قيادة أركان الولاية الرابعة – الوقوف من اليمين إلى اليسار:
أعمر أوعمران، رشيد غرين، علي خوجة، إسماعيل عبد السلامي، رابح مقراني، أمحمد بوقرة، محمد زعموم.
الجلوس من اليمين إلى اليسار: عبد الله بربار، عبد الرحمن لعلا، محمد فراج، حسين البوشي، عبـد القادر كبدي، (مجهول)
بقلم: عزیز خيثر
جامعة مولود معمري – تيزي وزو
علي خوجة.. شوكـة في حلق الاستعمـار
على الرغم من الانطلاقة الصعبة لجيش التحرير والمشاكل العديدة والتحديات الكبيرة التي واجهته في هذه المرحلة واستمرت تقريبا طيلة سنوات الثورة، إلا أنه استطاع أن يتطور على أكثر من صعيد بمرور الوقت، بالشكل الذي جعله في كثير من الأحيان قادرا على تجاوز العديد من المشاكل والتحديات التي اعترضت مساره ونشاطه العسكري، وفي أحايين أخرى، مكنه من تحقيق إنجازات عسكرية كبيرة ومبهرة، برهن من خلالها عن قوته وحسن تنظيمه وكفاءة مقاتليه ودهاء قادته.
ولعلّ من بين أبرز العوامل التي ساعدت جيش التحرير الوطني على التطور، هي تلك المرونة والقدرة الكبيرة على التكيف مع الأوضاع الجديدة والتحديات التي كانت تفرضها ظروف القتال، فضلا عن المبادرة الميدانية وسرعة الاستجابة والرد على الإستراتيجية العسكرية الاستعمارية الفرنسية. ويدخل في هذا الإطار إنشاء وحدات عسكرية خاصة داخل جيش التحرير، كتلك التي عرفتها الولاية الرابعة منذ 1956م والتي حملت اسم “الكومندو”، وفي الوقت الذي كانت فيه وحدة الكومندو تتميز عن بقية التشكيلات العسكرية الأخرى لجيش هذه الولاية، كانت هذه الأخيرة تتميز عن باقي الولايات الأخرى بالسبق في إنشاء وتشكيل هذه الوحدة التي كانت تمثل تنظيما عسكريا مستحدثا أضيف للتنظيم الهيكلي لجيش التحرير في هذه الولاية.
لقد اعتمدنا في دراسة هذا الموضوع بشكل كبير على الشهادات التاريخية التي تمّ تسجيلها في وثائقيات وحصص متلفزة أو روايات شفوية مسجلة لمجاهدين سابقين في هذه الوحدة، بالإضافة إلى مذكرات بعض قادة هذه الوحدات، أبرزها تلك التي كتبها الرائد عز الدين الموسومة بـ Les Fellagas، والتي تعتبر من بين أهم المصادر الموثقة حول هذا الموضوع. من بين ما نروم إلى بلوغه في هذه الدراسة، هو أن فكرة إقدام قادة الولاية الرابعة على استحداث هذه الوحدة الجديدة، كانت عملا إجرائيا عبر عن رؤية جديدة عند هؤلاء القادة في إستراتيجية المواجهة العسكرية ضد جيش العدو وأعوانه، راهنوا في قدرتها على مساعدتهم في تجاوز المعضلات العسكرية التي كانت تعترض وتواجه هذه الولاية، فضلا عن محاولة إعطاء دفع أو تفعيل للمجهود العسكري الثوري بالشكل الذي يساعد على رفع نسق مواجهتها ضد قوات العدو، أكثر مما كان يعبر عن رغبة في الانفراد والتميز عن باقي الولايات الثورية الأخرى، وحتى نستطيع توضيح هذه الفكرة، سنحاول البحث في كيفية إنشاء هذه الوحدة، والوقوف على مدى مساهمتها في تفعيل العمل الثوري لاسيما العسكري بهذه الولاية وحتى خارجها، بالشكل الذي يسمح لنا بتقييم مدى إصابة قادة هذه الولاية حول قرار إنشاء وحدة الكومندو في صفوف الجيش، وهل فعلا كانت هذه الوحدة كما توصف نخبة المجاهدين؟ وباعتبار أن تشكيل هذه الوحدات سنة 1956م كان أمرا مستحدثا وغير مسبوق في صفوف جيش التحرير، هل أحدث ذلك تأثيرا على البناء الهيكلي والتنظيمي لوحدات هذا الجيش في الولاية الرابعة؟ وهل انعكس بالإيجاب على وتيرة العمل المسلح فيها؟
الثورة بالمنطقة الرابعة قبل تشكيل الكومندو 1954-1956
لم تكن المنطقة الرابعة عند الانطلاقة حاضرة بالشكل الذي كان متوقعا منها، بحيث يمكن القول عموما إنها عرفت انطلاقة متعثرة على الرغم من أن المنطقة التي كانت مركز التخطيط للثورة قبل تفجيرها، إلا أن ذلك لم يشفع لها لتكون مركز ثقل للثورة على غرار الأوراس وعلى الرغم من الدعم ولو بشكل محدود الذي حصلت عليه من المنطقة الثالثة التي أمدتها بالرجال، إلا أن التعثر ظل ملازما للنشاط الثوري بهذه المنطقة خلال هذه الفترة الصعبة من عمر الثورة. ولعلّ من بين أهم أسباب هذا الوضع هو ذلك الضعف المسجل في عدة وعدد مجاهدي هذه المنطقة.
لم تستعد هذه المنطقة حيويتها الثورية بصورة فعلية إلا في ربيع 1955م، ومن المفارقات أن ذلك قد تزامن مع اعتقال قائدها رابح بيطاط في مارس من نفس السنة، بعدما تدخلت المنطقة الثالثة مرة أخرى لسدّ ذلك الفراغ وإنقاذ هذه المنطقة التي كادت أن تختنق على حدّ تعبير العربي الزبيري، لكن هذه المرة كانت بصمة تدخلها أكثر وضوحا وتأثيرا بعد التحاق قادة عسكريين على رأسهم أعمر أو عمران، وإطارات سياسية على رأسها عبان رمضان، مما أدى إلى انبعاث النشاط الثوري في شقيه العسكري والسياسي، وبشكل سريع بدأت تظهر في هذه المنطقة ولاسيما في العاصمة، نواة لقيادة مركزية للثورة تصدت بشكل ملفت وفعّال لحل الكثير من المعضلات التي كانت تعاني منها ليس فقط هذه المنطقة، وإنما الثورة في كامل ربوع الوطن.
على الصعيد العسكري، نجح أو عمران في إعادة تنظيم هياكل المنطقة الرابعة بعد ربط الاتصال مع معظم قادة النواحي والأقسام، كما تمكن من إنشاء عدة أفواج، غير أن ميزة العمل شبه المستقل بين النواحي ظلت ملازمة للنشاط الثوري بالمنطقة كغيرها من المناطق الأخرى، كما غلب عليه طابع العمل الفدائي والتخريبي، إلى غاية انعقاد مؤتمر الصومام الذي حدد المعالم الإدارية والسياسية لها، كما زودها بقيادة جديدة عين على رأسها صادق دهيلس إلى جانب كل من أحمد بوقرة (سي أمحمد) ومحمد زعموم (سي صالح) والرائد رابح المقراني (سي لخضر) الذي التحق بهما فيما بعد، وهم الذين أشرفوا على تنظيم جيش التحرير في هذه الولاية التي كان لها دور كبير في الثورة، ومميز في بعض الأحيان، ولعل من بين أسباب هذا التميز هو امتلاكها وحدات عسكرية كانت تختلف عن باقي وحدات جيش التحرير في باقي الولايات التاريخية الأخرى، عرفت باسم وحدات الكومندو.
مصطفى خوجة.. مؤسس الكومندو
لا يمكن الحديث عن وحدة الكومندو في الولاية الرابعة وحتى في الثورة دون التطرّق لمصطفى خوجة المدعو علي خوجة، ذلك أنه هو أول من فكر وبادر بتشكيل هذا التنظيم العسكري الجديد داخل جيش التحرير في الولاية الرابعة، الذي حمل في عهده اسم كومندو المنطقة الأولى وكومندو بوزقزة، وأيضا “كومندو الموت”.
ولد مصطفى خوجة يوم 12 جانفي 1933م ببلكور، من أب كان يعمل محاسبا في مصنع للتبغ، أما والدته فقد كان اسمها خداوج بن جعفر. ويبدو بأن مصطفى عاش طفولة ومراهقة عادية إلى أن شب واستدعي لأداء الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي، الذي عاد إليه بعدما تمّ استدعاؤه مرة أخرى سنة 1955م، بحيث لم يعرف عنه بأنه انخرط في أي حزب أو تنظيم سياسي، لكن هذا لم يكن يعني بأن مصطفى خوجة لم يكن مهتما بما كانت تعيشه بلاده تحت الاستعمار، أو غير واع بالواقع المزري والبائس الذي كان يعيش فيه عامة الجزائريين، بل على العكس من ذلك تماما، حيث تذكر أخته سليمة خوجة بأنهم عندما كانوا أطفالا صغارا ويذهبون للعب، كانت لعبة مصطفى المفضلة هي القيام بتمثيل عملية إلقاء القبض على فرنسا، وكان دائما يردد في هذه اللعبة بأنه سيلقي القبض عليها ويأخذها إلى سيدي فرج ثم يقول لها من هنا دخلت ومن هنا ستخرجين، وأنا الذي سوف أخرجك.
إن مثل هذا الخيال البريء أو التفكير عند الطفل مصطفى، يبين بأنه كان يرفض الظلم الفرنسي منذ نعومة أظافره، كما يبين إصراره على مقاتلة فرنسا وإخراجها من الجزائر.
كان مصطفى خوجة يعمل في الخراطة والتضليع قبل أن يتمّ استدعاؤه ضمن الاحتياطيين، كما كان شابا بسيطا لا يظهر عليه ما يميزه عن أقرانه متوسط القامة ويتمتع بصحة جيدة بسبب ممارسته للرياضة. وفي البيت كان شابا لطيفا وطيبا وهادئا، بحيث يذكر عنه يونس خوجة (ابن أخ مصطفى) بأنه كان يقدر المرأة كثيرا ويعطف عليها، أين يروي عنه بأنه كان يعجن الخبز لأمه، وحاك قميصا من الصوف لها، وفي نهاية كل أسبوع كان يتولى الأعمال المنزلية ويطلب من نساء العائلة عدم فعل أي شيء، لذلك، عندما شاع خبر التحاقه بالجبال لم تصدق ذلك نساء العائلة من عمات وخالات، نظرا للمعاملة الرقيقة والحنان الشديد الذي كان يطبعه، لاسيما وأن قراره من ثكنة بلكور في 16 أكتوبر 1955م كان غداة مراسيم زواج أخته الصغرى التي حضرها قبل أن يلتحق بالثكنة التي فر منها مساءً رفقة أحد أصدقائه.
إن الطبع الهادئ والحس المرهف الذي ميز شخصية مصطفى خوجة، كان يخفي بداخل جذوة متقدة للثورة ورغبة جامحة للانخراط فيها، وهو ما صارح به أحد رفاقه بالثكنة ينحدر من نواحي ثنية الحد بين بني عمران، وصادف أن رفيقه هذا كان ابن عم على تازرورت الذي كان يعمل في شبكة اتصالات أعمر أو عمران، فطلب هذا الأخير من خوجة أن يخرج معه الأسلحة من الثكنة التي كان فيها، وهي المهمة التي قام بها رفقة زميله بنجاح، عندما قاما في 16 أكتوبر 1955م بالفرار من ثكنة بلكور حاملين معهما صندوقا فيه 10 رشاشات مات 49 ومجموعة من القنابل اليدوية (الرمانات).
بعد فراره من الثكنة، التحق بجبال الأخضرية التي أصبحت فيما بعد المنطقة الأولى من الولاية الرابعة، ولم يمض وقت طويل حتى استطاع إقناع قادته لاسيما أو عمران بقدراته القتالية في العمليات التي شارك فيها، فأعطيت له قيادة فوج من المجاهدين، ثم أسندت له قيادة فصيلة كانت تعد الأولى في المنطقة رفقة فصيلة سي الخضر (رابح المقراني) تكونت هذه الفصيلة من عناصر تمّ اختيارها من أفواج عمر الشايع، لكبير عبد العزيز علي الدوادي وسي لونيس، ولقد استطاع علي خوجة تسليح فصيلته من الكمائن والهجومات الناجحة تسليحا جيدا بعد أن كانت تحمل المسدسات و بنادق الصيد، بل تمكن أيضا في بعض الأحيان من مد جنود النواحي الأخرى بالسلاح واللباس. ولقد كان له قول مأثور في هذا المجال يحفز به الجنود وبقية أقرانه من القادة بالقول: “من يريد السلاح عليه أن يذهب إلى الطريق المعبد”، وعن تحمسه للقتال وإيمانه بدور العمل المسلح في تحقيق الاستقلال، كان دائما يردّد: “إن رصاصة تصيب العدو خير من ألف خطاب حماسي لا تتجاوز به عتبات التجمع”.
في هذا السياق، وبعد تلك النجاحات العسكرية التي حققها على خوجة مع جنوده، ظهرت فكرة تشكيل وحدة عسكرية جديدة متميزة عن باقي وحدات جيش التحرير التي كانت موجودة بهذه الولاية، بحيث اقترح علي خوجة في نهاية جوان 1956م على قيادة المنطقة تشكيل وحدة الكومندو، وهو الاقتراح الذي نال قبول وتشجيع قادتها، فقام على خوجة بتشكيل هذا الكومندو من جنود فصيلته السابقة وبعض العناصر من الأفواج و الفصائل الأخرى، من بين الذين برهنوا على كفاءتهم وقدراتهم القتالية والعسكرية)، وقد ساعده في هذا العمل مصطفى لكحل الذي فرّ من ثكنة باليسترو (الأخضرية) بعدما جعله علي خوجة نائبا له، ومن بين بعض المجاهدين الذين تشكلت منهم هذه الوحدة كان هناك ثلاثة طلبة بالثانوية هم محمود رويس، بشير رويس المدعو نهرو، بخوشة، ذلك أن على خوجة كان يركز في عملية انتقاء عناصر هذه الوحدة – بالإضافة للمجندين السابقين في الجيش الفرنسي على العناصر الشابة الذين لا تتجاوز أعمارهم أكثر من 25 سنة.
يذكر الرائد عز الدين بأن أول كومندو أنشأه على خوجة كان في البداية عبارة عن سرية تتكون من 30 جنديا، وبعد 09 أشهر، استطاع علي خوجة تشكيل أقوى كومندو على مستوى الولاية، وأصبح يضمّ حوالي 150 جنديا مسلحا تسليحا جيدا، ولقد كانت تعرف هذه المجموعة في الأول باسم كومندو بوزقزة، ثم كومندو المنطقة الأولى، كما كانت تعرف أيضا بـ«كومندو الموت” نظرا للقوة التي كانت تتمتع بها هذه المجموعة وخطورة المهام والعمليات التي كانت تقوم بها، والتي أجبرت الجيش الفرنسي بالمنطقة على تقصي أخبارها والسعي حثيثا في البحث عنها وعن قائدها خاصة، من أجل الإيقاع به بعد الشهرة الكبيرة التي حازها والعمليات الناجحة التي نفذها رفقة مغاويره ضد وحدات الجيش الفرنسي.
إن النجاح العسكري الذي استطاع أن يحققه علي خوجة ضد الجيش الفرنسي والشهرة الكبيرة التي كان يتمتع بها لم تكن من نسج الخيال أو من حسن صدف على خوجة في الحياة، أو مبالغة من العدو حتى يضفي الأهمية على الانجاز العسكري الذي حققه بالقضاء على متمرد خطير ذائع الصيت مثل علي خوجة. فضلا عن أن تكون هذه الشهرة مجرد أسطورة من الأساطير التي تدخل في إطار اختلاق تاريخ الشخصيات خارقة في التاريخ صنعت بطولات من الوهم أو بطولات عادية نفخت بالتعظيم الزائف، فاسم علي خوجة نقش في تاريخ الثورة بفضل جهد كبير وعمل ميداني فعّال وإقدام وحماس وشجاعة منقطعة النظير، فضلا عن روح إنسانية وأخلاق فاضلة لقائد عسكري شاب مفعم بالحيوية ومتشبع بالروح الوطنية ومستعد إلى أبعد الحدود للتضحية من أجل قضية بلاده. ولما كان من النادر اجتماع كل هذه الصفات والمواصفات في شاب يافع مثل علي خوجة لم يكن من الغريب أن يتمكن من تحقيق نجاحات عسكرية كبيرة وكثيرة ضد العدو، وأن يحوز شرف تلك الشهرة الكبيرة التي خلدها له التاريخ، وأكدتها شهادات رفاقه وكل من عرفه في درب الكفاح.
فرسان النّزال يزلزلون الأرض بالمستعمر
لعلّ أوّل حقيقة تاريخية ثابتة في حق هذا البطل تجمع الشهادات التاريخية للمجاهدين حولها هو أن علي خوجة بعد التحاقه بجبال الأخضرية كان أول مجاهد بالمنطقة يتجرّأ على الخروج رفقة جنوده مواجها قوات العدو في وضح النهار، وعن هذا الخروج في وضح النهار يذكر الرائد عز الدين بأن المجاهدين في هذه المنطقة كانوا يتقاسمون السيطرة عليها مع الجيش الفرنسي المجاهدون في الليل، والجيش الفرنسي في النهار، لكن بعد مجيء علي خوجة، بدأ يكسّر سيطرة الجيش الفرنسي في النهار. أما عن العمليات التي كان يقوم بها، يذكر المجاهد مامش على المدعو سي لخضر، الذي شارك رفقة على خوجة في 11 عملية بأنّه “لم تكن هناك أي عملية نترك فيها أسلحة، أما بشير رويس الذي كان هو الآخر ضمن كومندو مصطفى خوجة، فيذكر أن أغلب عمليات على خوجة كانت ناجحة، وحتى تلك التي لم ينجح فيها لم يخسر كثيرا من الجنود.
ولأخذ فكرة عن نوع العمليات التي قام بها علي خوجة خاصة بعد تشكيله لوحدة الكومندو، يكفي أن نذكر فقط كمين باليسترو في ماي 1956م سنأتي على ذكر تفاصيله لاحقا، الذي قال عنه المؤرخ بن يامين سطورا إنه كان صدمة قوية للرأي العام الفرنسي الذي عرف لأول مرة حقيقة الحرب، وبأن هذا الكمين كان بمثابة رد على قانون السلطات الاستثنائية، حيث سقط في هذه المرة جنود احتياطيين من عمق المجتمع الفرنسي، وكانت هذه المرة الأولى التي بدأ يشيع فيها مصطلح “الحرب” حول ما يحدث في الجزائر، ما كان يعني – على حد قوله – حدوث تحول في شعور الفرنسيين الذين بدأوا يشعرون بأنهم فعلا في أزمة.
إنّ علي خوجة، كما يذكر المجاهد لخضر بورقعة، لم يكن كما عرفه الجميع شخصا عاديا، بل كان عبقريا حقيقيا في أفكاره وأفعاله، حركيا إلى درجة أن يستحيل تحديد مكان تواجده، صاعقا في قتاله العدو، وقد تميزت عملياته العسكرية بالأسلوب الأسطوري الخارق.
لعل من تجليات قيمة التجربة التاريخية لمسيرة الثائر البطل علي خوجة خلال الثورة، هي أن هذا الأخير كان يعبر عن التزام مثالي – على حد قول الأستاذ عبد المجيد مرداسي – بحيث عبّر عن شكل جديد من الالتزام النضالي لجيل من الشباب الذين لم يناضلوا من قبل في الأحزاب أو الجمعيات الوطنية، وإنما نضالهم كان نابعا من اطلاعهم على الحرب وبشاعة الممارسات الاستعمارية، ووعيهم بشرعية كفاح جبهة التحرير الوطني من أجل حرية واستقلال الجزائر.
ومن جهة أخرى، كان علي خوجة يعبّر عن رسوخ جبهة التحرير في المدن، أين كانت قواتها تتجدد وتتدعم بالشباب القادمين من المدينة كالعاصمة ووهران وقسنطينة، وكانوا يعزّزون جودة ونوعية العمل والتأطير في صفوف جبهة وجيش التحرير إبان الثورة.
استشهد علي خوجة خلال تواجده في حوش بن مرابط في سهل متيجة بالقرب من برج الكيفان في 11 أكتوبر 1956م مع مجموعة من مغاويره، بعد أن تعرضوا لوشاية من طرف أحد الخونة المتعاونين مع الاستعمار. كان عمر علي خوجة آنذاك لا يتجاوز 24 سنة.
ثلاث وحدات كومندو الولاية الرّابعة
من بين ما تميّزت به الولاية الرابعة عسكريا عن باقي الولايات الثورية التاريخية، هو تشكيلها لهذه الوحدة العسكرية في صفوف جيشها كتنظيم جديد لم يكن معمولا به من قبل، واستمر هذا التنظيم حتى بعد عقد مؤتمر الصومام على الرغم من أنه لم يشر في قراراته التنظيمية والهيكلية لجيش التحرير إلى مثل هذه الوحدة العسكرية، ما جعل هذه الأخيرة تمثل وضعا أو شكلا خاصا من أشكال تنظيم جيش التحرير في هذه الولاية، ذلك أنّ الكومندو كانت وحدة عسكرية تختلف عن الكتيبة من الناحيتين العددية والنوعية، فعدد أفراد الكومندو كان يتراوح ما بين 120-150 مجاهدا، ولم يكن يُسمح الالتحاق بصفوفها إلا للعناصر المميزة في الكتائب، الأمر الذي جعل وحدة الكومندو تمثل نخبة جيش التحرير في هذه الولاية، لاسيما ما بين 1956 و1960م. ولما كانت هذه الوحدة بهذا القدر من الأهمية والفعالية، قامت قيادة المنطقة والولاية فيما بعد، بمنح هذه الوحدة رخصة المرور داخل مختلف مناطقها حتى تستفيد هذه المناطق من خبرتها، وفيما بعد، أصبحت هذه الوحدة العسكرية تتواجد على مستوى المناطق بحيث عرفت الولاية الرابعة ثلاث وحدات من الكومندو هي:
كومندو علي خوجة بالمنطقة الأولى
تشكّلت هذه الوحدة بهذا الاسم بعد استشهاد على خوجة، حيث أطلق اسمه عليها تخليدا له واعترافا بما قدمه للثورة ولهذه الوحدة بالمنطقة، لذلك تعتبر هذه الوحدة امتداد لكومندو بوزقزة.
يذكر مصطفى البليدي بأنه بعد استشهاد مصطفى خوجة، ظل من بقي من أفراد الكومندو تائها بسبب غياب قائدهم، وهو الأمر الذي – على ما يبدو – قد حزّ في نفوس قادة الولاية الرابعة الذين أبوا أن يروا ميراث هذا البطل يتلاشى أمام أعينهم، والتيه مصير الجنود الذين كونهم ودربهم هذا القائد الفذ، لذلك قرروا مواصلة السير على درب رفيقهم من خلال إعادة بعث وحدة الكومندو من جديد، وهو الأمر الذي تحقق بعد عقد اجتماع بوكرام في جانفي 1957م. عقد هذا الاجتماع بالقرب من زاوية علي الحمامي بواد بوكرام (جنوب غرب الأخضرية بحوالي 10 كلم، في بيت أحد القياد من المنطقة الذي يذكر عنه الرائد عز الدين بأنه سخّر كل ممتلكاته وأسرته لخدمة الثورة).
دام هذا الاجتماع ثلاثة أيام متتالية، وتكفل سي لخضر وسي عز الدين وسي مسعود وسي العيد بالتحضير لهذا الاجتماع وتوفير الأمن، بينما تولّى رئاسته اعمر أوصديق، كما حضره كل من بوعلام أوصديق وسي أمحمد وعبد الرحمن لعلا، وغيرهم من القادة والإطارات، وفيه تقرّر تعيين عز الدين برتبة رائد على رأس وحدة الكومندو التي أطلق عليه اسم علي خوجة، وطلب منه تشكيل وحدة من أفضل جنود الولاية مع إعطائه كامل الحرية في اختيار هذه العناصر.
قام عز الدين بالاحتفاظ بنصف عناصر الكتيبة التي جاءت معه من عين بسام، وأضاف آخرين إلى أن وصل عدد أفراد هذه الوحدة 110 جندي، وعن هؤلاء الجنود يذكر عز الدين بأنهم كانوا منضبطين جدا، بحيث لم يكونوا يبدون الطاعة فقط وإنما أيضا الصداقة، والعلاقات فيما بينهم. كانت علاقات أخوية مبنية على الاحترام المتبادل.
لقد كان تنظيم هذه الوحدة تحت قيادة الرائد عز الدين شبيها بالكتيبة، بحيث تشكل هذا الكومندو من ثلاثة فصائل قادها كل من عبد النور وقادة بن زروق والطاهر من بئر غبالو، وكل فصيلة كانت تتكون من ثلاثة أفواج، كما كان ضمن هذا الكومندو مرشدان هما سي محمود الباي وعمر الزبربر.
بعد تعيين الرائد عز الدين قائدا عسكريا في مجلس الولاية، خلفه على رأس الكومندو القائد عبد النور (كان معلما للقرآن)، ثم تلاه بعد استشهاده بلعيد الذي جاء من الولاية الثالثة، ثم خلفهما آخرون حسبما يذكر عز الدين، دون أن يذكر أسماءهم، في حين يذكر المجاهد شرقي محمد بن أحمد المدعو “موح الشيخ بوشعير”، بأن الذي خلف سي عبد النور بعد استشهاده هو الملازم بوسيف الذي عمل هذا المجاهد تحت قيادته.
كومندو سي امحمد بالمنطقة الثّانية
شارك هذا الكومندو رفقة كومندو علي خوجة في مساعدة الولاية الأولى التي كانت تعاني من مشاكل داخلية، ولقد انجر عن هذه العملية أن فقد هذا الكومندو كثيرا من عناصره وإطاراته، ولقد جاء قرار مشاركة هذا الكومندو في هذه العملية بعد اجتماع قادة الولاية برئاسة سي امحمد بوقرة، أين تقرر مساعدة الولايات التي كانت تعاني من مشاكل داخلية.
تولى الرائد عز الدين قيادة كومندو هذه المنطقة (البليدة، المدية مؤقتا) بعدما كلّفته قيادة الولاية بذلك على إثر استشهاد قائد هذا الكومندو والعديد من إطاراته، ممّا أدى إلى انخفاض معنويات جنوده، وطلب منه إعادة تنشيط ورفع معنويات عناصر هذه الوحدة، فانتقل الرائد عز الدين إلى هذه المنطقة وقام بالهجوم على أحد المراكز للحركى الذي كان قريبا جدا من إحدى القواعد العسكرية للجيش الفرنسي، أين نجح في أسر عدد من الخونة وغنم عدد معتبر من الأسلحة على إثر مباغتة حراس هذا المركز ومساعدة أحد الحركي الذي تعاون مع المجاهدين وسهل لهم عملية المداهمة، الأمر الذي أعاد النشاط والحيوية لعناصر هذا الكومندو، بالإضافة إلى عمليات أخرى ناجحة قادها معه الرائد عز الدين.
كومندو سي جمال بالمنطقة الثّالثة
حمل هذا الكومندو اسم قائده الياس إمام، المدعو سي “جمال” الذي كان طالبا، وهو من ناحية المدية، استشهد في معركة أبراز بجبال زكار (مليانة) في سبتمبر 1957م، خلفه سي امحمد رايس من البليدة.
قام هذا الكومندو بدور كبير في القضاء على حركة كوبيس” (بلحاج عبد القادر) بفضل العملية التي قام بها تحت قيادة محمد بونعامة في رمضان سنة 1957م، والتي أجبرت الطيران الفرنسي على التدخل من أجل مساعدة كوبيس، الأمر الذي جعل أتباعه وحتى الشعب في نواحي تواجده (الشلف) يتأكّدون من عمالته للاستعمار، وبعد نجاح هذه العملية في فضح كوبيس، نجح محمد بونعامة في تصفيته فيما بعد، في شهر أفريل 1958م. ولعل من بين أشهر العمليات العسكرية التي قام بها هذا الكومندو، هو ذلك الكمين الذي قام بوضعه سي جمال لوحدة Commando Noir بنواحي الشلف، كان على رأسها الضابط “غيوم”.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد، هو أن نتائج أو آثار العمليات العسكرية لجيش التحرير كانت في كثير من الأحيان تتجاوز المجال العسكري، بحيث تكون لها أبعاد متعددة بالغة التأثير والصدى سياسيا ونفسيا. وفي بعض الأحيان، قد تحقق هذا الهدف حتى في الحالات التي ينهزم فيها جيش التحرير أو يحقق نتيجة وحصيلة محدودة وضعيفة، ولنا في تاريخ الثورة العديد من الأمثلة عن هذه الحقيقة بداية من هجومات أول نوفمبر 1945م التي كان لها وقعا مزلزلا على الإدارة الفرنسية والمعمرين على الرغم من حصيلتها البسيطة، أيضا إضراب الثمانية أيام أو ما يطلق عليه اسم “معركة الجزائر” التي لم يحقق فيها تنظيم جبهة التحرير بالعاصمة انتصارا عسكريا، لكن الثورة حصدت منه نتائج كبيرة على أكثر من صعيد، لاسيما دبلوماسيا، وقبله هجومات الشمال القسنطيني، وغيرها من الأحداث.
النشـاط العسكري.. الكمائن والمعارك
إن الكفاءة القتالية العالية والتسليح الجيد نسبيا الذي كانت تتمتع به وحدات كومندو الولاية الرابعة، جعل منها مجموعات مغاوير مكلفة بشكل خاص بإنجاز المهام الأكثر خطورة، والتصدي للمعضلات العسكرية التي كانت تواجه جيش التحرير في هذه الولاية، كما مكّنها ذلك في كثير من المعارك، من الوقوف الند للند أمام وحدات الجيش الفرنسي، وتحقيق انتصارات تعد اليوم مآثر خالدة في تاريخ جيش التحرير أثناء الثورة بهذه الولاية. ومن جهة أخرى أعطى تشكيل وحدات الكومندو بهذه الولاية دفعا قويا لوتيرة العمل الثوري المسلح، ورفع من نسق المواجهة العسكرية ضد العدو بعدما طور شكل العمل العسكري وكثف نشاطاته كمّا ونوعا.
ولأخذ فكرة عن حجم وشكل هذا التطوّر في العمل العسكري لجيش التحرير بعد تشكيل هذه الوحدات، نأخذ كمثال المنطقة الأولى من الولاية الرابعة التي عرفت تشكيل أول وحدة كومندو.
قبل صيف 1956م، كانت معظم العمليات العسكرية التي قام بها جنود جيش التحرير في هذه المنطقة لا تتعدى الأعمال الفدائية والتخريبية، وما يؤكد هذا هو ما ذكره Henri Bourdet أحد جنود الاحتياط الذي أرسل إلى الأخضرية في هذه الفترة، أين يذكر بأنه عندما وصل لم يكن يشعر بأي خوف، وكان هو ورفاقه على اتصال عادي بالناس، والتجوال في الأسواق، وبأن كل ما كان يحدث هو بعض عمليات التخريب أو تصفية بعض الأشخاص، ويختم وصفه للوضع السائد آنذاك بالقول: “لقد كان الأمر بالنسبة لنا أشبه بتمضية عطلة”، لكن سرعان ما تحوّلت عطلة Bourdet ورفاقه إلى جحيم بعد تشكيل مصطفى خوجة لوحدة الكومندو بالمنطقة، وباقي الوحدات في الولاية، حيث عرفت هذه المنطقة في الفترة الممتدة من 20 أوت 1956م إلى ديسمبر 1958م تنفيذ 333 عملية عسكرية كبرى، أي بمعدل 12 عملية تقريبا كل شهر، كان نصيب مساهمة المنطقة الأولى لوحدها فقط في الخمسة أشهر الأولى من هذه الفترة حوالي 47%، أي ما يقارب نصف العمليات المنفذة على مستوى كل الولاية، حيث دارت معظم الاشتباكات والكمائن والمعارك بضواحي الأخضرية وقادرية وسوفلات وعين بسام وتابلاط وبوزقزة والثنية.
ونظرا لتركّز العمل الثوري العسكري بهذه المنطقة التي كان فيها مصطفى خوجة وكومندو علي خوجة فيما بعد، شنّ الجيش الفرنسي في المنطقة 585 عملية خلال الفترة أوت 1956م – نهاية 1958م، وفي معظم هذه العمليات، كان كومندو علي خوجة هو المستهدف.
ولقد قاد العديد من هذه العمليات كبار قادة الجيش الفرنسي مثل الجنرال جاك ماسو الذي قاد عملية تمشيطية تحت اسم 15 NC” في الفترة الممتدة من 26 جويلية إلى غاية أواخر سبتمبر 1957م، شملت جبال المدية والأطلس البليدي، وابتداء من 10 جانفي 1958م قاد ماسو أيضا العملية التي أطلق عليها اسم “ديبابولو الغربية” شملت كل من المدية، الزبربر، بوزقزة، الأخضرية وتابلاط، كان هدفها القضاء على كومندو علي خوجة.
وللتأكيد على التطور الذي حصل في مستوى ووتيرة العمل الثوري المسلح بالولاية الرابعة بعد تشكيل وحدات الكومندو، نورد باختصار بعض الأمثلة التي تضاف إلى ما ذكر سابقا – عن العمليات العسكرية التي قامت بها هذه الوحدات ضد الجيش الفرنسي من كمائن ومعارك.
كمين باليسترو
تمّ نصب هذا الكمين في منطقة جراح، 3 كلم شمال الأخضرية في 18 ماي 1956م، قام به علي خوجة انتقاما من الممارسات البشعة التي ارتكبتها وحدة من الجيش الفرنسي بتلك النواحي من قتل وحرق واغتصاب، لذلك، عندما سمع خوجة بما حصل، أصرّ على القيام بعمل ضد تلك الوحدة التي كان على رأسها الملازم Eric Artur أين تمكّن علي خوجة من تحييد 18 جنديا وأسر اثنين، في حين لم يجرح سوى مجاهد واحد هو عمر الشابلي.
ويذكر الرائد عز الدين بأن في هذا الكمين كان هناك مواطنين شاهدوا لأول مرة انتصارا كبيرا للمجاهدين الذين انتقموا من القتل والاعتداءات التي تعرض لها مواطنون عزل من قبل هذه الوحدة، لذلك بعد انتهاء المواجهة التي لم تدم سوى 15 أو 20 دقيقة فقط نزلوا لمكان المواجهة ونكلوا بجثث أولئك الجنود.
لقد ولدت هذه العملية سخطا كبيرا عند الرأي العام الفرنسي، لذلك طالبت الحكومة الفرنسية في باريس بتوضيح ما يجري في الجزائر، ذلك أن ما حصل في العاصمة وضواحيها من عمليات منظمة وناجحة كان يوحي بأنها ثورة حقيقية، وليس كما كان يتمّ تسويقه على أنه عمل “متمردين” و “خارجين عن القانون”.. في المقابل، أدى هذا الكمين وغيره من العمليات الناجحة للمجاهدين إلى رفع معنويات الجزائريين القاطنين بالمنطقة وحمل كثير منهم على الالتحاق بصفوف التنظيم الثوري السياسي والعسكري.
عملية سكامودي
جاءت على إثر كمين نصبه مصطفى لكحل نائب علي خوجة لقافلة عسكرية في 25 فيفري 1956م، صادف أن كان ضمنها سيارة مدنية لعائلة فرنسية، قُتل فيها عدد كبير من الجنود، ونتيجة لحدة المواجهة وكثافة النيران، تعرضت تلك العائلة المكونة من زوجين وطفلة صغيرة للموت. استغلت الصحافة الفرنسية ما حصل في هذه العملية التي قتلت فيها هذه العائلة بالخطأ، بعدما وجدت فيها فرصة للتشهير بجيش التحرير من خلال وصف العملية بالجريمة وتصوير عناصر جيش التحرير للرأي العام الدولي تصويرا “همجيا” و “إجراميا”، أين افتتحت الصفحات الأولى لجرائدها بصورة العائلة تتقدمها الطفلة الصغيرة، ولقد استمرت هذه الحملة الإعلامية مدة أسبوع، وانتشرت على نطاق رحيب بعدما تمّ توزيع صور تلك العملية على دور السينما بالجزائر وفرنسا وتعليقها على الحافلات والشاحنات التي تجوب المدن والشوارع حتى يراها الجميع.
لقد كانت هذه الحملة الإعلامية من أهم الأسباب التي جعلت قيادة الثورة في مؤتمر الصومام تعتب وتوجّه انتقادات للولاية الرابعة، بعدما اعتبر قادة الثورة بأن هذه العملية قد خلّفت آثارا سلبية على سمعة وصورة الثورة خارجيا، فضلا عن تزامنها مع طرح القضية الجزائرية للمناقشة في جلسة للبرلمان الفرنسي، الأمر الذي رأى فيه بعض هؤلاء القادة بأنه يدعم موقف غلاة المعمرين والمتشددين للاستعمار.
كمين الداموس
قامت به مجموعة من كومندو المنطقة الثالثة في 28 فيفري 1957م، تمكّن فيه عناصر هذه الوحدة من غنم عدد لا بأس به من قطع الأسلحة.
كمين بني خلفون
وقع هذا الكمين بتيارت (قادرية)، قام به كومندو علي خوجة بقيادة الرائد عز الدين، شارك فيه أكثر من 100 جندي. يذكر عنه عز الدين بأنه لم يستغرق سوى دقائق معدودة جدا، تمكنوا فيه من جمع رشاشين FM و26 قطعة سلاح بالإضافة إلى الذخيرة والألبسة.
كمين حمام ريغة
قامت به ثلاثة أفواج من الكومندو، الأول بقيادة سي الزوبير، والثاني بقيادة سي موسى قلواز، والثالث بقيادة أحمد خلاصي مساعد سي موسى ضد قافلة عسكرية مشكلة من 05 شاحنات GMC وسيارة Jeep وحوالي 120 جنديا، قتل فيه قائد القافلة وثلاثة ضباط.
كمين الواد الأكحل
بصور الغزلان، شارك فيه كومندو علي خوجة (140 جنديا) بقيادة الرائد عز الدين ونائبه سي عبد النور، بالإضافة إلى فصائل من جيش التحرير، تمكنوا فيه من إصابة دبابة ومصفحتين. هناك أيضا كمائن أخرى كثيرة قامت بها وحدات كومندو هذه الولاية، غير أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن كثيرا من هذه الكمائن قد تحوّلت إلى معارك كبيرة عندما كان يتعرض المجاهدين للوشاية، أو عندما تطول مدة الاشتباك بالشكل الذي يسمح لقوات الطيران بالتدخل، أين كان يتحوّل الكمين إلى حصار للمجاهدين يدوم في بعض الأحيان لأيام خاصة بعد جلب القوات الفرنسية مختلف التعزيزات العسكرية.
معركة لغمونة البحري
جرت في الناحية الثانية من المنطقة الرابعة بالقرب من تنس، في 12 نوفمبر 1956م، شارك فيها فوجان من الكومندو بقيادة سي محمد البيام، ومداح محمد المدعو سي صالح، كما شاركت فيها وحدات من جيش التحرير تحت قيادة أحمد التابلاطي.
معركة سيدي امحمد أقلوش
في 26 أفريل 1957م بشرشال، درات هذه المعركة بين قوات العدو وكومندو سي الزوبير الذي كان تحت إمرته 32 جنديا. ولقد حدثت هذه المعركة إثر رغبة المجاهدين في الانتقام من الأعمال البشعة التي قامت بها قوات المظليين ضد سكان هذا الدوار.
معركة بوزقزة
يذكر الرائد عز الدين بأن المجاهدين في هذه المعركة قد واجهوا قوات كبيرة من الجيش الفرنسي كان على رأسها 04 جنرالات هم ماسو، سيمون، آلار وديجوايو. وعلى الرغم من ذلك تمكّن المجاهدون من تحقيق نجاحات كبيرة، وهو ما اعترف به الجنرال ماسو للرائد عز الدين عند مقابلته له بعد إلقاء القبض عليه سنة 1958م.
معركة واد الآخرة أو أو قنوندة
وقعت في الناحية الثانية من المنطقة الأولى في 22 ماي 1957م، شاركت فيها وحدة كومندو علي خوجة إلى جانب جنود الكتيبة السليمانية وفصيلة سي بوعلام بلغ مجموعهم 350 جنديا ضد 700 جندي فرنسي مدعم بالدبابات ومدفعية الميدان والطيران.
كان سبب هذه المعركة هو قيام الجيش الفرنسي بحملات تمشيط لأعالي جبال البليدة بعد وصول الكولونيل بيجار معلومات عن وصول قادة لجنة التنسيق والتنفيذ إلى هذه المنطقة بعد فرارهم من العاصمة، ما أدى إلى اصطدامهم بجيش التحرير وحدوث عدة معارك وصلت إلى الأخضرية وتابلاط والزبربر، خاصة وأن الجنرال Huet كان يسعى للقضاء على كومندو علي خوجة، وأيضا Lebel قائد فرقة الصبايحية الذي كان يرغب في الأخذ بانتقام والده الذي وقع في كمين لأفراد كومندو علي خوجة في شهر أفريل الماضي، غير أن هذا الأخير لم ينجُ بدوره من كمين هذا الكومندو في دشرة الزرايعية بالواد المالح، أين تمّ فيه القضاء على فرقته التي لم ينج منها سوى 08 جنود، الأمر الذي جعل الجنرال سيمون يعلن في نفس اليوم عن عملية تمشيطية بالمنطقة ساعده فيها الكولونيل بيجار الذي كان مكلفا من الجنرال “سالان” بمهمة القضاء على كومندو علي خوجة بعدما بات يهدد الكيان الفرنسي بالمنطقة.
معركة سوفلات
شاركت فيها كتيبة كومندو علي خوجة رفقة ثلاثة كتائب أخرى (العثمانية، السليمانية، الرحمانية)، في 17 نوفمبر 1958م،.. قدرت قوات العدو بحوالي 15 ألف جندي تحت قيادة الجنرال ماسو والكولونيل ترانكي وغيرهما.
جاءت هذه المعركة ضمن العمليات الكبرى التي قام بها الجيش الفرنسي للقضاء على جيش التحرير بالمنطقة الأولى، وفي هذه المعركة أصيب الرائد عز الدين وألقي عليه القبض، وبحلول المساء تمكّنت 05 فصائل من وحدة الكومندو من الفرار والتسلل باتجاه بني خلفون (قادرية) التي مكثوا فيها 04 أيام، لتجري بعدها معركة ثانية بعد تفطن العدو لهم أي في 22 نوفمبر، ولما كان المكان غير ملائم للمعركة، اضطرت تلك الفصائل للانتقال من بني خلفون إلى جبل سيدي أحمد الساسي، أين تمكن أفرادها من تحقيق تفوق ميداني قبل انسحابهم الذي ساعدهم عليه تقلب الجو (الضباب). كانت هذه المعركة هي الأعنف بالمنطقة منذ اندلاع الثورة، قدر الفرنسيون حصيلتها بـ138 قتيل و25 أسيرا في صفوف المجاهدين، وحجز 86 قطعة سلاح، في حين ذكر تقرير الولاية الرابعة بأن جيش التحرير فقد 90 شهيدا.
معركة سيدي علي بوناب
نسبة لجبل سيدي علي بوناب الذي يقع في المنطقة الحدودية بين الولايتين الثالثة والرابعة، كانت هذه المعركة هي آخر معركة في 06 جانفي 1959م، شارك فيها الرائد عز الدين على رأس كومندو علي خوجة قبل أن يلتحق بتونس، أين يذكر بأن جنوده تمكنوا من تصفية الرائد غرادزياني الذي اعتقل المجاهدة جميلة بوحيرد، كما سقط في هذه المعركة العقيد “غراسيا” بعد اشتباك جسدي مع ملازم من جيش التحرير.
نشاط الكومندو خارج الولاية الرّابعة
لم يتوقّف النشاط العسكري لوحدات كومندو الولاية الرابعة عند حدود هذه الولاية، وإنّما كان من حين لآخر يتم انتدابه للقيام بعمليات عسكرية خارجها. ولعل أوّل مرّة خرج فيها هذا الكومندو خارج الولاية الرابعة كان في سبتمبر 1956م على إثر اجتماع قيادة الولاية، التي قرّرت تقسيم وحدة الكومندو التي كان على رأسها مصطفى خوجة إلى قسمين، احتفظ خوجة بقسم، والآخر عيـّن على رأسه علي ملاح، الذي أمر بالتوجه إلى الولاية السادسة لتدعيم الثورة والثوار بها، فقصدوا بوسعادة وغرداية من أجل نشر وتوطيد النظام الثوري بهما تطبيقا لقرارات مؤتمر الصومام. وبعد ظهور حركة الشريف بن سعيدي في نفس الولاية، اجتمع سي لخضر وامحمد بوقرة والرائد عز الدين، وقرّروا تقديم المساعدة لهذه الولاية، ودعمها عسكريا بكومندو علي خوجة.
وبسبب الاضطرابات التي كانت تعرفها الولاية الأولى على إثر ظهور مجموعات المشوّشين، قامت قيادة الولاية الرابعة مطلع 1959م بإرسال وحدتي كومندو نحو هذه الولاية، واحدة من كومندو علي خوجة، والثانية من كومندو سي امحمد، وهو ما أكّده قائد الولاية الأولى الحاج لخضر عبيدي أثناء اجتماع العقداء العشرة أواخر 1959م بتونس.
وفي نفس السنة، أرسل بوقرة مجموعة من كومندو سي جمال بقيادة سي العربي الذي تمكّن من مواجهة بقايا قوات بلونيس التي كان يقودها خليفة مفتاح، فضلا عن مواجهة القوات الفرنسية، أين خاض هذا الكومندو اشتباكات ضارية تمكّن في إحداها من إسقاط طائرة نفاثة، كما ألحق خسائر كبيرة في صفوف خليفة مفتاح في المنطقتين الثانية والثالثة بالولاية السادسة. وبعد استشهاد سي الحواس، حاولت الولاية الرابعة سد ذلك الفراغ وقامت بتعيين سي الطيب الجغلالي خلفا للحواس، الأمر الذي لم يرق لبعض قادة المناطق في هذه الولاية مثل بن مسعود، محمد شعباني، بلقاضي، ما جعل عناصر الكومندو تعود إلى تراب الولاية الرابعة.
لقد انجرّ عن هذه السّياسة التي انتهجتها الولاية الرابعة إزاء بقية الولايات التي كانت تعاني من مشاكل داخلية ومعضلات عسكرية من خلال إرسال الدّعم لها، أن فقدت العديد من جنودها وإطاراتها، خاصة وأنهم كانوا في بعض الأحيان يبقون لفترات طويلة في هذه الولايات، مثل الكومندو الذي أرسل إلى الولاية الأولى، ومكث فيها مدّة سنة كاملة قام خلالها بالعديد من العمليات.
خاتمة
يحفل تاريخ الثّورة الجزائرية بالشّواهد التي تكشف عن البطولات والانجازات العسكرية الكبيرة لجنود جيش التحرير في مختلف الولايات الثورية، ولعلّ من غير المبالغة في القول بأن جنود الولاية الرابعة ولاسيما وحدات الكومندو التي اشتهرت بها هذه الولاية قد كان لها نصيب وافر من هذه البطولات والإنجازات، باعتبار أنّ هذه الوحدات كانت تمثّل بحق “نخبة” جيش التحرير في هذه الولاية، لأنّها تشكّلت من أحسن العناصر التي كانت موجودة في صفوف جيش هذه الولاية، وقامت بأكثر العمليات العسكرية خطورة. وما زاد من قيمة هذه التجربة التاريخية التي قامت بها هذه الولاية بعد إقدامها على استحداث هذه الوحدة، هي أنّ تشكيل وحدة الكومندو لم يطرح أي مشاكل تنظيمية أثّرت سلبا أو أحدثت اختلالا في البناء الهيكلي لجيش التحرير بهذه الولاية بالشكل الذي أعاق نشاطها العسكري أو خلق له صعوبات، ولعل ما يمكن أن يثبت صحة هذه الفكرة هو عدم اعتراض قادة الثورة في مؤتمر الصومام على تشكيل هذه الوحدة، واستمرارها في العمل على الرغم من أن قرارات هذا المؤتمر لم تشر إليها، والأهم من هذا حالة، الانسجام الكبير الذي كان يسود بين جميع وحدات هذه الولاية، وتعاونها في كثير من الأحيان من خلال قيام الكومندو بعمليات عسكرية مشتركة معها، ومدها يد العون لبقية الوحدات من خلال مساعدتها في تجاوز بعض المعضلات العسكرية واللوجستيكية التي كانت تعترضها كالتدخل لفك الحصار، التزويد بالأسلحة، ومن جهة أخرى لم يسجّل ظهور أي مشاكل أو خلافات أو حتى حساسيات في صفوف جيش هذه الولاية ناجمة عن تشكيل هذه الوحدة بين جنودها ومجاهدي بقية الوحدات الأخرى، بل على العكس، كانت عاملا مساعدا لبقية الوحدات في عملها، بحيث ساهمت في رفع نسق ووتيرة مجهودها العسكري الذي زادت فعاليته بعدما حفّزت بإنجازاتها المبهرة تلك الوحدات على محاولة مجاراتها ومنافستها منافسة شريفة في هذا المجال.
لم يكن تشكيل وحدة الكومندو بالولاية الرابعة يمثل مجرد عمل قام به قادتها من أجل التميز عن باقي الولايات الثورية الأخرى، أو التباهي به أمامها إطلاقا، كما لم يكن عملا عفويا، وإنما كان يمثل عملا إجرائيا أو استجابة عملية نابعة من معرفة وإدراك هؤلاء القادة بالحاجة الملحة التي فرضتها ظروف ومتطلبات العمل الثوري والتحديات الكبيرة لاسيما العسكرية منها التي كانت تواجهها هذه الولاية، بعدما توسّموا في هذه الوحدة العسكرية قدرتها على تقديم الإضافة للعمل الثوري بها، وتغطية النقص أو العجز الذي كان يشكوه قبلها، وهو الأمر الذي تحقق بعد إنشاء هذه الوحدة بفضل أعمالها التي ساعدت بشكل كبير في تجاوز هذه الولاية للكثير من المشاكل والصّعوبات التي كانت تعترضها من قبل في مواجهاتها لقوات العدو.
ولعل من الشّهداء الأبطال الذين نقشوا أسماءهم بأحرف من ذهب في تاريخ هذه الوحدات خلال الثورة، يبقى من دون أي شك البطل مصطفى خوجة الذي أظهر شجاعة وحنكة وجرأة كبيرة في العمليات التي واجه فيها قوات العدو التي أرهقها بصولاته وجولاته بالمنطقة الأولى وبضواحي العاصمة، الأمر الذي جعله يعد من أخطر أعداء فرنسا بعدما قهر قواتها في العديد من المناسبات، والملفت للنظر في تلك العمليات التي قادها هذا البطل هو قيامه في بعض الأحيان بتحدي هذه القوات بشكل استعراضي يكاد يكون أسطوريا.
انتهى – للدّراسة مراجع