بمجرد دخول نزل الساحة الواقع على بعد أمتار من برج المقراني العريق، وسط مدينة برج بوعريريج، يراودك إحساس غريب، يتطوّر بتطوّر تلك المشاهد التي تشدّ الأنظار إليها، لا تملّ العين من ملاحظة تفاصيل تحف نادرة وأدوات تراثية قديمة، مصطفّة على جدران السلالم والأروقة المؤدّية إلى غرفة استقبال الزبائن.
يستقر بك المقام في غرفة وسط سيوف وخناجر، وأغراض كان يستعملها الإنسان الذي سكن الجزائر منذ عشرات القرون، مركونة بطريقة فنية جميلة تعكس ذوق صاحبها ومشاربه الثقافية المتعدّدة، وعلى جدران الغرف، تحف وأسطوانات لفنانين وممثلين تظلّ أعناق الزائرين لهذا النزل مشرئبة لها برهة من الزمن، وغرف أخرى تحمل صورا نادرة لعمالقة السينما الجزائرية والأدب، على غرار الفنان والمرحوم حسن الحسني، والمفتش الطاهر وحسان طيرو وغيرهم ممّن وضعوا اللّبنة الأساسية لصناعة الفنّ في الجزائر.
يؤكّد صاحب هذه المبادرة الفريدة من نوعها، الربيع قشي، وهو مخرج وأحد أعمدة مسرح “التاج” ببرج بوعريريج، أنّ هذه الفكرة تعود إلى عقود من الزمن، أين راودته أفكار بأن يطوّر هذا الفندق، ويجعله يعبّر عن أصالة المنطقة من خلال تزيينه بتحف فنية وأغراض قديمة، حيث كانت هوايته منذ الصغر جمع التحف النادرة والاعتناء بكلّ ما هو قديم ونادر، لتتطوّر الفكرة لديه من خلال إنشاء متحف يجمع هذه التحف، على مستوى “نزل الساحة” الذي اشتراه والده منذ أكثر من عقدين من الزمن، فقرر هذا الأخير أن يجسّد لفكرة متحف مفعم بالروح والتحف الفنية، تلبّي رغبة الزائر إليها من مثقّفين وفنانين من خلال هذا الفندق العتيق.
كان هذا الفنّان يحمل في فكره أنّ الفندق أو النزل ليس مكانا يقتصر على النوم فحسب، وإنّما يتعدّاه إلى مكان لراحة الأبدان والأذهان، يستطيع الزائر له التمعّن في مختلف التحف والمقتنيات القيّمة التي تحاكي ألف قصة وقصة، وأن يسافر بخياله عبر أزمان وأزمان تعبر عن أصالة الأمة الجزائرية والافريقية ككلّ، وقد لاقت هذه الفكرة رواجا وتشجيعا في أواسط الفنّانين والمثقّفين ممّن زاروا هذا المتحف، فمنهم من قدّم له مقتنياته وكلّ ما هو قديم من تحف، وآخر أهداه أغراضا تعود لفترة الأجداد من أجل وضعها في هذا المتحف الجميل تكون قبلة لهواة هذا النمط من الفنّ، فضلا عن شهادات لفنانين جزائريين على غرار المخرج الجزائري الراحل عمار العسكري الذي قدّم شهادته عن هذا المكان خلال زيارته له، حسب ما يتناقله بعض مثقّفي المنطقة.
منزل الطبيب المناضل
يجمع العديد من أعيان المدينة، ومثقّفيها على أنّ النزل كان في البداية منزلا لأحد رواد الحركة النضالية في الجزائر، تم تشييده إبّان فترة الثلاثينات من القرن الماضي، حيث لا تزال القبعة الحمراء التي تعود – حسب صاحب النزل- إلى أحد أفراد عائلة بن سالم، معلّقة في أحد الجدران، وكانت تمثل تقليدا أو موضة تتحلّى بها بعض الشخصيات السياسية والمثقّفة خلال القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، على غرار سياسيي ومفكّري تلك الحقبة، مثل عبد الكريم العقون، والفقيه السنهوري والعقاد وغيرهم، وهو المكان ذاته الذي يطبّب فيه الطبيب بن سالم أهالي منطقة برج بوعريريج والحضنة، وظلّ كذلك حتى بعد الاستقلال.
فقد كان الطبيب مالك المنزل في أثناء تلك الفترة، وكان واحدا من مثقّفي المنطقة ممّن أطلقت عليهم الإدارة الفرنسية الاستعمارية اسم الأهالي.. ارتبط اسمه بالشخصيات النضالية البارزة لحركة “أحباب البيان والحرية” التي كان يرأسها فرحات عباس، ساهم هذا المجاهد في التأسيس لمبادئ النضال السياسي ببرج بوعريريج ومنطقة الحضنة بشكل عام، ليشكّل المبنى أيضا إضافة فنية مهمة من تلك التحف التشكيلية والمصنّفات التي يتضمّنها النزل، المكوّن من طابقين، الجزء السلفي منها يمثل في مقهى، وسلالم مؤدّية إلى الطابق الثاني وهو الأهم؛ إذ يحتوي على أكثر من خمس غرف كلّ واحدة منها تتضمّن عشرات التحف والأواني النادرة، لينتهي الرواق إلى فناء يحتوي على آلة أو آلتين عجيبتي الشكل، قيل إنّهما كانتا تستعملان في تليين الحديد خلال القرن الماضي.
بين السينما والموسيقى
خلال تجوالك في أروقة “نزل الساحة”، تصادفك غرف متعدّدة ومتنوّعة، منها غرف خصّصها صاحبها لصور ومقتنيات تعبّر مضامينها عن أعمدة السينما الجزائرية، وأخرى تم تخصيصها لصور وأشرطة نادرة لفنانين وممثلين جزائريين من العقود الأولى، تؤرخ لنشأة السينما الجزائرية على غرار الفنان حسان طيرو والفنان محي الدين باشطارزي والفنان حسن الحسني المدعو “بوبقرة” وغيرهم من الفنانين والممثلين ممّن تركوا بصمتهم الفنية وساهموا في نقل تصوّراتهم الإبداعية والفنية عن المجتمع الجزائري وعن تطلّعاته الإبداعية التي يعيشها، حيث تعكس مدى مساهمة السينما الجزائرية في إبراز الوضعية السياسية والاجتماعية التي كانت تعيشها الأمة خلال فترة الاستعمار الفرنسي، منها صورة نادرة للفنان الجزائري المجاهد حسان طيرو حين أدّى دور الحركي، وصورا نادرة للفنان حسان الحسني الملقب بـ«بوبقرة” تعبر كلّها عن فنانين قادوا المشهد الثقافي وقتها، واستخدموا الموسيقى والفنّ والمسرح كوسيلة للتواصل ورفع درجة الوعي لدى الجزائريين، في مرحلة هي الأصعب في تاريخ النضال ضدّ المستعمر الفرنسي الذي أراد محو الهوية الجزائرية من الوجود.
كما تتضمّن غرف أخرى صورا ومقاطع لمذياع جزائري، وقارئ للأسطوانات لأغاني تعود إلى فترة الثلاثينيات من القرن الماضي، على غرار مقتنيات تعود للمغنية “بقار حدة”، أول فنانة جزائرية تنقل الفنّ الجزائري إلى العالمية، والملقّبة بـ«أسطورة الأغنية البدوية في الجزائر”، هذه الفنّانة التي اشتهرت بصوتها البدوي الجبلي النابع من قلب المرأة التي كوتها عنجهية الاستعمار، فهي سيدة الأغنية الشاوية البدوية التي عرفت بأغانيها الثورية القوية خلال فترة الثورة الجزائرية، صدح صوتها بروائع مجّدت مواقف وبطولات شهداء الثورة الجزائرية، من بينها “الجندي خويا”، “يا جبل بوخضرا”، ورائعة الشهيد عباس لغرور في أغنية “دمو سايح بين الويدان” التي رثت فيها شهيد الثورة التحريرية الجزائرية.
غرف أخرى تحتوي على أسطوانات وأشرطة غنائية ترجع لأعمدة الأغنية الشعبية في الجزائر، بينها الفنّان الحاج امحمد العنقى.. وغيرهم ممّن ساهموا في المحافظة على الغناء الشعبي جيلا بعد جيل في الجزائر وعلى الأغنية الجزائرية بتراثها وعاداتها وتقاليدها الضاربة في عمق التاريخ.
عرائس الفترة الحمادية والعثمانية
خلال التجوال بأروقة نزل الساحة، تصادفك أواني منزلية وأثاث لتجهيز العروس يعود لفترات طويلة من الزمن، منها ثلاث طاولات وصناديق خشبية مختلفة الأحجام والأنواع مصنوعة من خشب الجوز وغيرها، أبدع في تزيينها ونقشها برسومات، حرفيو ذلك العصر وتحويلها إلى أثاث لتجهيز العروس في تلك الفترة.
ويؤكّد الربيع قشي لـ«الشعب” أنّ الاختلاف في الأحجام والألوان بالنسبة لكلّ أثاث، يرجع في أصله إلى عادات وتقاليد تلك الفترات التي تعاقبت على منطقة برج بوعريريج وضواحيها، ومنها الطاولة الخشبية والصندوق الذي يتميز بحجمه الكبير تعود أصولها إلى عهد الدولة الحمادية (1014 ـ 1152م)، والتي كانت زخرفاتها عبارة عن أقواس ونقوش متداخلة تشبه إلى حدّ بعيد النمط أو الطراز الأندلسي، وغيرها من الأشكال الهندسية التي تعكس مدى تمازج الحضارة، بملامح عربية إسلامية بربرية.
وأضاف: “نجد بعض الأواني والأثاث الذي يمثل تجهيز العروس، مكون من صندوق خشبي وخزانة، ترجع إلى العصر العثماني، إذ تتميز بأحجام صغيرة نوعا ما مقارنة مع الأثاث الأول الذي يعود للدولة الحمادية، وفيها تتمازج الزخرفات والنقوش، وأشكال إسلامية مرتبطة بالعجم، وغيرها من الأدوات والمقتنيات”.
قناع إفريقي وأدوات قديمة
من جهة أخرى، يحتوى النزل على أدوات حجرية يرجع عمرها إلى مئات السنين، كانت تستعمل في طحن القمح وصناعة الخبز، مع أغراض أخرى تستعمل في تليين الحديد والفحم الحجري الذي يستخدم في صناعة السيوف والخناجر، وأدوات حديدية قديمة جدّا على شاكلة الحلقة المفتوحة، كانت تستعمل لحماية أرجل الأحصنة، وسروج مزركشة ومطرزة بالألوان، كان الفرسان يتباهون بها بوضعها على الأحصنة، ما يجعلها تحفا تعبر عن أصالة أمة هذا الوطن الكبير.
وبالمقابل، وفي حجرة استقبال الزبائن يواجهك منظر غريب لقناع افريقي، قد يكون لزعيم أو كبير أحد القبائل الإفريقية، يتوسّط أحد جدران الحجارة يتقاطع تحته سيفان من صنف عربي، في مشهد يبعث في نفسك إحساسا بالدهشة والاستغراب.
ويؤكّد قشي أنّ القناع يرجع في أصوله إلى ما قبل الإسلام، أهدي له خلال تواجده في مدينة تمنراست التي كانت مركزا تتوافد عليه القبائل الافريقية لفرض التجارة، وكلّها أدوات وأغراض تظهر نمط الحياة اليومية لأسلافنا ممّن عاشوا خلال القرون الماضية على هذه الأرض الطاهرة.
أدوات ومقتنيات من قديم الزمان
في ذات الرواق وفي غرفة الاستقبال، تواجهك أدوات ومقتنيات تعود بك إلى الزمن الجميل، إلى البدايات الأولى لاكتشاف المذياع والتلفزيون وقناديل.. كان يستنير بها أجدادنا قبل اختراع الضوء والكهرباء، ومنها أدوات كانت تستعمل في عملية النسيج والحرث والحصاد على غرار المنجل العربي، والمنجل الأعجمي، تأخذ المتأمّل فيها إلى عصور غابرة من الزمن، وكيف كان يكابد أجدادنا مشقّات الحياة، وكيف كان يعيش الإنسان الجزائري إبّان تلك الفترة.
مجلات وكتب ورسائل..
وإلى جانب تلك التحف والمقتنيات التي اجتهد هذا الفنّان في جمعها، تجد على مستوى الطاولة التي تتوسّط قاعة الانتظار، مجلات وكتب تعود لبضع عقود من الزمن، منها ملصقات وإعلانات إشهارية أفلام ومسرحيات، ومهرجانات فنية وأدبية، تشكّل بحسب صاحبها ذاكرة الفنّ والفنانين أبرزها إعلانات تعود إلى ذاكرة تأسيس مسرح “التاج” الذي يعدّ الربيع قشي أحد الوجوه التي ساهمت في تأسيسه.
ويقضي صاحب الفندق والمتحف الربيع قشي مجمل أوقاته في العناية بهذه التحف وترميمها من الآفات التي يمكن أن تعلق بها وتؤثّر عليها مثل الغبار، حيث يؤكّد على أنّه وبمجرد الدخول إلى هذا المنزل ينسى جميع الهموم والمشاغل التي تحيط به، وكذلك الأمر بالنسبة لزائرها وروّاد هذا المتحف ممّن نزلوا به للإقامة، حيث يلحّ مرة أخرى أنّ الغرض من إنشاء هذا المتحف في نمطه المتميّز، هو إثراء الحركة الثقافية في ولاية برج بوعريريج والجزائر عموما، مشيرا إلى أنّه متحف مخصّص للفنّ قبل كلّ شيء وبأنّه مفتوح أمام جميع أبناء هذا الوطن.