تشكل الطاقة في عالم اليوم عاملا محددا في العلاقات الدولية، فهي تمكن الدول المالكة، مبدئيا، من ضمان أمنها الطاقوي في سوق عالمية يغلب عليها التذبذب وعدم انتظام الإمدادات بسبب التقلبات السياسية والأمنية في عديد مناطق العالم، على عكس الدول المستهلكة التي يرتهن مصير اقتصادها والتنمية فيها بالظروف الخارجية. كما أن تأثير الطاقة في العلاقات الدولية جعلت بعض الدول التي كانت تتقاسم العداء تختار تجاوز خلافاتها أو تقليل حدتها، وأصبح خصوم الأمس أصدقاء فعليين أو محتملين. هذا على الصعيد الجيوسياسي، أما على الصعيد السياسي والاقتصادي، فقد برزت محاولات لاستبدال الطاقات التقليدية بأخرى متجدّدة، لكنها لم ترق لتنافس الأولى لأسباب تكنولوجية.
تكتسي مصادر الطاقة أهمية بالغة في تشكيل ملامح المشهد الجيوسياسي العالمي، حيث تتنافس الدول لضمان ممرات العبور إلى مصادر الطاقة المختلفة، ومن هنا أصبحت الطاقة ومصادرها عاملا محددا في العلاقات الدولية والأمن القومي والدولي على حدّ سواء.
مفهوم الأمن الطاقوي
يشير الأمن الطاقوي، باعتباره أحد أعمدة الأمن القومي إلى توافر مصادر الطاقة دون انقطاع وبأسعار يمكن تحملها. ولا يتحقق الأمن الطاقوي لأية دولة الا بوجود مصدر دائم ومستقر للطاقة، وبأسعار مناسبة لها باعتبارها مستهلكا، إلى جانب العمل على خفض الطلب للإبقاء على المعروض أكثر من المطلوب وكذا تنويع مصادر الطاقة من خلال الاعتماد على الطاقات البديلة. هذا بالنسبة للدول المستهلكة.
وبالنسبة للدول المنتجة، يتعلق مفهوم الأمن الطاقوي بالإبقاء على المعروض منه في حدود أقل من الطلب من جهة لضمان سعر يوفر لها مداخيل مالية مناسبة، ومن جهة أخرى لزيادة العمر الافتراضي أو الواقعي لذلك المصدر سواء كان نفطا أو غازا.
ويضمن امتلاك دولة ما مواردها الطاقوية بشكل مستدام سيادتها على قرارها السياسي فهي لن تكون خاضعة لابتزاز الغير، أو الضغط عليها لاتخاذ موقف يغاير إرادتها السياسية، خاصة إذا كانت الدولة قوية وتملك قرارها السيادي. ويمكنها أيضا من لعب أدوار على الساحة الدولية، وحماية عجلة اقتصادها وزيادة قوتها العسكرية، حيث تتكامل القوة الاقتصادية والعسكرية، إذ توفر الأولى التمويل وتضمن الثانية الحماية لها. لكن بالمقابل وفي حال كانت الدولة ضعيفة وتملك مورد الطاقة أيا كان، سواء للنفط أو الغاز أو اليورانيوم، فإنه سيعود عليها بالعكس، مادامت لا تستطيع التصرّف فيه وحماية ثروتها، حيث تتدخل القوى الكبرى في شؤونها الداخلية واستغلال ثرواتها بما لا ينفع الدولة المالكة، وفي ذلك أمثلة كثير لدول من مختلف القارات.
الطاقات البديلة
ظهر الحديث عن الطاقات المتجدّدة كبديل عن الطاقة الأحفورية، بمبرر حماية البيئة، وتعرف الأمم المتحدة الطاقة البديلة أو المتجددة على أنها “طاقة ناتجة عن مصادر طبيعية تتجدّد بمعدل يفوق ما يتمّ استهلاكه. أشعة الشمس والرياح، على سبيل المثال، من المصادر التي تتجدّد باستمرار. وإن مصادر الطاقة المتجددة وفيرة وموجودة في كل مكان حولنا”.
وهناك محاولات كثيرة لاستبدال الطاقات الأحفورية من غاز ونفظ وكذا الغاز والنفط الصخريين، بطاقات متجدّدة لأهداف تتعلق بالبيئة حسب الداعين والمروجين لها، لذلك تسعى الأمم المتحدة للتسريع من وتيرة الانتقال إلى استخدامها، وحدّدت لذلك خمسة أهداف هي جعل تكنولوجيا الطاقة المتجددة منفعة عامة عالمية، تحسين الوصول إلى المكونات والمواد الخام عبر العالم، تحقيق تكافؤ الفرص فيما يتعلق بمصادر الطاقة المتجددة، تحويل الدعم من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجدد، زيادة الاستثمارات في الطاقة المتجددة بثلاثة أضعاف.
لكن المحاولات المستمرة لإيجاد طاقة بديلة عن النفط والغاز، باءت بالفشل في مواجهة النفط والغاز وحتى الفحم الحجري (الذي عادت دول أوروبية لاستخدامه في بداية الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة أو الطاقة النووية، التي كان من المقرر التخلص منها بحلول العام 2025، في ألمانيا، وحدّدت دول أخرى 2030 موعدا للاستغناء عنها نهائيا)، رغم أنها متجددة ولا تنضب عكس الطاقات التقليدية، إذ تواجه مصادر الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح تحديات تكلفة البنية التحتية المرتفعة، وتطوير تقنيات فعالة لتخزين الطاقة، والطبيعة المتقطعة للإنتاج الذي لا يتوافر دائمًا عند الحاجة.
وفي هذا السياق، يقول خبراء دوليون إن الغاز يؤدي دورًا حيويًا في مساعي التصدي لتغير المناخ، نظرًا لكونه أقل مصادر الوقود الأحفوري تأثيرًا على البيئة، حيث تحتوي الانبعاثات الضارة الناجمة عن احتراقه على كميات أقل من غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي يعتبر أحد المسببات الرئيسية للاحترار العالمي، ما يسهم في مواجهة التحديات البيئية ودعم جهود مكافحة التغير المناخي، كما تفتح تقنيات مثل احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، آفاقًا للاستخدامات المستدامة للغاز الطبيعي في مجالات توليد الطاقة والصناعات الرئيسية التي تتسمّ بكثافة الانبعاثات، مثل صناعة الصلب والإسمنت والمواد الكيميائية.
دوافع سياسية
إضافة إلى كونها طاقات صديقة للبيئة، فإن خلف الترويج لها دوافع سياسية واقتصادية للدول المستهلكة التي تسعى إلى التخلص من تبعيتها للدول المنتحة، وضمان استقلالها وأمنها الطاقوي. سيما وأنها صارت تستخدم كسلاح حرب ضد الخصوم، وقد استعمل النفط بصفته سلاح حرب، في الحرب العربية الصهيونية العام 1973، أو ما يعرف بصدمة النفط الأولى، التي بدأت في 15 أكتوبر 1973، عندما قام أعضاء منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (تتألف من الدول العربية أعضاء أوبك بالإضافة إلى مصر وسوريا) بإعلان حظر نفطي لدفع الدول الغربية لإجبار الكيان الصهيوني على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في حرب 1967، وأعلنت الدول المصدرة للنفط “أوبك” أنها ستوقف إمدادات النفط إلى الولايات المتحدة والبلدان الأخرى التي تؤيد الاحتلال الصهيوني في صراعه مع سوريا ومصر والعراق.
وفي واقعة أخرى، هدّد استعمال الغاز في الحرب الروسية الأوكرانية الأمن الطاقوي لأوروبا والدول الغربية عموما.
وقد كان استعمال هذا المصدر الطاقوي سلاحا مزدوجا، ففي حين أرادت الدول الغربية فرض عقوبات من خلال تقليل استيراد النفط الروسى بمعدلات كبيرة لمعاقبة روسيا ودفعها للانسحاب من أوكرانيا، ووقف عمليتها العسكرية ورفع التكلفة الاقتصادية عليها لأن وقف استيراد نفطها سيؤدى إلى تراجع مواردها المالية وهو ما يؤثر سلبا على اقتصادها وعلى مواطنيها، ما يدفع إلى تأجيج الرأي العام الداخلي وتذمره من تبعات الحرب وبالتالي يتألب ضد حكومة بلاده. استعملته روسيا لشلّ اقتصادات تلك الدول، خاصة وأنها تعتبر المستهلك الأول للغاز الروسي ألمانيا على وجه التحديد، وذلك من خلال فرض دفع مستحقات الغاز بالعملة الروسية بديلا عن الدولار.
كذلك أنهت الجزائر تصدير الغاز عن طريق الأنبوب المار من المغرب إلى إسبانيا بسبب الممارسات العدائية لنظام المخزن ضدها، ما جعل المغرب يدخل في أزمة غاز، خاصة وأنه يأخذ إيراداته من مرور أنبوب الغاز الجزائري إلى إسبانيا على شكل غاز طبيعي يقدر بنحو 600 مليون متر مكعب في السنة يوجه من أجل إنتاج الكهرباء من محطتين لتوليد الطاقة، في حين يبلغ الاستهلاك المحلي 750 مليون متر مكعب في السنة، ما يعني أن المغرب يعتمد بشكل شبه كلي على الغاز الجزائري.
تأثير النزاعات على أسعار النفط
هذا وتتأثر أسعار النفط بشكل حاد بأية اضطرابات أمنية أو سياسية في الدول المنتجة أو في ممرات العبور والمضايق، وفي هذا السياق تسببت الضربات الأمريكية البريطانية على اليمن في الأيام الأخيرة في ارتفاع أسعار النفط بنسبة تراوحت بين 1 و3 في المائة، كما شهد الأسبوع الأول من العدوان على غزة ارتفاعا لسعر برميل النفط بأربعة دولارات حيث بلغ 87 دولارا للبرميل.
ويستمر ارتفاع سعر برميل النفط بسبب مخاوف اضطرابات الشحن بسبب التوتر في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، رغم توقعات الوكالة الدولية للطاقة بأن نمو الطلب العالمي على النفط الخام يتباطأ، كما قلصت الوكالة توقعاتها بالنسبة لنمو الطلب خلال العام 2024. وكان من المفترض أن تضغط هذه التوقعات على أسعار النفط للتراجع، لكن المخاوف المرتبطة بالتوترات العسكرية الإقليمية، المذكورة أعلاه، طغت على تداعيات إعلان وكالة الطاقة الدولية.
ولذلك تسعى الدول التي لا تملك مواردها الطاقوية كما أشرنا أعلاه، إلى إيجاد طاقات بديلة، وهي طاقات ذات تكلفة عالية وربحية قليلة، بسبب قصور التكنولوجيا في الوقت الراهن عن توفير أطر التخزين.
استقرار سوق الغاز
عكس سوق النفط التي تعتبر مستقرة نظرا لوجود تكتل يمثل الدول المصدرة له ممثلة في “أوبك” و«أوبك+”، فإن سوق الغاز مازالت غير مستقرة، وعليه تسعى الدول المصدرة للغاز إلى استحداث منظمة على غرار “أوبك”، من أجل ضمان التنسيق بين الدول الأعضاء في السياسات البترولية وتقرير ما يحقق ويحفظ مصالحها الفردية والمجتمعية.
وكذا إيجاد السبل والوسائل التي تضمن استقرار الأسعار في أسواق البترول العالمية.
وفي إطار تلك المساعي أسست الدول المصدرة للغاز رسميًا منتدى الدول المصدرة للغاز في عام 2001، يهدف إلى بناء آلية لحوار هادف بين منتجي الغاز ومستهلكيه من أجل تحسين استقرار وأمن العرض والطلب في أسواق الغاز العالمية.
وتنعكس رؤية المنتدى في 4 أهداف استراتيجية هي، أولا توسيع دور الغاز الطبيعي في التنمية المستدامة، ثانيا تعزيز القيمة العادلة للغاز الطبيعي، ثالثا تطوير التقنيات الحديثة في صناعة الغاز وتعزيز المكانة الدولية لمنتدى الدول المصدرة للغاز بصفته منصة عالمية للحوار في شؤون الطاقة.
وأخيرا احترام مصالح الدول المنتجة ومراعاة إمداد الدول المستهلكة وضمان عائد منصف للمستثمرين في مجال البترول.
وبرزت الحاجة إلى أهمية تعزيز وتطوير قنوات فعّالة للحوار بين منتجي الغاز ومستهلكيه، من خلال منظمات ومنتديات الطاقة الدولية والإقليمية، لضمان الاستقرار والتقليل من التقلبات غير المرغوب فيها في أسواق الغاز.
ضمان إمدادات الطاقة.. من العداوة إلى الصداقة
تحتل الطاقة مكاناً محورياً في صميم عملية التنمية، إذ تتيح إمكانية القيام بالاستثمارات وإطلاق الابتكارات والصناعات الجديدة التي تُعد محركات لخلق الوظائف والنمو الشامل للجميع والرخاء المشترك لاقتصادات بأكملها.
وفي هذا الإطار، قال تقرير للبنك الدولي في وقت سابق، إن جائحة كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية تسببتا في تقلبات حادة في أسعار الطاقة فاقمت النقص في إمدادات الطاقة والمخاوف المتعلقة بأمنها، وتسببت في مزيد من التعثر لوتيرة التقدم المحرز نحو تحقيق هدف حصول الجميع، وبتكلفة ميسورة، على إمدادات الطاقة الحديثة المنتظمة والمستدامة بحلول عام 2030.
وفي محاولة لتخفيف آثار ارتفاع أسعار الطاقة، لجأت الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة الأمريكية إلى مغازلة إيران، التي بقيت ملاذا محتملا لإنقاذ اقتصادات تلك الدول، والتخفيف من تبعيتها للغاز الروسي، إلى حين ايجاد بدائل، وسرت أخبار عن سعي أمريكا والدول الأوروبية لمواجهة هذه التحديات عبر الانفتاح على الخصوم، من خلال إحياء مفاوضات الملف النووي مع إيران ومحاولة إيجاد سبل التسوية بما يخدم مصالح الطرفين.
في الختام يمكن القول، إن الطاقة التقليدية سواء كانت غازا أو نفطا تمثل مصدر قوة وسيادة للدولة المالكة، حيث سمحت لها بتجاوز الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي سببتها أزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وما كان لهما من تبعات استمرت إلى هذا اليوم، إضافة إلى التوترات الجديدة في الشرق الأوسط،، كما أنه ورغم محاولات إيجاد طاقات بديلة ونظيفة، مازال هذان الموردان أهم مصادر الطاقة، نظرا لتكلفتهما البسيطة وسهولة النقل والتخزين.