تعدّدت أوجه السياسات الاستعمارية في الجزائر على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين واستمرت طيلة مرحلة الكفاح المسلح الذي أعلنه الجزائريون في غرة نوفمبر 1954، وإذا كانت السنة العامة لهذه السياسات تبرز همجية الاستعمار الفرنسي ضد شعب أعزل يتطلّع للحياة الحرة الكريمة واسترداد الوطن الذي سلبت حريته منذ أزيد من مائة سنة، فإن تفجيرات رقان النووية أو ما يعرف بعمليات اليرابيع منذ 13 فيفري 1960 تاريخ تفجير أول قنبلة نووية فرنسية في صحراء الجزائر البعيدة عن تراب وأجواء فرنسا تفجيرات ترقى إلى مستوى قطاعة الاستعمار وعنجهيته وحتى تفجيرات فرنسا النووية في بولينيزيا في المحيط الهادي لم تكن بالحجم والانعكاسات الخطيرة التي أحدثها أزيد من عشرين تفجيرا في الصحراء الجزائرية على أن التفجير الأول الذي مكّن فرنسا من تأكيد قوتها النووية إلى جانب كبار العالم يندرج ضمن مشروع خططت له باريس في مراحل تاريخية متباينة.
بقلم د.عبد المجيد بوجلة جامعة تلمسان
فمع نهاية الحرب العالمية الثانية والتحولات العميقة التي شهدها العالم شغلت الدوائر السياسية العليا الفرنسية نفسها بالبحث عن سبل التحكم في تكنولوجيا الذرة النووية ذات الأهداف العسكرية، وعلى هذا الأساس أصدر شارل دوغول في أكتوبر 1945 الأمرية القاضية بإنشاء محافظة الطاقة الذرية، التي أتاحت إجراء البحوث وتطويرها على يد مجموعة قليلة من العلماء والطلبة، أمثال العالم جان فريدريك جوليو Jean Frederic Joliot، وحتى بعض العسكريين المتقاعدين أصحاب الخبرة في استخدام المتفجرات كما ظلّت الإدارة السياسية الفرنسية تؤكد على مستوى المنظمة الأممية وفي التصريحات الرسمية والندوات الصحفية أن المشروع بعيد عن الاستخدامات والأغراض العسكرية.
ومنذ مطلع سنة 1952، خصّصت فرنسا المشروع البحث النووي ميزانية هامة رصدتها وزارة المالية التي كان يقودها الوزير فليكس غايار في وقت كان قد جرى إنتاج كميات هامة من عنصر البلوتونيوم على يد فريق بحث يرأسه العالم غولد شميت دون الحصول على ما يكفي من الماء الثقيل، وقد حرصت الإدارة الجديدة لمحافظة الطاقة الذرية ممثلة في رئيسها الجنرال بيار غليوما على تسخير كل الإمكانات والدعم العسكري لإنجاح المشروع، حيث أوكلت متابعة الأبحاث للعالم الفيزيائي Perrin Francis وكان التركيز في هذه المرحلة على إيجاد مصادر اليورانيوم خاصة خارج فرنسا وتحديدا في مستعمراتها.
ومع حلول سنة 1955 السنة التي اشتد فيها المد الثوري، تعمّقت الدراسات والأبحاث التقنية عندما كلف الجنرال Albert Buchalet بمهمة تحويل المشروع النووي إلى قنبلة نووية في إطار السرية التامة تحت إشراف مكتب الدراسات العامة، وبموجب بروتوكول 20 ماي 1955 أصبح بإمكان وزارة الدفاع إقامة مفاعل نووي للبلوتونيوم مع زيادة معتبرة في حجم الاعتمادات المالية للمشروع.
وسعيا لدعم المشروع راح فريق الأبحاث يعمق دراساته وبمهام محددة معروفة بالملف الذي يحمل تسمية EnginM1.
وكان العمل بالمشروع يهدف بالأساس إلى تخلص فرنسا من مركّب النقص إزاء الدول العظمى التي احتكرت سرّ الذرة وسلاحها، فضلا عن وقع الأزمة البسيكولوجية التي أحدثتها الحرب في الهند الصينية واشتداد الثورة في الجزائر، لذلك كان شارل ديغول يبحث عما يمكنه بعث المجد الضائع لفرنسا، وذلك ببلوغ الانضمام إلى الحظيرة النووية التي كانت تحتكرها أمريكا والاتحاد السوفياتي.
ولتفعيل العمل في هذا الاتجاه استحدثت أجهزة وهيئات أشرفت عليها المحافظة العامة للطاقة الذرية التي تتفرع عنها عدة مصالح أهمها: مديرية الطاقة النووية – مديرية التطبيقات العسكرية DAM مديرية البحث التكنولوجي، مديرية علوم الأجسام والمواد ومديرية العلوم الحية واضطلعت مديرية التطبيقات العسكرية Direction des Applications Militaires المنبثقة عن مكتب الدراسات العامة BEG بدراسة وصناعة السلاح النووي، وكان على رأس المديرية العقيد ألبرت بوشالي.
وعن سير وتطور عمل مديرية التطبيقات العسكرية يذكر Pierre Billand في مذكراته: “كنت ضمن الفريق العامل إلى جانب الكولونيل البرت بوشالي منذ شهر ديسمبر 1954 الذي كان يتمتّع بعلاقات مليئة في الأوساط المنتقلة سواء على مستوى الوزارات السيادية أو مع قيادات أركان الجيش الفرنسي، وكانت مهمتنا في المكتب – مكتب الدراسات العامة التوصل إلى الصياغة العملية لإنجاز أول تجربة بتفجير قنبلة نووية فرنسية وكنت أؤدي دور المقرر المساعد في “لجنة التفجيرات النووية التي يشرف عليها الجنرال كرسين وكان مساعدي مارك الاريموندي والضابط الوغوري برتبة رائد العامل في سلك القوات البحرية، وهم من بين الكفاءات من بين الضباط العسكريين المقتدرين.
وإلى جانب الحضور القوي للضباط العسكريين، ضمّت مديرية التطبيقات العسكرية عددا هاما من العلماء كما تمّ استحداث مصالح فرعية مثل مصالح البرمجة العسكرية، ومصلحة التجارب ومكتب الاستعلامات العلمية بالإضافة إلى كل المصالح التي تتصل بمحافظة الطاقة الذرية التي بلغ عدد العاملين بها إلى غاية الستينات 30 ألف عنصر، وقد كان العمل بها وبكل المصالح المتصلة بالمحافظة محاطا بأكبر سرية ولم يتمّ الإعلان والتصريح بنشاطها رسميا إلا في أخر سنة 1958.
ولأجل التسريع بوتيرة إنجاز المشروع النووي الفرنسي بأغراضه وأبعاده العسكرية، أنشئت العديد من دور البحث ومراكزه في مناطق مختلفة من فرنسا أهمها مركز بروبار لوشاتيل المعروف بالمركز 13، ويظهر في مجموعة من مصالح وأقسام أهمها قسم الفيزياء التجريبية والكيمياء والالكترونات وقد باشر نشاطاته العملية رسميا في صيف 1957، ولم يقتصر الأمر على مركز واحد، بل اتسع إلى مراكز أخرى تخدم نفس الأغراض ترافقها السلطات العليا للدولة الفرنسية.
مسايرة لهذا المسعى كثفت فرنسا في هذه الفترة إنجاز العديد من المفاعلات النووية وبأنواع مختلفة أهمها محطة ZOE الذي كان يعمل بالماء الثقيل ومحطة المفاعل (E12) التي أنشئت سنة 1952 بمخير Saday ثم مفاعلات 61 و63 خلال سنتي 1958 و1959، ثم مفاعل G EDF1 بطاقة تبلغ 100 ميغاواط، ومفاعل EDF2 الذي ارتفعت طاقته إلى 200 ميغاواط، وEDF3 بطاقة 500 ميغاواط وتمّ تجميع هذه المفاعلات في مركز CHENON بموجب التنسيق بين شركة EDF الفرنسية ومحافظة الطاقة الذرية..
ويعتبر مفاعل ماركول Marcoule الذي يحمل رمز 63 الأهم من حيث النشاط، وبه تمّ استخدام اليورانيوم في شكله الطبيعي، بحيث بلغت طاقة الحمولة الكاملة للمفاعل نحو 110 طن.
ولدعم الإنجاز النووي، رصدت السلطات الفرنسية مبلغ ثمانين مليون فرنك لبناء المفاعل 61 ومبلغ أربعمائة مليون فرنك جديد المفاعل 62 و63. كما جرت اتصالات سرية على المستوى الرسمي بين فرنسا والكيان الصهيوني لإنهاء المشروع وتحويله موضع التنفيذ. مشروع ظل يفتقد لعنصر الماء الثقيل وللاستفادة من خبرة الكيان الصهيوني في هذا المجال، أنجزت عدة تجارب للتفجيرات النووية الباطنية وبرامجها في تطوير القدرات الصاروخية، وكان وقتها العالم دوسترو فسكي قد نجح في اكتشاف أسلوب جديد يمكن توفير الماء الثقيل كيماويا اعتمادا على كميات غير كبيرة من طاقة الكهرباء، وقد استفاد دوسترو فسكي استفادة هامة من رصيد نقل الثقافة البريطانية والأمريكية على وجه الخصوص في هذا المجال بطرق وأساليب متنوعة بما فيها الجوسسة. كما أتاحت المساعدات في هذا المجال حصول الكيان الصهيوني على اليورانيوم والنظائر المشعة من الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الطبيعي والاستراتيجي للكيان ولعلّ هذه الاعتبارات قد حفّزت كثيرا الدوائر الرسمية السياسية والعسكرية في فرنسا لربط اتصالات سرية مكثفة مع الكيان الصهيوني انيت عام 1953 بتوقيع نص اتفاق سري خاص بالبحث في المجال النووي أتاح لفرنسا الإطلاع على المراحل والحلقات التكنولوجية في مجال التفجير النووي والخبرة الكافية في إنجاز التفجيرات الباطنية.
وفي المقابل مكّنت الاتفاقية السرية الصهيونية الفرنسية من دعم فرنسا للكيان باتجاه إنجاز المفاعل النووي ديمونة في صحراء النقب بفلسطين، وفيه تمّ تجميع مادة البلوتونيوم، وظلت الاتفاقية محل سرية تامة حتى سنة 1954 حين كشف عنها ممثل فرنسا في منظمة الأمم المتحدة دون إعطاء تفاصيل حولها، تفاصيل سوف تكشف عنها الإدارة السياسية الأمريكية آخر سنة 1960، التاريخ الذي تزامن مع تفجير القنبلة النووية في منطقة رقان، كما أضاف رئيس لجنة الطاقة الذرية الصهيوني ويدعى Bergman مؤكدا على تنسيق الجهود في إطار التعاون الفرنسي الصهيوني في المجال النووي أن عددا هاما من الباحثين الصهاينة قد اشتغل بالبحث في عدة مختبرات فرنسية وأن نظراءهم الفرنسيين عملوا هم أيضا بالمنشآت النووية على مستوى الكيان الصهيوني.
وهكذا تمكّنت فرنسا من بلوغ أسباب وعناصر صناعة القنبلة النووية الفرنسية، وكان حينئذ البحث جاريا لاختيار مكان التفجير.
موقع الصحراء الجزائرية من الاستراتيجية الفرنسية
منذ البدايات الأولى للاحتلال الفرنسي للجزائر، لاحظ الاستعمار شساعة البلاد، وأدرك قيمة اتساع النطاقات الصحراوية، والدور الذي يمكن أن تؤديه الصحراء الجزائرية في السيطرة على مستعمراتها في إفريقيا، فضلا عن المكاسب الاقتصادية وغيرها، وإذا كان الانشغال أول الأمر بإخضاع المناطق الشمالية من الجزائر، فإن الاهتمامات بالصحراء الجزائرية لم تنقطع، وكانت تتمّ في مرحلة أولى في شكل عمليات استكشاف في انتظار التوسّع والإخضاع والهيمنة.
واعتبارا من خمسينيات القرن العشرين، تكرست لدي السلطات الفرنسية الأهمية الإستراتيجية للصحراء الجزائرية جغرافيا واقتصاديا وعسكريا، وتأكدت هذه الاعتبارات في الإجراءات التي سوف يتخذها الاستعمار من سنة 1957 على الأقل، علي 10 جانفي من نفس السنة، صدر قانون يقضي بإنشاء منظمة تحمل اسم OCRS / Organisation Commune des Régions Sahariennes تضع الصحراء الجزائرية في نطاق المستعمرات الفرنسية.
واستحدثت في 13 جوان 1957، وزارة خاصة بالصحراء وعهدت إدارتها وتسييرها إلى ماكس لوجون، تلاها قانون صدر في أوت 1957 عن الجمعية الوطنية الفرنسية يختص بالتنظيم الإداري للجنوب، فظهر بذلك إقليما الساورة والواحات اللذان يلمان المنطقة المشتركة للأقاليم الصحراوية.
ومنذ زيارة الجنرال شارل ديغول للجزائر عام 1958. شدّد في تصريحاته وخطاباته على أهمية الصحراء من الناحية الاستراتيجة، حيث يشير في كتابه: “مذكرات “الأمل” الصفحة 297: أما هذا الشطر (أي الصحراء) سيضمن بالأخص وصول واستخدام الزيت أي النفط وغاز الصحراء إلى المنشآت الاقتصادية الضخمة في مجالات الصناعة التعدينية والكيماوية..
وفي عام 1950 يقود ديغول مناورة جديدة يصرّح فيها بحق تقرير المصير لاثني عشر دائرة من أصل خمسة عشر، ومما جاء في تصريحه بعد النظر في المعطيات الجزائرية الوطنية والدولية، أقر أنه من الضروري الذهاب إلى تقرير المصير باسم الجمهورية والصلاحيات التي يتيحها الدستور أتعهد بذلك أمام الجزائريين في 12 دائرة.
على أن التصريح أكد أكثر من مرة على 12 دائرة من أصل 15 وهو ما يستثني ثلاثة منها تتعلق بالصحراء.
ولم يكتف المخطط الدوغولي بالإفصاح عن الموقف السياسي الرسمي والخطاب المحفوف بالغموض والمناورة والخادع. بل ذهب إلى أبعد من ذلك إذ شرع في صياغة استراتيجية مكملة في إطار سياسة “فرق تسد”، انشغل وانكب عليها شارل دوغول شخصيا تقوم على ضرورة إيجاد فئة من الأعيان ذات الولاء لفرنسا، وأوعز إلى أحد مستشارية المقربين Guichard Olivier بتاريخ 21 جويلية 1959 بدراسة ملف الصحراء، ووضع قائمة بأسماء كبار الأعيان ذوي المرتبة والنفوذ، ويذكر الشيخ بيوض أبرز أعلام الإباضية في غرداية أنه تقابل مع أوليفي غيشار Olivier Guichard الذي حمل إليه رسالة من دوغول جاء فيها:
إنني مبعوث إليك من طرف الجنرال دوغول، رئيس الجمهورية الفرنسية، للتفاوض معك بشأن مستقبل الصحراء.. ونحن في عونكم جميعا.. وأخبرك بأن الجنرال قد جعل خطه الهاتفي لك مفتوحا في الإليزي ينتظر منك ردّا.
غير أن موقف الشيخ كان وطنيا لا يقبل المساومة.
ازدادت الاهتمامات الفرنسية بالصحراء على مستوى الدوائر الرسمية السياسية والهيئات العسكرية بإنشاء منظمة المناطق الصحراوية المشتركة O.C.R.S ثم وزارة الصحراء سنة 1957، ورفعت وزارة المالية الفرنسية إلى الجمعية الوطنية الفرنسية توصية لإفراد ميزانية سنوية خاصة بالمنظمة بلغت في العام 1958 ما يقارب 56 مليون فرنك، ثم قفزت عام 1959 إلى 208 مليون فرنك لترتفع سنة 1960 إلى 2855. بينما خصّ البرلمان الفرنسي ميزانية الصحراء باعتماد مالي قيمته 10487 مليون فرنك، ووصل بعد سنة فقط إلى 24655 مليون فرنك وإلى جانب هذا الغلاف المالي، أضاف “الصندوق الصحراوي للتضامن” و«مكتب الاستثمار في إفريقيا” بما يزيد عن 34 مليون فرنك ما بين 1958 و.1960.
كما تنبّهت الإدارة الاستعمارية الفرنسية إلى الخطر الذي يمكن أن يتهدّد مصالحها في الصحراء على نية تنفيذ مشروع سلخها عن بقية الجزائر، حيث انشغلت بنسج المخطّطات، فمثلا على الحدود الغربية كانت سياسة التطويق والخنق من وراء السدّ المكهرب من مرسى بن مهيدي إلى عين الصفراء، وأضافت إليها قيادات الجيش الفرنسي ما ارتبط بمخطط شال، كما استحدثت في منطقة بشار Colomb Bechar حاميات وثكنات عسكرية لمنع الدخول والتنقل إلى التراب الجزائري. ولفرض الهيمنة على الأقاليم الواسعة من الصحراء بالنظر إلى قساوة مناخها ووعورة المسالك، وأنشئت وحدات عسكرية للخيالة والمهاري لرصد حركة السكان البدو الرحل وتسجيل أخبارهم وتفاصيل عن كلّ ما يتصل بحياتهم.
كما أنشئت فرق عسكرية من البدو للاستفادة من درايتهم بالصحراء وخبرتهم في شؤونها بعد أن تم فتح مكاتب خاصة بالتجنيد لدعم فرق الأمن والجيش الاستعمارية، إلى جانب ذلك تعزّز سلك المظليين والطائرات العمودية (المروحيات) بطائرات خاصة للإمداد بالمؤن والعتاد والسلاح والإسعاف والاتصال، وكذلك الشأن بالنسبة للعربات العسكرية البرية التي تتلاءم وبيئة الصحراء.
وأحدث اكتشاف النفط واستغلاله تغيرا جذريا في الإستراتيجية الاستعمارية الفرنسية، وقد قال الجنرال دوغول في ذلك: “يجب أن نقول إنّ استغلال البترول واستخراجه سوف يظلّ من اختصاص فرنسا، وأنّ للغرب مصالح فيه.. سنحافظ عليه ولن ندعه للغير ولو أدّى بنا ذلك إلى متاعب كثيرة”..
الصحراء الجزائرية مجال للمشروع النووي
لم تخف فرنسا مصالحها الحيوية في الصحراء الممتدة إلى القارة الإفريقية، حيث نشرت المجلة العسكرية في ربيع سنة 1959… “تجد فرنسا نفسها في وضع ممتاز من حيث الحاجة إلى الميادين الواسعة للحرب الحديثة بالنظر إلى شساعة أقاليم الصحراء وقرب اتصالها النسبي بالوطن الأمّ.. إنّ هذه المكانة المميزة كفيلة بأن تحدث تأثيرا قويا في أساليب دفاعنا الوطني نظرا لأهمية الصواريخ من جهة، وإلى مدى ارتباط هذا الموضوع بمسألة التجارب”..
وأكّد شارل دوغول هذه الأهمية الاستراتيجية هذه المرة من خلال مشروع اتخاذ الصحراء فضاء جغرافيا للتفجيرات النووية المرتقبة: “لكي نحافظ على أوضاع آبار البترول الذي استخرجناه، وقواعد تجارب قنابلنا وصواريخنا، فبوسعنا أن نبقى في الصحراء مهما حصل، ولو اقتضى الأمر أن نعلن استقلال هذا الفراغ الشاسع. ولكي يبقى جيشنا في الجزائر ما دام وجوده فيها مفيدا للسيطرة على إقليمها وحدودها، فليس علينا سوى أن نقرّر ذلك”..
انتهت الاستطلاعات العامة والدراسات الاستراتيجية التي عنيت بالصحراء إلى التصويب على رقان المجال الجغرافي المحدّد الإجراء وتنفيذ مشروع التجربة النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، وأن تكون قاعدة التفجيرات منطقة الحمودية غير البعيدة عن رقان، ومنطقة تانزروفت القريبة من الحمودية نقطة الصفر، أيّ النقطة التي يطلق منها التفجير. وكان المسؤول المباشر على المشروع النووي الفرنسي في الصحراء الجزائرية الجنرال شارل أيري Général Charles Ailleret، صاحب كتابين هامين لما يقدمانه من شهادة حية عن الموضوع الأول بعنوان: L’aventure Atomique Française, Souvenirs et réflexions والثاني: Général du contingent en Algérie، وعند معاينته منطقة تانزروفت لأول مرة، صرح:
« من المؤكّد أنّ هذه المنطقة تشكّل الفضاء الأنسب والأمثل لتنفيذ التفجيرات النووية دون أن نعرّض جيراننا لأيّة مخاطر، فالمنطقة تكاد تفتقر تماما لعنصر الحياة”..
وإنّ القراءة الموضوعية لهذا الموقف الذي أبداه شارل أيري بشأن المنطقة كمجال لإنجاز التفجير، يلغي – على الأقل من الناحية الأخلاقية – العنصر البشري، بيد أنّ منطقة رقان حينها كانت تضم نحو أربعين ألف نسمة من أبناء الجزائر، وهي إشارة تؤكّدها مصالح الإعلام والاتصال على مستوى وزارة الدفاع، ثم إنّ الجنرال كان على اطّلاع ومتابعة كبيرين بتفاصيل المشروع الذي لم يكن يتجاهل قوّة مفعول التفجيرات على الجزائر.. الأرض والشعب، على مدى الأجيال والطبيعة، وكذا الأضرار الجسيمة التي سوف تحدثها الإشعاعات بفعل سرعة تناثرها جرّاء الزوابع والعواصف الرملية. وقد قدر معدل المسافة التي قد تصل إليها بمئات الكيلومترات.
المركز الصحراوي للتجارب العسكرية برقان
على ضوء التوصية التي أفضت إليها وزارة الدفاع 30- الفرنسية، أنشئ عام 1957 المركز الصحراوي للتجارب العسكرية : – Le centre Saharien d’Expérimentation Militaire C.S.E.M كمجال لإجراء التجارب في الصحراء، وكلفت الكتيبة الثانية منذ نوفمبر 1957 وإلى غاية شهر أكتوبر 1958 بتسيير الأشغال والإشراف على إنجازها في المنطقة المسماة بالهضبة في الضواحي القريبة من رقان، وفي ذلك يقول شاهد عيان: “لقد شاهدت الفرنسيين في سنة 1957 وهم ينجزون البنايات الغربية والمقرات والقاعدة الجوية حتى تحوّلت المنطقة نتيجة حجم المنشآت والمرافق إلى باريس الثانية مثلما كان يردّد أفراد الجيش الفرنسي..
مصالح المركز الصحراوي للتجارب العسكرية:
القيادة العامة: كان الجنرال شارل أيري Charles Ailleret بحاجة إلى من يرافقه في هذا المشروع، فعين فريقا هاما من العسكريين والخبراء والمهندسين وأوكل قيادة المركز للكولونيل Cellerier المشرف المباشر بعد الجنرال، كما تكلّف أيضا بتسيير مالية المركز وصرفها.
القيادة المشتركة متعدّدة القوّات للأسلحة الخاصة: من الناحية التنظيمية والإدارية تشرف عليها الإدارة المركزية بالعاصمة الفرنسية، ومن الناحية العملية فهي تابعة للمركز الصحراوي للتجارب العسكرية وتتلخّص مهامها في إنجاز كلّ نشاطات المركز والإشراف المباشر عليها، وكان من بين عناصر هذه القيادة زمرة هامة من العلماء في اختصاصات جد تقنية غالبيتهم من خريجي L’Ecole des Armes مدرسة Lyon، بالإضافة إلى بعض الموظفين الكبار.
المجموعة 621 للأسلحة الخاصة: تمثل فرعا من فروع القوات العسكرية Groupe d’Armes Spéciales البرية وظيفتها نقل العتاد والمعدات الخاصة بها، وتوزيعها على مختلف مصالح المركز الصحراوي للتجارب العسكرية وضمان الأمن، كان مقرّها بعين أيكر، ومن أبرز مصالحها سلك الهندسة والإشارة والمشاة والمدفعية.
كتيبة القيادة والخدمات: تعتبر كتيبة القيادة والخدمات الجهة المسؤولة عن مصلحة الإشارة والرادار الجوي، وهي تضم مفرزات على رأس كلّ واحدة منها عسكري برتبة ملازم أول وملازم ثاني احتياطي.
الفرقة الحادية عشر للهندسة الصحراوية: اتخذت هذه الفرقة في البداية مدينة وهران مقرا لها قبل أن تتحوّل إلى رقان غير بعيد عن أدرار قصد الإشراف على عملية إنجاز وبناء قواعد الحياة، وشقّ القنوات وتسهيل المسالك والطرقات.
الوحدة التقنية 620: وتتلخّص مهمتها في إيجاد وسائل وعناصر قياس النشاط الإشعاعي ومجالات تأثيراته.
المصلحة التقنية للقوّات: تتألّف هذه المصلحة من ثلاث وحدات تعرف أولاها باسم وحدة STAY وهي في الأصل جهاز سري مهمته إنجاز الدراسات الخاصة بالأسلحة النووية وقياس النشاط الإشعاعي، تتوزّع على مناطق مختلفة من رقان هي منطقة : أولف تابلبالة – تانزروفت وأقبلي وثانيها وحدة يرمز لها بحرف 2 التي اتخذت من وادي الناموس” ببشار مقرا لها قبل أن تنتقل إلى منطقة رقان للإشراف على كلّ ماله علاقة بالسلاح الكيماوي. وأما الوحدة الثالثة والتي يرمز لها بـ STA/E فمهمتها توفير رادار المراقبة للمدرج الجوي، وذلك لتأمين الطائرات في محيط ومجال التفجيرات ورادار من نوع BAR للإرشاد الصوتي بهدف توجيه الطائرات في حال حدوث اضطرابات جوية.
فصيلة الجندرمة: من مهامها الرئيسة المسؤولية التامة عن المسائل الأمنية الداخلية والخارجية للمركز الصحراوي للتجارب العسكرية، بتشديد الحراسة على المدرج الجوي والحرص على عدم اقتراب أيّ عنصر مهما كانت صفته إلا بترخيص خاص وبصرامة فائقة، كما كانت تكثّف من نصب الحواجز الأمنية في دائرة قطرها أربعون كلم من منطقة الحمودية.
الكتيبة الصحراوية لإقليم توات: كان مركزها بمدينة أدرار ووظيفتها الرئيسية ضمان الأمن للمركز الصحراوي للتجارب العسكرية بمحيط أمن خاصة بعد ما تم تزويدها بعربات خاصة تتلاءم وطبيعة المنطقة أبرزها الشاحنات العسكرية 6×6.
مصلحة مرافق الطيران بالجزائر: على غرار كلّ المصالح الأخرى، كانت مصلحة الطيران بالجزائر استقرت بالجزائر العاصمة بإدارة مركزية، وظيفتها في المركز الصحراوي للتجارب العسكرية تتلخّص في بناء المطارات وإلحاق تجهيزاته من برج المراقبة والمدرجات وسلك الرادار، ويسهر على هذه المصلحة فريق الهندسة الجوية الذي انتقل في مرحلة لاحقة لإنجاز مطار عين امقل.
قاعدة رقان الجوية: أقيمت برقان المدينة الصحراوية قاعدة جوية لإقلاع وهبوط الطائرات ومختلف سلاح الجو كما تم تزويدها برادار خاص من نوع PAR ومصالح للأرصاد الجوي ومحطات خاصة بالحوامات والطائرات الحربية من نوع U52 وDC3 – وC47.
قاعدة الحمودية:
بعدما وقع الاختيار على منطقة رقان لتكون حقل أول تجربة تفجير نووية فرنسية، انتقلت الكتيبة الثانية إلى الحمودية المباشرة أعمالها في بناء قاعدة إطلاق التفجيرات في شهر أكتوبر 1958، وانطلقت الأشغال في بداية شهر نوفمبر من السنة نفسها.
وبعد ثلاثة أشهر، كانت الأشغال جارية في حقل الرماية، وعلى مستوى البرج الذي نصبت فيه القنبلة الأولى التي أطلق عليها اليربوع الأزرق. واعتبارا من أكتوبر 1959 كان المسلك بين رقان الحمودية جاهزا للاستخدام، ونتيجة النشاط الذي عرفه الطريق أخضع خلال فترة وجيزة لأعمال صيانة، وما أن حلّت سنة 1960 حتى كانت الأشغال بمختلف مرافق وورشات قاعدة الحمودية جاهزة تماما، وقد تطلّبت وتيرة الإنجاز السريع مضاعفة عدد العاملين بالقاعدة، فإلى جانب 6500 فرنسي من أفراد الجيش والعلماء والخبراء، تم نقل أزيد من 3500 جزائري غالبيتهم من معتقلين وبسطاء العمال من العوام.
استمرت الأشغال على مستوى قاعدة الحمودية خلال 1960 و1961 بإنجاز منشآت جديدة وتجهيز المرافق وصيانة العتاد والمسالك منها إعادة إصلاح وتعبيد الطرق الرابطة ما بين الحمودية – إغيل، والحمودية – حقل الرماية.
ويذكر شاهد عيان من المنطقة وأحد ضحايا التفجيرات أنّه كان من بين مئات الجزائريين الذين استغلوا في أشغال شاقّة كانوا لا يعرفون طبيعتها، إذ استغرقوا وقتا طويلا في شقّ الأنفاق الأرضية التي سوف تشكّل مخابر وإدارة القاعدة، ولا تزال هذه الأنفاق موجودة إلى اليوم، ومن المكاتب الموجودة بالأنفاق ما كان يخضع للسرية التامة. وعلى سطح الأرض، أضيفت منشآت أخرى متعدّدة ومرافق للترفيه أنجزت في معظمها بسواعد جزائرية.
وبقاعدة الحمودية، أضيفت بعض الفروع والمصالح الرئيسية وأخرى ذات الأهداف الاحتياطية منها مصالح الإشارة المختصة في إصلاح وصيانة المنشآت الهاتفية ومراقبة وضعية الكوابل والخطوط والمراكز الأوتوماتيكية، التي توفر شروط الاتصال الجيدة بين مديرية التطبيقات العسكرية والمركز الصحراوي للتجارب العسكرية وبين فرنسا والجزائر. ومن الأجهزة التي كانت تتوفّر لدى قسم الإشارة جهاز التليكس المشفر وأجهزة التحويل من صنف HF والتلغرافية. كما أضيفت أيضا مؤسسة تحمل اسم SODETEG تتبع من الناحية التنظيمية مديرية التطبيقات العسكرية DAM وتتلخص وظيفة هذه المؤسسة في توفير أجهزة القياس المختلفة ذات الاختصاصات الهندسية وغيرها، وإيصال وتركيب الخيوط والكوابل المختلفة ولضمان أمن هاتين المصلحتين كلّفت كتيبة الأمن بمسؤولية الأمن داخل القاعدة وفي محيطها وشدّدت المراقبة والحراسة عند مداخل القاعدة ومصالحها الحسّاسة.
وبالنظر إلى جميع المرافق والمصالح والتجهيزات التي أوردنا تكون فرنسا قد استوفت كلّ الشروط التي جمعت معظمها في الصحراء الجزائرية تحضيرا لإجراء أول تفجير للقنبلة النووية الفرنسية في عملية أطلق عليها اليربوع الأزرق، صباح يوم 13 فيفري 1960، على الساعة السابعة صباحا، بمنطقة رقان بلغت قوّتها أربع مرات قوّة تفجير هيروشيما وناغازاكي، تفجير أضفى صور الافتخار لفرنسا مثلما تصوّره هذه الجريدة الصادرة في اليوم الموالي من التفجير الذي لم يكن ليمس التراب الفرنسي ولا الشعب الفرنسي بقدر ما سوف يحدث الانعكاسات والكوارث الصحية والبيئية على الجزائر وأجيالها المتعاقبة.
للمقال مراجع