فادحة ومن أهمها السمعة الدولية التي باتت في الحضيض، وأوقعت حلفاءه في حرب الابادة في حرج أمام القانون الدولي حتى تعالت دعواتهم له بالتوقف عن استهداف المدنيين، واستنكار توسع الاستيطان.
وعلى الصعيد العسكري أصيب ما لا يقل عن ستة آلاف من القوات الصهيونية بإعاقة من الدرجة الثالثة، ما يعني أن الحكومة تكبدت ومازالت خسائر فادحة، بسبب أنه يحق لهم الحصول على جميع العلاجات والحقوق التي يتمتع بها شخص معوق في جيش الاحتلال. كما تدفع لهم الرواتب ويعالجون بالكامل. وقالت التقارير الصحفية أن عناصر المقاومة يتعمدون إصابة عساكر الاحتلال دون قتلهم، لأن ذلك يكلف كثيرًا من الإشراف عليهم وإرسال مروحية وحملهم ونقلهم إلى مستشفى، وتوفير سرير ومرافق وتمريض، مع دفع تكاليف علاجهم وتعويضات بدل إعاقة وراتب دائم بلا منفعة منهم. فيما قدر العدد الإجمالي للإصابات بنحو عشرين ألفا إذا أخذ في الاعتبار أولئك الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، بحسب صحف محلية.
وفي هذا الصدد، وصف الجراح العام بالفيلق الطبي لجيش الاحتلال ما يجري قائلًا: “نرى أشخاصًا مصابين إصابات أشد في هذه الحرب مما شهدناه في حروبنا منذ عقدين، مما يعني أن هذه الحرب أخطر بكثير وأشد ضررًا بكثير مما مر علينا سابقًا”.
وتضاف إلى هذه الخسائر النزيف في النسيج الاجتماعي للكيان القائم على استقدام المستوطنين، وفي وقت توقفت فيه الهجرة إلى فلسطين المحتلة، بسبب انهيار شعارات الاستقطاب “الأمن والرفاه “، راح المستوطنون يفرون منها إلى بلدانهم الأم، حيث قالت صحيفة صهيونية، أن نحو 24 مستوطنا فروا الأحد الماضي من الكيان دفعة واحدة، في أكبر موجة هجرة عكسية في يوم واحد منذ بدء العدوان. وارتفعت طلبات السفر الى الخارج خلال أيام إلى 75 ألف طلب، في حين أشارت أرقام سابقة إلى هجرة مليون صهيوني جراء فقدان الأمن داخل الكيان.
فضيحة مدوّيـة
في كل مرة يبرز فشل اليمين المتطرف في الحرب على غزة، وتحقيق هدف يشغل به الرأي العام الداخلي، يختلق القائمون عليه أكاذيب لصرف الانتباه وربح الوقت من جهة، وقتل المزيد من الفلسطينيين بطرق مختلفة من جهة أخرى. ومن بين تلك الادعاءات ضلوع موظفين في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، في عملية السابع أكتوبر، وشن حملة مسعورة ضد الوكالة بوقف التمويل عنها والتضييق على عملها.
وقد جاء ذلك أيضا مباشرة بعد الإعلان عن قرار محكمة العدل الدولية، باتخاذ كل التدابير لوقف الإبادة الجماعية ضد سكان غزة. إلى ذلك جمد بنك صهيوني حساباً لـ«الأونروا” بزعم تحويل أموال لفصائل المقاومة في غزة.
وأبعد من ذلك ينوي الكيان الصهيوني استبدال “أونروا” بهيئات أخرى يسهل التحكم فيها وإدارتها بما يحلو له. وفي السياق، قال وزير خارجية الاحتلال إن بلاده تعمل على إبعاد «الأونروا» عن قطاع غزة، لأنها تؤكد ضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم. وقد استجابت دول للمزاعم الصهيونية وعلّقت تمويلها للوكالة، من بينها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا.
تفكّـك داخلي
قبل أكثر من سنة بدأت بوادر تفكك داخلي للعلاقة بين الحكومة الصهيونية والمستوطنين، على خلفية وصول اليمين المتطرف إلى الحكم وإطلاق حملة إصلاحات في السلك القضائي، خرج إثرها آلاف المتظاهرون إلى الشوارع رفضا لها واستمر ذلك حتى قبيل احداث السابع أكتوبر.
وما كادت الحكومة تتخلص من تلك الاحتجاجات وعاد المستوطنون إلى منازلهم بفعل الحرب، حتى خرجوا مجددا في احتجاجات ضغط عليها لاسترجاع الأسرى لدى حركة المقاومة الإسلامية “حماس”. وخرج آلاف المتظاهرين في مدينة يافا ( عاصمة الكيان حاليا)، مطالبين بإسقاط الحكومة التي فشلت في الوفاء بوعودها إزاء قضية الأسرى والتي قتلت الكثير منهم أثناء القصف على غزة.
ولا يختلف المشهد الخارجي عن الداخلي، فعلى مدار أكثر من 125 يوما امتلأت شوارع وعواصم ومدن العالم بملايين المحتجين الرافضين للعدوان الوحشي، للضغط على حكوماتهم من أجل وقف المساعدات للكيان وفرض عقوبات عليه لحمله على وقف إبادته للفلسطينيين.
وأكثر من ذلك تمت محاكمة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية التي طالبته باتخاذ تدابير من أجل وقف الإبادة الجماعية، ووضعته في حرج أمام القانون والرأي العام الدوليين، حيث ظهر الكيان الصهيوني ككيان مارق وخارج عن القانون بعد استئنافه المجازر بحق الفلسطينيين.
وبأفعاله تلك فقد التعاطف العالمي على مستوى الشعوب أولا والدول ثانيا. وكانت آخر الدول التي عبرت عن ذلك اليابان، التي أوقفت تعاون وحدة الطيران التابعة لشركة التجارة اليابانية الاستراتيجية مع شركة “البيت سيستمز” الصهيونية بحلول نهاية فيفري على خلفية الحرب في غزة، بعدما أمرت محكمة العدل الدولية الاحتلال الشهر الماضي بالكف عن أعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين وبذل المزيد من الجهد لمساعدة المدنيين.
إرهاب المستوطنين يتكشّف
تسبب تسليح المستوطنين في الضفة الغربية في ارتفاع عدد الاعتداءات على المواطنين الفلسطينيين سيما في القدس ذات الوضع الدولي الخاص، وقد أثار هذا استياء الدول الحليفة التي طالبت بوقف الاعتداءات. وفي مسعى، للسيطرة على مستوى عنف المستوطنين المتطرفين المؤيدين للعنصري بن غفير الذي يقود بحكم منصبه الشرطة الصهيونية، وصاحب فكرة التسليح، أقدمت أجهزة الأمن الصهيونية على تشكيل فرق (غير تابعة للشرطة) تنوي لجم المستوطنين.
وقالت مصادر أمنية، لوسائل إعلام صهيونية، إنها تدرك خطورة المستوطنين المتطرفين، لكنها تعدّهم «أقلية ضئيلة تحظى بترويج إعلامي يفوق قوتها بكثير، وتلحق ضرراً كبيراً بالكيان في المجتمع الدولي. ولذلك قررت مواجهتها وتطبيق القانون معها بهدف منع تحول التدهور إلى فوضى عارمة في الضفة الغربية”، ومنحت “قوات حرس الحدود” مهمة فرض سلطة القانون.
ومما يزيد من الانقسام الداخلي، ظهور مقترحات بصفقة جديدة لتبادل الأسرى، ففي حين يبدي رئيس الوزراء مرغما ميله نحو مقترحات الوساطة الدولية بشأن صفقة جديدة لتبادل الأسرى، يصّر معارضوه داخل الائتلاف اليميني المتطرف الفكرة تماما، ويطالبون باستمرار الحرب. ويتعلق الأمر على وجه التحديد بوزير المالية رئيس حزب الصهيونية الدينية، ووزير الأمن القومي رئيس حزب “عظمة يهودية”.
وقد حذّرت أوساط أمنية وسياسية صهيونية من تفجّر الاوضاع في الكيان وتزايد الانقسامات بداخله في ظل الفشل الواضح في إدارة الحرب وعدم قدرتها على تحقيق أي من الاهداف التي تم الاعلان عنها تحديداً تحرير المحتجزين والاسرى الصهاينة لدى المقاومة الفلسطينية، والقضاء على حماس.
تصدّع الحكومة
من بين الأسباب التي تزيد تصدّع حكومة اليمين الصهيونية، هو إصرار رئيس وزرائها على مواصلة الحرب أيًا كانت النتائج، بالتزامن مع القبول بهدنة ولو طويلة الأمد تسمح بتحرير الأسرى وامتصاص الغضب الداخلي وربح بعض الوقت لإعادة البناء.
وفي السياق قال مسؤولون في الحكومة الصهيونية إن رئيس الوزراء لا يولي أهمية لمسألة الأسرى، وأوضح أن ذلك يتبين من خلال الوقت الذي يخصّصه للحديث عنهم في اجتماعات الحكومة. واعتبر أن أولوياته تتعلق بشخصه، فهو يريد إطالة عمر الحرب للتهرّب من المسؤولية والمساءلة القانونية داخليًا.
وأضاف المسؤولون، أن نتنياهو لن يقبل بإنهاء الحرب مقابل تحرير الأسرى لأن ذلك لن يكون في صالحه، وستنهار الحكومة بعد ذلك وتقع المساءلة. وفي الوقت نفسه يؤكدون أن تحقيق هدف القضاء على حماس مستبعد تماما بالنظر إلى النتائج على الميدان، فشمال القطاع الذي رغم تدمير بنيته التحتية وتهجير عدد كبير من سكانه لم يخضع حتى للسيطرة العسكرية للاحتلال، والمكاسب هناك تختفي في حين أن هناك مناطق في غزة سيكون الدخول إليها مستحيلا تماما. وتأتي هذه التصريحات في وقت نقل إعلام حركة حماس فيديوهات عن عودة انتشار الشرطة التابعة لها في مناطق عديدة من شمال القطاع في إشارة واضحة إلى عدم صحة ادعاءات الكيان بخصوص السيطرة على الشمال.
انهيار وشيك
وفي السياق توقعت صحيفة “الغارديان” البريطانية، انهيار الحكومة الصهيونية المتطرفة في حال إتمام اتفاق جديد مع حركة حماس لوقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى المحتجزين وتحرير المعتقلين الفلسطينيين. بعد أن هدّد الائتلاف الحاكم المتطرف بالانسحاب من الحكومة في حال تمت أي صفقة مع حماس. ولم يقتصر التهديد هذه المرة على الحكومة فقط، ولكنه يهدّد دولة الاحتلال بالكامل، نظرًا لفقدانها الدعم الدولي وتزايد الأصوات المطالبة بإنهاء الاحتلال وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، ما يزيد من الانقسامات داخل الكيان الغاصب.
وتابعت الصحيفة، أنه من المتوقع على نطاق واسع أن الائتلاف الحاكم اليميني المنقسم بزعامة نتنياهو لن يصمد أمام قبول وقف إطلاق النار الممتد في غزة واتفاق إطلاق سراح الأسرى مع حماس، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، يعتبر أعضاء مجلس الوزراء الحربي أن العودة الآمنة للأسرى الصهاينة هي الأولوية القصوى، ورغم أن نتنياهو يواصل إصراره على التدمير الكامل لحماس والسيطرة على غزة على المدى الطويل، فإنهم لن يسمحوا له بعرقلة الصفقة التي تدعمها الولايات المتحدة إلى أجل غير مسمى، وهذا المأزق لا يشكل مفاجأة، فهو مؤشر على انقسام وطني أكثر جوهرية، والذي كان واضحًا قبل السابع أكتوبر وتفاقم إلى حد كبير بعد ذلك.
وتحوّل الأمر من مجرد خلاف بين الحكومة والمستوطنين إلى صراع وجودي واسع النطاق حول الطابع الديمقراطي للكيان، وقيادته المستقبلية، وعلاقاتها مع الفلسطينيين والدول العربية، ومكانتها الدولية، ويبدو أن الاحتلال وصل إلى نقطة انعطاف أو ما يسميه البعض “نقطة اللاعودة”، بحسب تحليل الصحيفة.
وتساءلت عما لو كان الاقتتال الداخلي اليوم، الذي يغذيه المتعصبون اليهود المتدينون، نذيرًا بفشل المشروع الوطني الصهيوني أيضًا، ومبادئ إنشاء دولة يهودية ديمقراطية. خاصة بعد دعوات وزراء متطرفين إلى طرد الفلسطينيين من كل فلسطين وتسهيل توطينهم في دول أخرى، واستقدام مستوطنين محلهم، وهي الخطة التي من المزمع اقتراحها خلال مؤتمر دولي للسلام دعت إليه عدد من الدول. وهو ما يقوّض حل الدولتين ويزيد من انقلاب الرأي العام الدولي على الكيان وسمعته التي حاول تلميعها على مدار قرن إلا ربع، ويهدّد بفشل المشروع الحلم “من النهر إلى البحر”.
وختاما يمكن القول إن عدوان الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة، لم يكن محسوبا بشكل صحيح، فقد أوقع اليمين المتطرف الكيان في مأزق داخلي وخارجي، بفشله في تحقيق أي هدف من أهداف الحرب التي أعلن عنها، تحرير الأسرى والقضاء على حماس، رغم ارتكابه أبشع الجرائم، واستخدام أحقر الأساليب المحرمة بموجب القانون الدولي الإنساني، ورغم ذلك أيضا يصّر على الاستمرار في الحرب بدعوى تحقيق أهدافها، لكن الواقع أن الذين بدأوا الحرب يغلبون مصلحتهم الخاصة لتجنب المساءلة فقط، وبدل أن تفضي الحرب إلى تقويض قوّة الخصم أو تدميره يوشك الكيان على تدمير نفسه بنفسه طبقا للمؤشرات المذكورة.