مع التحديات السكنية التي تواجهها الجزائر، يأتي برنامج “سكنات عدل 3” كمبادرة رئاسية لتوفير السكن الملائم للمواطنين، ويهدف هذا البرنامج إلى تسهيل امتلاك الوحدات السكنية من خلال نظام البيع بالإيجار، ممّا يعد فرصة ذهبية للطبقة المتوسطة وذوي الدخل المحدود.
ملف: زهراء بن دحمان وسعاد بوعبوش وسمية عليان وأم الخير سلاطني
ومن مزايا هذا البرنامج الذي قرّرت السلطات العليا الاستمرار في اعتماده، توفير وحدات سكنية بمساحات متنوعة تلبي احتياجات الأسر الجزائرية، وفق نظام دفع ميسّر يتيح السداد عبر أقساط شهرية لمدة 25 سنة بدل دفع ثمن المسكن كاملا، مع أخذ بعين الاعتبار سن ودخل المستفيد عند كل خصم من الأجر، وهذا يساعد في تخفيف العبء المالي على الأسر، ويجعل السكن أكثر إمكانية.
وأبقت الوصاية على نفس شروط التسجيل في هذا البرنامج، منها عدم الاستفادة من دعم سكني سابق من الدولة، عدم امتلاك عقارات أو أراض للبناء، دخل شهري ضمن النطاق المحدد.
ومن المتوقع أن يستفيد من برنامج “عدل 3” مئات العائلات الجزائرية بمن فيهم الشباب بعد أن كان يستثنيهم نظام التصفية بسبب عامل السن أوالوضعية الاجتماعية، ممّا سيساهم في حل مشكلة السكن وتحقيق العدالة الاجتماعية في مجال الإسكان.
ويعد برنامج “سكنات عدل 3” في نظر الكثيرين خطوة مهمة نحو تحسين الوضع السكني في الجزائر، ويمثّل أملا جديدا للعديد من الأسر الراغبة في تحقيق حلم السكن الخاص.
تنسيق دقيق وتخطيط مسبق
منذ إعلان رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون عن إطلاق برنامج “عدل 3” رسميا، شهر أكتوبر الماضي، ترأّس وزير السكن والعمران والمدينة محمد طارق بلعريبي سلسلة اجتماعات تقنية، تمّ فيها دراسة جميع الجوانب وسرد مختلف الانشغالات المتعلقة بعملية الاكتتاب في صيغة “عدل 3”، حيث تمّ ضبط رزنامة زمنية للقيام بمختلف التجارب التي من شأنها إيجاد كل الحلول الممكنة وإنجاح العملية.
وفي خطوة مهمّة لإنجاح “مشروع عدل 3” أخذت بعين الاعتبار التجارب المكتسبة من مشروعي “عدل 1” و«عدل 2”، بادرت وزارة السكن إلى مراجعة الوضعية العقارية والتحضيرات اللازمة لتوطين المشروع عبر الولايات 58، وهو ما لم تعرفه البرامج السابقة، ممّا تسبّب في تأخير انطلاق أشغال بعض المشاريع بسبب انعدام الأوعية العقارية، أو تحويلها إلى مواقع بعيدة خارج الولايات الأصلية للمستفيدين.
وقد تمّ استعراض الوضعية العقارية المتاحة والمخصصة لمشروع “عدل 3”، في اجتماع تقني ثان، أكّد فيه وزير السكن أهمية تحضير عقود الملكية لهذه الأوعية، وهو إجراء من شأنه المساهمة في تسريع إطلاق المشاريع، وتوفير السكنات للمواطنين في أقرب وقت ممكن.
كما اعتمدت وزارة السكن آلية التنسيق الدقيق مع السلطات المحلية والولاة لضمان توطين البرنامج بشكل يتناسب مع الإمكانيات المتاحة في كل ولاية، والاستمرار في البحث عن الأوعية العقارية المناسبة لضمان نجاح المشروع.
تجمّعات “عدل”.. بذرة المدن الحديثة
لجأت وزارة السكن إلى التقنيات الحديثة لإنجاز سكنات “عدل 3”، بحيث قرّرت استخدام تقنيات حديثة مثل تحديد المواقع الجغرافية (GPS) لتحديد الأوعية العقارية، وتقييم مدى ملاءمتها للمشروع.
وأكّدت المهندسة المدنية زكية علوان في تصريح لـ “الشعب”، أنّ مسؤولية اختيار الأرضيات هو عامل أساسي لإنجاز مشروع “عدل 3”، موضّحة أنه بإمكان أي خطأ في الاختيار سيكلّف صاحب المشروع أغلفة مالية ضخمة لتنفيذ دراسات خاصة في أرضيات معتلة قد تعرض البناء إلى خطر الانزلاقات والتشققات والانهيار بسبب ظواهر طبيعية، مثل تقلص وهشاشة التربة، والتي لا يتم معالجتها إلا بالتقنيات اللازمة وفقا لدراسات صحيحة وجادة ومسؤولة، الأمر الذي يستحق الاستشارة وتوسيع نطاق الاختيارات بإشراك كافة الفاعلين والمختصين، واستخدام التقنيات الحديثة للتقليل من الأخطاء والأخطار، وحصر النتائج وحماية الأغلفة المالية من التضاعف والتفاقم.
وأبرزت أنّ تجمّعات “عدل” أصبحت البذرة العمرانية التي تنمو وتشكّل المدن الحديثة في الجزائر، لذا فإنّ هذه البرامج يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الفكرة العمرانية الحديثة بكل جوانبها وكل متطلبات الحياة بإجراء دراسة معمقة واختيارات دقيقة للأرضيات ولآليات التنفيذ.
وأضافت أنّ الفكرة والتصميم المعماري تعد أساس ترسيخ القيمة التاريخية للمعمار، وخصوصية كبيرة له يجب أن لا تغفل في إعداد دفاتر الشروط، وهو ما ألحّ عليه وزير السكن خلال زيارته الأخيرة إلى ولايتي أدرار وتيميمون، حيث أمر مؤسسات الإنجاز بالتفكير في تصاميم جديدة لواجهة البنايات تأخذ بعين الاعتبار النظرة المعمارية الجميلة، حتى تبقى للأجيال القادمة والابتعاد عن النماذج المتكررة في كل ولاية.
وينتظر أن تتميّز الوحدات السكنية لـ “عدل 3” بتصميم عصري يلبي الاحتياجات الحديثة للسكان، ويأخذ بعين الاعتبار معايير الأمان والسلامة، لتوفير مستوى معيشي مريح، ضمن مجموعة من المرافق الأساسية والإضافية، تشمل الكهرباء، الماء، الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى توفير البنية التحتية اللازمة لحياة يومية مريحة.
وتتوفّر شقق “عدل” على مساحات مختلفة، حيث تقدّر مساحة الشقق ذات الثلاث غرف بـ 70 مترا مربعا، والشقق ذات الأربع غرف بـ 90 مترا مربعا.
واعتمدت وزارة السكن بناء المجمّعات السكنية الكبيرة أو الأقطاب الحضرية، وهي مبادرة تهدف إلى تخفيف الضغط على المدن الكبرى في الجزائر، وتمثل هذه المبادرة إضافة جديدة للسياسات العمرانية التي تم تطبيقها من قبل، بهدف التحكم في النمو الحضري للمدن الكبيرة.
وتشمل الأقطاب الحضرية مشاريع سكنية متنوّعة، ومرافق عامة ذات أهمية كبيرة، بالإضافة إلى البنية التحتية، وهو ما يسمح بتحقيق تنظيم عمراني محكم يوفر فرص السكن ومختلف الخدمات للمواطنين.
شراكة اقتصادية لتجهيز سكنات “عدل” بالمصاعد
ستعتمد وزارة السكن في إنجاز برنامج “عدل 3”، على نفس النهج العمراني الذي تمّ اتباعه في إنجاز برنامج “عدل 1” و«عدل 2”، الذي اعتمد أساسا على تشييد بنايات عالية ضمن أقطاب حضرية ومدن جديدة نظرا لنقص الأوعية العقارية، مثلما كشف عنه وزير السكن بلعريبي، خلال لقائه سفير الجمهورية الايطالية لدى الجزائر شهر فيفري الماضي.
واستلزم هذا الأمر وضع 7216 مصعد هوائي في أحياء صيغة البيع بالإيجار على المستوى الوطني، 1525 منها ببرنامج “عدل 1”، و5691 مصعد بالنسبة لبرنامج “عدل 2”، وهو ما سيتم اتباعه في برنامج “عدل 3”، ولهذا من الواجب البحث عن سبل للتعاون التكنولوجي والاقتصادي لإنجاز مصانع خاصة لإنتاج المصاعد، والتي لن يقتصر دورها على تركيبها في الجزائر فقط.
وقد أكّد الوزير أن إنجاز مصانع إنتاج المصاعد الهوائية بجميع لواحقها ومستلزماتها على غرار الهياكل، المحركات، البطاقات الإلكترونية الخاصة بالمصاعد، سيمكّن من تسويق المنتوج بكل أريحية، خاصة وأن الجزائر تعتزم الانطلاق في إنجاز 460 ألف وحدة سكنية بمختلف الصيغ، من بينها صيغة العمومي الايجاري، وبرنامج معتبر من صيغة البيع بالإيجار.
وشدّد على ضرورة عقد شراكة اقتصادية ثنائية بين المؤسسات المصغرة الجزائرية والمؤسسات الإيطالية، قصد الاستفادة من الخبرات التي تملكها هذه الأخيرة، خاصة وأنّ الجزائر توفّر مجالا وسوقا مفتوحة في هذا المجال.
آلية رقمية لمنع التّلاعب بالسّكنات
رفعت وزارة السكن والعمران تحدي تحقيق رقمنة القطاع على جميع الأصعدة، بما فيها عملية الاكتتاب في الصيغ السكنية التي توفرها للجزائريين بمختلف شرائحهم، وهذه العملية تمنح الكثير من الحلول، من بينها ضمان الشفافية والعدالة في التوزيع، مهما كان البرنامج السكني المنجز، وهذا ما أدخل الطمأنينة في نفوس المواطنين وعزّز ثقتهم في البرامج السكنية التي تشرف عليها الهيئات التابعة للوزارة على غرار وكالة “عدل”.
وإذا كان دعم الدولة لسكنات “عدل” وغيرها من الصيغ الأخرى يبقى قائما، فهذا لا يعني التراخي في تشديد الرقابة على المستفيدين، لمنع التلاعب والغش في السكن، وقد تمّ مؤخرا توقيع اتفاقية بين وزارة السكن والمالية، ترمي لتعزيز التعاون وتبادل البيانات والمعلومات بين القطاعين.
وأكّد وزير السكن على أهمية تعزيز الرقابة من خلال إنشاء آلية رقمية للتبادل البيني للمعلومات بصفة آنية بين قطاعي السكن والعمران والمدينة من جهة، والمالية من جهة أخرى، وهذا تحضيرا للشروع في إنجاز 460 ألف وحدة سكنية بمختلف الصيغ، المسجلة ضمن قانون المالية لسنة 2024، وكذا إطلاق برنامج البيع بالإيجار “عدل 3”، الذي أعلنه رئيس الجمهورية بمناسبة زيارته لولاية الجلفة يوم 29 أكتوبر 2023.
وشدّد على ضرورة تفعيل التعاون المشترك بين مختلف القطاعات قصد تعزيز الرقابة على طلبات السكن بمختلف الصيغ، وإعانات الدولة الموجهة لهذا الغرض، من خلال توفير جميع الوسائل المناسبة لمكافحة الغش في مجال منح السكنات وتخصيصها لمستحقيها ضمن مبدأ العدالة الاجتماعية، وهو ما تعمل الوزارة على تحقيقه من خلال العمل على تحيين وعصرنة البطاقية الوطنية للسكن التي تعد أداة أساسية لاتخاذ القرار بالنسبة للسلطات المعنية، بحيث تحصي 10 ملايين مسجل.
خبراء يؤكّدون: الجزائر اكتسبت خبرة البناء وربحت معركة الآجال
ما يزال قطاع السكن في الجزائر يحظى بالاهتمام والعناية من الدولة، فمن تطوير سياستها التمويلية للقطاع باستحداث صيغ جديدة وتطوير بعض الصيغ القديمة، إلى عصرنة المؤسسات المتدخلة في الإنتاج والإنجاز والتمويل، ما سمح بتلبية الطلب المتزايد على السكن وتحقيق مكاسب كثيرة بالرغم من بعض المعوقات، فإلى جانب القضاء على سكنات الصفيح بالعاصمة ومختلف المدن الكبرى بالبلاد، نجحت السلطات العمومية في تلبية طلبات الجزائريين على السكن، وتمكينهم من هذا الحق بفضل الدعم المالي والمرافقة من أجل ضمان مستوى معيشي يليق بهم، وهي اليوم تسعى لأن يكون النمط الجديد لبرنامج عدل 3، بهوية وطنية جزائرية خالصة وأفكار ابتكارية وإبداعية من حيث التصاميم.
يرى الكثير من الخبراء في مجال البناء، أنّ الجزائر أصبح لديها خبرة كبيرة في مجال البناء، وذلك بفضل المشاريع السكنية الكبيرة التي تمّ برمجتها خلال السنوات الأخيرة بمختلف الصيغ، حيث أكّد عبد الكريم سلمان مستشار للمؤسسات في مجال البناء والانجاز والأشغال العمومية في تصريح لـ “الشعب”، أن الجزائر ربحت معركة الآجال فبعد أن كانت عملية الإنجاز تتم في ظرف أربع أو خمس سنوات، ها هي اليوم تتم في ظرف 18 شهرا أو سنتين على أقصى تقدير، كما تحكّمت في البناء المضاد للزلازل، فبعد تجربتها مع زلزال بومرداس، اعتمدت على تطوير أدوات ومواد البناء من خلال الاستفادة من التطور في أدوات البناء وتقنياته.
الابتكار في الإنتاج المعماري بهويّة وطنية.. تحدّ قائم
حسب المتحدث يبقى التحدي اليوم هو الابتكار في الإنتاج المعماري لاسيما في التصاميم بالنسبة للسكنات والواجهات التي للأسف تشبه المراقد وتفتقد للهوية والروح، لهذا تأتي تصريحات وزير السكن والعمران والمدينة بولاية أدرار مؤخرا، في الصميم من أجل إنجاح برنامج “عدل” 3 المرتقب فتحه قريبا، مشدّدا على ضرورة الانتقال بالعمران في الجزائر إلى نسق آخر يحاكي هوية كل منطقة وبيئتها وطبيعتها ونمطها العمراني عن أجيال سابقة، وابتكار نماذج وتصاميم تراعي الموروث العمراني وتواكب التطور الحاصل للمجتمع الجزائري وتلبية الأذواق المختلفة ما يعطي واجهة جديدة للجزائر.
وأعطى سلمان أمثلة عن المناطق الشرقية التي تعرف تساقط الثلوج كثيرا، حيث بالإمكان مثلا تغطية أسقف العمارات بالقرميد على غرار النموذج الاسكندنافي أو التركي، وهو نمط عمراني كان معروفا لدى الجزائريين غير أنه اختفى، كما أنه يتناسب مع الطبيعة المناخية لهذه المناطق ويعطي واجهة جميلة جدا للعمارات، حيث أنّ الكثير من أسطح العمارات الحالية يعانون من تسربات مياه الأمطار.
وشدّد سلمان على ضرورة الاستفادة من أخطاء الماضي سيما ما تعلق بتوفر البرامج السكنية التي ستنجز مستقبلا على مختلف وسائل الراحة المجتمعية الضرورية، ما سيساهم للسكان بخلق مجتمع تشاركي من خلال توفر مختلف اللواحق الأساسية لحياة المواطن.
ويرى المستشار في مجال البناء والعمارة، أنّ تكنولوجيا البناء تطوّرت وتغيرت، والتقنيات التي كانت تستخدم سابقا تم تحيينها، وبالتالي يمكن تحويل التصاميم السابقة وفقا لمنظور ثلاثي الأبعاد وتقديم تصاميم مبتكرة فيها إبداع، خاصة وأنّ بناء العمارة اليوم بالجزائر أصبح أمرا عاديا وليس صعبا لأنّها تمتلك الخبرة الإنسانية والكفاءة، وما ينقصها هو إطلاق العنان للأفكار الإبداعية.
الاستفادة من التّطوّر التّقني والتّكنولوجي في البناء
بالمقابل اقترح سلمان التقليل من البناء بالاسمنت، والاعتماد على التقنيات الجديدة في البناء مثل البناء بالحديد على غرار ما هو معمول به في الصين ودبي مثلا، وهذا الأمر فيه اقتصاد لمواد البناء، وضمان سرعة في الإنجاز لمباني أكثر جمالا وأمنا، لأنّ البناء بالحديد يكون أخف على الأرضية من الاسمنت، وفي حال حدوث زلازل تكون الخسائر محدودة لا مدمّرة، مشيرا إلى أنّ هذا النموذج يحتاج الى تكنولوجيا كبيرة وهناك نماذج مبنية بهذه الطريقة على غرار وزارة التجارة مثلا، ما يعطي واجهة جميلة للبلاد.
وأوضح أنّ المهندسين المعماريّين الجزائريّين مطالبين بالانفتاح على التجارب الخارجية من أجل تطوير مهاراتهم، وتنمية القدرة على الابتكار واكتساب خبرات أكبر في مجالهم سواء من خلال التكوين أو عقد شراكات للاستفادة من تجارب دول رائدة في هذا المجال على غرار تركيا، الصين، سواء من حيث سرعة الإنجاز أو التقنيات، وعدم الاتكال في هذا الأمر على الدولة، حيث يمكن لمختلف مكاتب الدراسات القيام بهذا الدور.
من جهة أخرى، أثار سلمان نقطة قال يجب معالجتها حتى تتواكب مع تتطور البرامج السكنية المبرمجة، لاسيما الأشغال العمومية العامة، سواء تعلق الأمر بإنجاز الطرقات أو شبكات وقنوات التطهير بما فيها بالوعات مياه الأمطار التي يجب أن تحترم في إنجازها المعايير المعمول بها في هذا الخصوص من أجل ضمان أمن ونجاعة البنى التحتية المنجزة والحفاظ على استدامة السكنات.
اقتراح تصاميم خلّاقة دون الخوف من الإنجاز
بدوره اعتبر د – سعيد هشام بوخلخال رئيس جمعية الدكتور محمد سايحي لمهندسي البناء بالجلفة، أنّ امتعاض وزير السكن من التصميم المعماري الحالي يعكس نية الدولة بالقفز بهذه المهنة قفزة معتبرة لتساهم في بناء الجزائر الجديدة، غير أنّ التحدي المطروح هو كيفية التخلص من التشوه البصري الحادث والمتكرر في المشاريع، وهذا راجع للتصميمات المعمارية التقليدية والبدائية وكأن المسابقات المعمارية شكلية فقط.
وأوضح د – بوخلخال في تصريح لـ “الشعب”، أنّه يمكن تشخيص أسباب غياب هوية وشخصية معمارية للمشاريع السابقة في تجنب تبني تصاميم عصرية مخافة العجز عن تنفيذها، وهذا راجع لغياب التنسيق بين مختلف المتدخلين في المشروع انطلاقا من المعماري مرورا بالمهندس المدني وصولا لمؤسسة الأشغال، وهذا يؤثّر قطعا على نوعية المشروع مثلما ذكر.
من جهة أخرى، يرى رئيس جمعية مهندسي البناء أن غياب إدخال التقنيات الحديثة في البناء من شأنه التأثير كذلك على جودة البناء، وفي مقدمة هذه التقنيات الحديثة هو نظام
BIM (Building Information management) لتنفيذ ومتابعة المشاريع، وهو نظام متكامل يجمع بين مختلف المهندسين المتدخلين في عملية انجاز المشاريع وينسق بينهم وله القابلية للتنبؤ بالأخطاء والتداخلات في مختلف مراحل البناء وإتقان وتفعيل.
وحسب المتحدّث، فإنّ مثل هذا النظام يمنح شجاعة لاقتراح تصاميم معمارية، خلاقة دون الخوف من الإنجاز، وعليه وجب على الهيئات العمومية تحيين دفاتر الشروط وفق هذا التصور والتخلص من مكاتب الدراسات المعروفة بمكاتب دراسات “الفلاش ديسك”، والتي تعد أحد الحلول الفعالة للقفز بالواجهة المعمارية للبلاد.
وضع دفاتر شروط أكثر مرونة لإتاحة مساحة للإبداع
من جهته، قال المهندس في تهيئة الإقليم فرع تهيئة حضرية ونائب رئيس الجمعية “د – محمد سايحي” لمهندسي البناء بالجلفة علي هبري، أنّ رؤية وزير القطاع تتضمّن تشريح لواقع وآفاق السكن في الجزائر، بعد أن كانوا لسنوات كمهندسين وجمعويين يطالبون بإحداث تغييرات جوهرية في الإنتاج المعماري ككل، لاسيما أن بعض الإنتاج المعماري يفتقد للهوية والروح والإبداع والاستدامة في الكثير من التجهيزات بمختلف أنواعها.
وأوضح هبري في تصريح لـ “الشعب”، أنّ التّنوّع في برامج السكن يظهر إمكانيات ومجهودات الدولة في نهج إستراتيجية قوية ومتنوعة في مجال السكن والإسكان بشكل يراعي الفروق الاجتماعية، وعليه وجب على الجهات المركزية العمل بالموازاة مع كل الإمكانيات المتاحة على مراجعة السياسات السكنية، وفق مؤشرات حقيقية بعيدة عن النسب والكم، والتفكير في خلق مجالات حضرية بأبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية، مع مراعاة عوامل الجودة والديمومة.
وحسب المتحدث، ليتحقّق ذلك يجب وضع دفاتر شروط أكثر مرونة تتيح للمهندس المعماري مساحة من الإبداع وطرح أفكار جديدة وبلمسة فنية، ممّا يتيح لهم التفكير خارج الصندوق، وتنظيم مهام المتدخلين في عملية الدراسة والإنجاز، وتحديد مهام كل مهندس بدقة مع الفصل بينهم في الصلاحيات، والتركيز على التكامل بين عملهم كل في اختصاصه خاصة المهندس المدني والمعماري ومهندس التهيئة العمرانية، كما هو موجود في كل دول العالم.
يضاف إلى ذلك توفير اعتمادات مالية مناسبة لتنفيذ الأفكار الإبداعية، ورسكلة مؤسسات الإنجاز لتتوافق مع الرؤية الجديدة للأفكار الإبداعية الجديدة، وحثّها على الرسكلة المستمرة للعمال ولِم لا تحت إشراف مؤسسات التكوين المهني والجامعات ومكاتب الدراسات.
ويرى هبري أنّ خلق طابع معماري وطني واحد يراعي الهوية الوطنية، يستدعي الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل منطقة وتنوعها الثقافي، ويكون ذلك بعقد لقاءات تشاورية يساهم فيها كل المتدخلين في المجال وتكون مخرجاتها ملزمة.
في المقابل، اقترح المهندس في تهيئة الإقليم الابتعاد عن طريقة بناء السكنات الحالية، بحيث سجّلت في الكثير من المشاريع سكنات بواجهة واحدة، وبمجال حركة داخلي وخارجي قليل وغرف صغيرة، كمثال نجد “F3” بمساحة 70 مترا مربعا وجب الرفع من مساحاتها، خاصة مساحة الغرف ومجال الحركة الداخلي والخارجي، مع زيادة المساحة في الهضاب والجنوب لتوفر العقار، وقلة التكاليف نسبيا عن الشمال.
الدكتور نصر الدين ساري: سياسة الدّولة حسّنت المؤشّرات الكلية لشغل السّكن
اعتبر الدكتور نصر الدين ساري رئيس فريق بحث بمخبر الشراكة والاستثمار بجامعة سطيف 1 وأستاذ محاضر بجامعة تبسة، قطاع السكن أحد أهم القطاعات التي أولتها الدولة اهتماما بالغا، نظرا لأهميته الاجتماعية والاقتصادية، مؤكّدا أنّ الاستراتيجية المعتمدة في قطاع السكن، سمحت بتحسين المؤشرات الكلية لشغل السكن خلال آخر سنتين مقارنة بالسنوات الماضية، بفضل سياسة التوزيع المعتمدة وما رافقها من اعتماد صيغ مختلفة حسب الفئات ومداخيل الأفراد.
أكّد الدكتور ساري في تصريح لـ “الشعب”، أنّ سياسة الإسكان في الجزائر، ساهمت في السنوات الأخيرة بشكل كبير في تحسين المستوى العام للحظائر السكنية في مختلف الولايات، وكذلك تثبيت السكان في العديد من المناطق باعتماد صيغ متنوعة مدعمة من طرف الدولة.
إنّ هذه الصيغ السكنية الموزعة بمختلف إحصائياتها والفئات المستفيدة منها، تعتبر حسب ساري، ضرورة ملحّة لابد من دعمها من طرف الدولة لتحقيق أبعاد التنمية المستدامة في جانبها الاجتماعي والاقتصادي، فالسكن اللائق يعتبر شرطا من شروط الحياة الكريمة، ومن دونه يصعب تأمين ضرورات أخرى، كالغذاء، المياه، الملبس، الرعاية الطبية، الحماية المادية، التعليم والعمل، لهذا عكفت الدولة منذ العشرية الأخيرة على تبني نهج اجتماعي في مجال الإسكان، وهو ما تشير إليه مختلف الإحصائيات في مجال توزيع السكن الاجتماعي والسكنات المدعمة الأخرى.
أكّد ساري أنّ قطاع السكن هو قطاع مستمر الحيوية ويعتبر أصل كل نشاط، وبذلك لا يمكن وضع أي برنامج لقطاع معين دون أخذه بعين الاعتبار، فهو يعتبر مهـما جدا في الميدان الاجتماعي والاقتصادي، ويتوافق مع محيط المجتمع ليترجم بذلك الطلب في هياكله من حيث الطبيعة والمقاييس التقنية اللازمة.
وذكر المتحدّث أنّ الأبعاد الاقتصادية لسياسة الإسكان التي انتهجتها الجزائر في مختلف الولايات، تتمثّل أساسا في تثبيت السكان في مناطق نشاطهم من خلال الدعم المالي المباشر الموجه للبناءات الريفية أو الجزئي للاستفادة من سكن البيع بالإيجاري، أو الترقوي العمومي المدعم، وهذا ما ساهم في خلق حركية اقتصادية ولو بسيطة في العديد من المناطق التي كانت حتى وقت قريب مناطق معزولة، وكذلك خلق حركية تجارية نشطة حول مناطق التجمعات السكنية الجديدة، الأمر الذي يساهم في استحداث مناصب عمل مؤقتة ودائمة، بالإضافة إلى توفير مناصب عمل في قطاعات البناء، وتحفيز الطلب الفعال الاستثماري من خلال إطلاق برامج سكنية كبرى في مختلف الولايات، وترقية الحظائر السكنية والقضاء على السكنات الهشة، ما يعزّز من مستويات التنمية البشرية.
أستاذ علم الاجتماع حسين زبيري: الجزائر.. تجربة نادرة في توفير السّكن لمختلف الفئات
أكّد أستاذ التعليم العالي المتخصص في علم الاجتماع البروفيسور حسين زبيري، أنّ النقلة النوعية التي عرفتها الجزائر في مجال السكن والإسكان تبقى تجربة نادرة ولم تعرفها الكثير من البلدان.
قال البروفيسور زبيري من جامعة زيان عاشور – ولاية الجلفة، في تصريحه لـ “الشعب”، “إنّ النّقلة النوعية التي عرفتها الجزائر في مجال السكن والإسكان تبقى تجربة نادرة لم تعرفها العديد من البلدان”، موضّحا أن ذلك يظهر جليا من خلال ملايين الوحدات السكنية المنجزة بأنماط مختلفة، منها نمط السكنات الاجتماعية بأنواعها الأكثر حضورا بين البرامج السكنية المدعمة من طرف الدولة، وهو الشكل الذي اعتمدت عليه الدولة بشكل رئيسي، مراعاة للقدرة الشرائية للمواطن الجزائري، الذي لا تسمح له أجرته باقتناء سكن لائق.
وأكّد زبيري أنّ الجهود التي تبذلها الدولة في سبيل العناية بملف السكن، تأكيد صريح على طابعها الاجتماعي، وتجسيد فعلي لمبدأ الدولة الراعية لمصالح أفرادها، كل لما يسهم في تنمية المجتمع، وتخفيف الغبن على الفئات المحرومة وذات الدخل الضعيف، لافتا أن نقل المواطن من السكنات الهشة إلى سكنات لائقة، يطور من ظروف الحياة، لاسيما في حال إرفاق الأحياء السكنية الجديدة بمرافق عامة كالعيادات والمدارس والإدارات المحلية، الأمر الذي يعطي انطباعات إيجابية للحياة الجديدة، ويوفّر ظروفا اجتماعية معيشية متكاملة.
ووصف البروفيسور زبيري، المسكن بالوحدة الاجتماعية التي لا ينفصل فيها البناء عن الأُسرة التي تقيم فيه، حسب تحليل علم الاجتماع، فالسكن هو الوسط الأساسي والرئيس للحياة الإنسانية الاجتماعية، حيث يأخذ المسكن اسمه من وظيفته الأساسية وهي تحقيق السكينة لساكنيه، لافتا إلى أن للسكن تأثير واضح في تركيبة ساكنيه، من الناحية الثقافية والاجتماعية والنفسية، التي تحدد اتجاهاتهم ومواقفهم وحتى سلوكياتهم، ولا يمكن فهم الأدوار التي يؤديها المسكن، إلا من خلال الأبعاد والآثار الاجتماعية والاقتصادية والإيكولوجية والثقافية، حيث يشكّل المسكن وسطاً بيئياً يلعب دوراً ملحوظاً في تغيير العديد من القيم الأسرية في حياة الأفراد داخل المجتمع.
وأكّد المتحدّث أنّ اهتمام الدولة الجزائرية بالمشكلات المجتمعية – أهمها مشكلة السكن – يعني الاهتمام بأهم مكون من مكونات المجتمع وهو الإنسان، الذي يعتبر محور أي مشروع تنموي حضاري، يرجى من ورائه تحقيق الرقي والاستقرار والتطلع لمستقبل أكثر ازدهارا، موضّحا أنّ الدولة الجزائرية قد تنبّهت لهذا العجز الذي كانت تعاني منه سابقا في مجال السكن، وتسبّب في بروز ظواهر سلبية اقترنت بظهور الأحياء غير المخططة والسكنات الهشة، ارتبطت بها مظاهر الانحراف.
ودعا البروفيسور زبيري إلى أن تأخذ عمليات توزيع السكنات، بعين الاعتبار، البعد الاجتماعي والاقتصادي، بإشراك خبراء علم الاجتماع.