أعطت الجزائر فرصة ثمينة لمجلس الأمن الدولي ليستدرك أخطاءه، ويتحمّل مسؤوليته في حماية الأمن والسلام الدوليين، وطرحت للتصويت أمام أعضائها 15، مشروع قرار يمدّ الفلسطينيين بحبل النجاة وينقدهم من حرب الإبادة الصهيونية التي حصدت أرواح 30 ألف منهم أغلبهم من النساء والأطفال. لكن للأسف الشّديد كان “الفيتو” الأمريكي بالمرصاد مرّة أخرى، حيث أجهز على الأمل الوحيد لوقف المذبحة، وكشف بأنّ الخذلان وزيف وازدواجية المعايير التي يتعامل بها الغرب وعلى رأسه أمريكا مع القضية الفلسطينية، هو ما يطلق أيدي الجيش الصهيوني لسفك دماء الأبرياء، وتدمير بيوتهم وتحويل حياتهم إلى جحيم قبل إرغامهم على الرّحيل.
للمرّة الثالثة، أخفق مجلس الأمن الدولي في تمرير مشروع قرار لوقف القتال في غزة، وقد أكّد هذا الإخفاق ما بات يتردّد علنا من أنّ هذا المجلس فقد سلطته ومصداقيته أمام الانحياز غير المبرّر للكيان الصهيوني حتى وهو يرتكب أبشع الجرائم، فبدل أن يتّخذ موقفا إنسانيا يسجّله التاريخ، ها هو يمنح الصّهاينة صك القتل بالموافقة على تمديد الإبادة، وإزهاق أرواح مزيد من الأبرياء.
مشروع القرار الذي قدّمته الجزائر مساء 29 جانفي الماضي مباشرة بعد اعتماد محكمة العدل الدولية الإجراءات الاحترازية حول الوضع في غزة، وحظي بتأييد 13 دولة وامتناع المملكة المتحدة عن التصويت، تضمن خمس نقاط أساسية هي: الوقف الفوري والشامل لإطلاق النار الإنساني، الامتثال للتدابير المؤقّتة التي طالبت بها محكمة العدل الدولية يوم 26 جانفي 2024، رفض التهجير القسري للسكان المدنيين الفلسطينيين، إيصال المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن، ودون عوائق إلى كافة أنحاء قطاع غزة، وتوفير الإمدادات العاجلة والمستمرّة والكافية.
فشل للمرّة الثالثة
سعت الجزائر من خلال سفيرها، عمار بن جامع، إلى إعطاء فرصة لمجلس الأمن ليراجع مواقفه، ويلتزم بولايته الأساسية في حفظ الأمن والسلم الدوليين، وشدّدت على حتمية تزكية مشروع القرار لأنّ ذلك يعني التصويت مع حق الفلسطينيّين في الحياة، ومع منح مئات الآلاف من أطفالهم فسحة أمل للعودة إلى المدارس، وللحصول على الطّعام والعلاج والمسكن والأمان، في حين أنّ التصويت ضدّه، وهو ما فعلته الولايات المتحدة، يعني الموافقة على العنف الشامل والعقوبات الجماعية التي يتعرّضون لها، ويترجم تدمير أحلامهم في حياة أفضل بل وفي البقاء على قيد الحياة.
وتساءل بن جامع “كم يجب أن يقتل من الناس في قطاع غزة حتى يتم وقف القتال؟”، وأوضح قائلا: “لقد كان مشروع القرار هذا يحمل رسالة قويّة إلى الفلسطينيين، مفادها أنّ العالم لا يقف صامتا أمام محنتهم، لكن مع الأسف، فشل المجلس الدولي مرة أخرى في أن يرتقي إلى مستوى نداءات الشعوب وتطلّعاتها ليضع نهاية للظلم التاريخي الذي يقع على الفلسطينيين”.
لكن رغم هذا الإخفاق، فالجزائر، كما أكّد مندوبها “لن تتوقّف حتى يتم إعلاء مبادئ ومقاصد الأمم المتحدة، ويتحمّل هذا المجلس كامل مسؤولياته ويدعو لوقف إطلاق النار، ويلتزم هو والمجموعة الدولية وسلطات الاحتلال بواجب تنفيذ التدابير التحفظية لمحكمة العدل الدولية التي تنشد وقف العدوان، وتسهيل وصول المساعدات إلى كافة أنحاء غزة”.
” فيتو” أمريكا ينسـف الإجماع الدّولي
لكن للأسف الشديد، كلمة المندوب الجزائري التي ركّزت على الأزمة الإنسانية الرهيبة التي يعيشها الفلسطينيون، ونقلت صور المذبحة المريعة التي تطال آلاف الأبرياء المحاصرين في جيب رفح الصغير، بين مخالب التشرد والجوع والأمراض والتهديد بالتهجير القسري، لم تؤثّر على موقف الولايات المتحدة الأمريكية التي أكّدت مرّة أخرى بأنّها لا تستطيع التخلّص من انحيازها للكيان الصهيوني، وبأنّها – كما قال السفير الفلسطيني في الأمم المتحدة رياض منصور – توجّه رسالة واضحة للاحتلال بـ “الاستمرار في الإفلات من العقاب”.
وقد حاولت المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن تقديم مبرّرات واهية لموقفها الصادم، فتحدّثت تارة على أنّ مشروع الجزائر يؤثّر سلبا على جهود الوساطة الجارية لإطلاق سراح الأسرى الصهاينة في غزة، وقالت “الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار بدون إطلاق سراح الأسرى لن يوصل إلى سلام مستدام بل قد يطيل أمد الصراع”، وأردفت تارة، بأنّ “أي قرار يجب أن يضم سلامة الفلسطينيين والصهاينة ليعيشوا معا في أمن وسلام في دولتين ديمقراطيتين تتمتّعان بنفس الحق في الأمن والسّلام والكرامة”.
ولم تكتف الولايات المتحدة بالعزف خارج السّرب، وبنسف الإجماع الدولي على إجماع المجموعة الدولية على وقف المذبحة التي تجري وقائعها أمام أنظار العالم، بل أصرّت على أن تذكّر الجميع بأنّها الوحيدة التي تحتكر حق صياغة القرارات الأممية عندما يتعلّق الأمر بالكيان الصّهيوني، وكشفت عن عزمها تقديم مشروع قرار حول قطاع غزة، تفصّله طبعا على مقاس هذا الكيان الذي يتجلّى واضحا بأنّه يستمد قوّته وغطرسته من الحماية التي يتلقاها من أعظم دولة في المعمورة ومن الدول التي تسبح في فلكها.
قرار بديل مفصّل على مقاس الصّهاينة
مشروع القرار الأمريكي الذي بدأ الترويج له على أنه “يتضمن تفاصيل كثيرة وواقعية حول الخروج من الأزمة الحالية”، يظهر بشكل واضح من خلال مسودته بأنّه منحاز للرواية الصهيونية، ويركّز على إدانة حركة حماس في عدة فقرات، كما أنّه لا ينص على وقف نهائي للقتال بل إلى وقف مؤقت، طبعا من أجل الافراج عن الأسرى الصهاينة لدى المقاومة الفلسطينية، وهذا هو الأمر المهم بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، أي إنقاذ حياة أسرى الاحتلال، أما وقف قتل آلاف الأبرياء الفلسطينيين فهو غير مستعجل، ووقته لم يحن بعد.
ويركّز المشروع الأمريكي على إدانة حركة حماس في أكثر من موقع، ويتّهمها بالإرهاب ولا يترك تهمة إلاّ ويكيلها لها بما فيها العنف الجنسي والاغتصاب اللّذان نفت التحقيقات الصهيونية نفسها وقوعهما، كما يحث الدول الأعضاء على تكثيف جهودها لقمع تمويل هذه الحركة.
كما تتطرّق المسودة الأمريكية للهجوم الصهيوني المحتمل على رفح، قائلة بأن هذا الهجوم البري الكبير لا ينبغي أن يحدث في ظل الظروف الحالية. وفي فقرة ثانية حول نفس الموضوع، تشير المسودة إلى الحاجة الملحّة إلى خطة قابلة للتطبيق لضمان حماية ومنع تهجير المدنيّين في حالة وقوع هجوم عسكري بري كبير على رفح، ما يفهم منه، أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لا تعارض من حيث المبدأ الهجوم على آخر جيب يحتمي به مليون ونصف مليون فلسطيني، وإنما تضع شروطا لذلك.
صدمة واستياء
صدمة كبيرة أثارها استخدام الولايات المتحدة حق “الفيتو” لإعاقة صدو قرار بوقف إطلاق نار فوري في قطاع غزة، وتنديد كبير أبدته المجموعة الدولية بسبب إخفاقات المنتظم الأممي في حماية الفلسطينيين ووضع حدّ للإجرام الصهيوني.
فمن الجانب الفلسطيني، وصف مندوب فلسطين الدائم لدى الأمم المتحدة، رياض منصور، استخدام واشنطن لحق النقض بأنه “غير مسؤول”، وأكّد “أنّ الرسالة الموجّهة اليوم من واشنطن إلى الاحتلال الصهيوني باستخدام حق النقض، هي أنه يستطيع الاستمرار في الإفلات من العقاب”.
بدورها، حمّلت الرّئاسة الفلسطينية، الولايات المتحدة، مسؤولية استمرار العدوان الصهيوني على الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين في قطاع غزة نتيجة سياستها المساندة للاحتلال، وأكّدت أنّ “هذه السياسة تجعل من الولايات المتحدة شريكا في جريمة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وجرائم الحرب التي ترتكبها قوات الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، محذّرة من أنّ “هذه السياسة أصبحت تشكّل خطرا على العالم وتهديدا للأمن والسلم الدوليين”.
وندّدت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من جهتها بـ “الفيتو” الأمريكي، لافتة إلى أنّه يمثّل تعطيلا للإرادة الدولية وخدمة لأجندة الاحتلال الصهيوني، وحمّلت الولايات المتحدة المسؤولية عن عرقلة مشروع القرار.
سابقة مشينة
في الأثناء، أعربت مصر عن أسفها البالغ ورفضها لتكرار عجز مجلس الأمن عن إصدار قرار بوقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وقالت في بيان لخارجيتها، إنّ “إعاقة صدور قرار يطالب بوقف إطلاق النار في غزة سابقة مشينة في تاريخ تعامل مجلس الأمن مع النزاعات والحروب”.
وأشار البيان إلى أنّ “ما يمثّله المشهد الدولي من انتقائية وازدواجية بات يشكك في مصداقية قواعد وآليات عمل المنظومة الدولية الراهنة، لاسيما مجلس الأمن”.
من جهته، قال السّفير الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا إنّ “الولايات المتحدة تسعى إلى التستر على أقرب حليف لها في الشرق الأوسط وكسب الوقت حتى يتمكّن من استكمال خططه غير الإنسانية في غزة لإخراج الفلسطينيين من القطاع وتطهيره بشكل كامل”.
وأضاف أنّ المسؤولية الكاملة عن العواقب تقع على عاتق واشنطن، مهما حاولت الولايات المتحدة التهرب منها من خلال الحديث عن “جهود الوساطة المهمة” التي تقوم بها.
وقال نيبنزيا إنه بغض النظر عن مدى مرارة “الطعم” الذي سيخلفه تصويت اليوم، “فنحن لسنا في وضع يسمح لنا بالاستسلام”، مضيفا أن مطالبة المجلس للأطراف بوقف فوري لإطلاق النار تظل ضرورة حتمية.
التّرخيص باستمرار الإبادة
السّفير الصيني جانغ جون، أعرب بدوره عن خيبة أمل بلاده وعدم رضاها بشأن نتيجة التصويت. وقال إنّ “ما دعا إليه مشروع القرار المقدم من الجزائر نيابة عن مجموعة الدول العربية، قائم على أدنى متطلبات الإنسانية وكان يستحق دعم جميع أعضاء المجلس”. وذكر أن نتيجة التصويت تظهر بشكل جلي أنّ المشكلة تتمثل في استخدام الولايات المتحدة للفيتو الذي يحول دون تحقيق إجماع في المجلس. وأضاف أن الفيتو الأمريكي يوجّه رسالة خاطئة تدفع الوضع في غزة ليصبح أكثر خطورة، وقال “بالنظر إلى الوضع على الأرض فإنّ استمرار التجنب السلبي للوقف الفوري لإطلاق النار لا يختلف عن منح الضوء الأخضر لاستمرار القتل”.
من جانبها، عبّرت باريس عن أسفها لفشل مجلس الأمن في تمرير مشروع القرار، حيث قال مندوب فرنسا، نيكولاس دي ريفيير، أنّ بلاده تأسف لعدم اعتماد مشروع قرار الجزائر، لافتا إلى “الحاجة الملحة للغاية للتوصل، دون مزيد من التأخير، إلى اتفاق بشأن وقف إطلاق النار يضمن في النهاية حماية جميع المدنيين، ودخول المساعدات الطارئة بكميات كبيرة”.
وفي ذات السياق، أعربت مندوبة سويسرا لدى الأمم المتحدة، باسكال كريستين بيريسويل، عن أسفها لعدم اعتماد مشروع القرار، مشدّدة على “مسؤولية مجلس الأمن في حماية مبادئ القانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين”، مشيرة في السياق إلى ضرورة حماية المدنيين في غزة، وإيصال المساعدات بشكل عاجل دون عوائق للمدنيين حسب اتفاقية جنيف الرابعة.
يشار إلى أنّها المرة الثالثة التي تستعمل فيها واشنطن حق “الفيتو” منذ بدء عدوان الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة، في 7 أكتوبر الماضي، حيث سبق لها أن استعملت حق النقض مرتين قبل الآن في أكتوبر وديسمبر الماضيين.
ما العمل؟
الإصرار الأمريكي على عرقلة وقف حرب الإبادة الصهيونية في قطاع غزة، ومخالفة الاجماع العالمي الذي تجلّى واضحا من خلال حجم التأييد لمشروع القرار الجزائري (13 عضوا)، يضعنا أمام مجموعة من الأسئلة، يرتبط بعضها بموقف الولايات المتحدة الأمريكية التي تتعرّض لحملة انتقادات غير مسبوقة ستؤدّي إلى عزلتها دوليا، والبعض الآخر بجدوى مجلس الأمن الدولي، والذي بات على هيئته الحالية، يشكّل عبئا على المجموعة الدولية، إذ يعمّق الأزمات بدل أن يحلّها، ويكيل القضايا بمكاييل مختلفة ويعتمد ازدواجية المعايير مستعينا بحقّ الفيتو، الذي تحوّل إلى جدار منيع يسدّ منافذ الشرعية الدولية أمام حقوق الشعوب المغلوبة على أمرها.
ويعتبر كثير من المراقبين، أنّ حرب غزّة مثلت اختبارا لمجلس الأمن، وأظهرت عجزه عن الاضطلاع بمسؤولياتها الدولية، حتى أنّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد اعترف شخصيا “بأنّ سلطة ومصداقية مجلس الأمن الدولي تقوّضتا بعد عجزه عن وقف إطلاق النار في غزة”. ويشدّد بعضهم على ضرورة إصلاح آليات اتخاذ القرارات في هذا المجلس حتى لا تبقى إرادة العشرات من الدول رهينة بإرادة دولة واحدة.